تمتلك الصحافة المصرية الرائدة تاريخا طويلا يضعها في المقدمة بين نظيراتها في دول المنطقة وهو أمر يلزمها بأن تظل دائما في موقعها الطبيعي والطليعي, لقد عرفت مصر اول صحيفة دورية مع بدايات القرن التاسع عشر وساعد المناخ الفكري والثقافي في مصر الليبرالية ـ خصوصا ـ علي اجتذاب العناصر المتميزة والراغبة في دخول هذا الميدان من الأقطار العربية الأخري وفي مقدمتها دول الشام الكبير, وارتبطت أسماء مثل تقلا وزيدان واليوسف وغيرهم بالنهضة الصحفية في مصر الحديثة, كما لعبت تلك الصحافة دورا بارزا في حركة التحرير الوطني والدفاع عن الحريات والمحافظة علي الحقوق واحترام ارادة الشعب والتعبير عنها, كذلك تمتلك الصحافة المصرية رصيدا كبيرا من المعارك القومية والفكرية التي خاضتها علي امتداد القرنين الماضيين دفاعا عن المباديء التي آمنت بها والأفكار التي دافعت عنها والحريات التي ازدهرت في ظلها, ولعلي هنا أقدم أفكاري المتصلة بهذا الموضوع من خلال النقاط التالية:
أولا: لقد قالوا إن لكل زمان آية وآية هذا الزمان الصحافة وهذا قول مقبول في مجمله لأن الصحافة هي أداة إعلامية موثقة تظل شاهدا علي العصر وتبقي في ضمير الأجيال المتعاقبة ومازالت الصحافة المصرية حتي الآن صاحبة ريادة وسيادة في المنطقة العربية رغم ما طرأ عليها من تطورات بعضها إيجابي وبعضها سلبي, وما واجهته من مشكلات بعضها تغلبت عليه والبعض الآخر مازال كالمرض المزمن يقبع في جسدها.
ثانيا: لقد قالوا أيضا ان الصحافة هي السلطة الرابعة واعتبروها استكمالا للسلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية وهو أمر أصبح مستقرا في النظم السياسية المختلفة في عالمنا المعاصر, ولقد تمكنت الصحافة من خلال هذا المفهوم من أن تطرح دورها الفاعل كجهاز رقابي يعبر عن وجدان الجماهير وضمير الشعب كما مارست دورا أخلاقيا مشهودا في فترات متعاقبة من القرنين الماضيين.
ثالثا: لقد لعبت الصحافة السياسية ـ حكومية وحزبية ـ دورا نشيطا علي مسرح الاحداث وكانت مركز رصد مستمر لكل التفاعلات الاجتماعية والثقافية في عصرها, ومازلنا نري حتي الآن أن متابعتها والمضي علي طريقها يسجلان معا ذاكرة الوطن فهي بحق كما تسميها الأهرام ديوان الحياة المعاصرة.
رابعا: إن أخلاقيات العمل الصحفي وميثاق الشرف المهني ـ المكتوب أو غير المكتوب ـ هما التزام وطني وإنساني بالدرجة الأولي ولذلك فإنه يزعجني كثيرا أن أري أن الخروج عليهما أصبح أمرا مألوفا وأن تجاوزهما لا يثير إلا بعض عبارات التعليق الهامشي المسطح بينما الأصل هو أن تكون هناك ضوابط أخلاقية وحدود مهنية بحيث لا يكون في ذلك إخلال بالحرية, لقد قالوا قديما أيضا إذا كانت الحاجة هي أم الاختراع فإن الحرية هي أم الابداع.
خامسا: إن طغيان العوامل الشخصية التي تطفو علي السطح أحيانا قد يدفع الصحفي الي تلوين الحقيقة ومغالطة الواقع وتزييف الرأي وهي أمور تضرب قيمة الصحافة في مقتل وتنال من هيبتها وتضعف من مكانتها, وفي ظني ان ذلك قد لايصدر عن سوء قصد فقط ولكنه قد يصدر أيضا عن ضعف مهني أو نتيجة غياب الحرفية التي يحتاجها العمل الصحفي الدقيق فكثيرا ما نشاهد عنوانا صارخا بينما المضمون فارغ وقد نري محاولة لطرح الآراء التحكمية التي تستند الي المعلومات غير السليمة, وتلك هي الأمراض المزمنة التي تعاني منها صاحبة الجلالة.
سادسا: إن الإثارة الصحفية أمر مقبول ولكن في إطار إنساني وأخلاقي لا يؤدي الي إخلال بالقيم المهنية والقواعد المتوارثة, لذلك فإن لهاث الكاتب او الصحفي وراء الأخبار المثيرة أو الشطحات العابرة هو أمر يحتاج الي دراسة ومراجعة.
سابعا: إننا نؤكد ان الاختلاف في الرأي ظاهرة صحية, كما أن التعددية حقيقة بشرية لكن ذلك يجب أن يستند الي مصداقية الخبر ودقة الرواية, فالاختلاف في الرأي اجتهاد مقبول ولكن الاختلاف في المعلومة وتطويع الخبر ليخدم غرضا بذاته يعتبر خروجا مباشرا عن النص وإساءة واضحة لمبدأ الشفافية وانتقاصا من درجة المصداقية مهما زادت معدلات التوزيع لأنها مؤشر لارتفاع درجة الإثارة فقط ولكنها ليست بالضرورة مؤشرا لقيمة الصحيفة ودرجة التزامها بقضايا المجتمع ومشكلات الوطن.
ثامنا: لقد ظهرت في الآونة الأخيرة موجة متصاعدة من الإثارة الصحفية في الحياة السياسية المصرية وأبادر فأسجل أن لها جانبها الإيجابي المتصل باتساع رقعة الحرية وتأكيد الظاهرة الديمقراطية, فأنا مع زيادة المتاح من الحريات لأن ذلك هو المؤشر الحقيقي للتحول السلمي نحو الإصلاح المطلوب, ولكنني في الوقت ذاته لا أخفي قلقي من سقوط بعض الأقلام في مستنقع الأكاذيب المختلفة والافتراءات الظالمة والفرقعات التي لا تعتمد علي أساس, فضلا عن الهبوط الي لغة التجريح والخوض في الحياة الشخصية للناس دون مبرر.
تاسعا: إن زيادة عدد الصحف ظاهرة إيجابية بكل المقاييس وهي تعبير عن الاستثمار المطلوب لمناخ الحرية والانطلاق من روح التعددية مع الرغبة في توسيع دائرة المشاركة السياسية وفتح نوافذ جديدة امام الرأي العام وهي تحتاج دائما الي تفاعل بين الكاتب والقاريء بحيث يكون الولاء الأول والأخير له.
عاشرا: إن الاجيال الجديدة من الصحفيين المصريين فيها عناصر واعدة تلفت الانتباه ولكن الخبرة الصحفية والتمرس المهني هما أمران ضروريان لمن يريدون المضي علي طريق التابعي والأخوين أمين وهيكل وغيرهم من أعلام الصحافة المصرية ورموزها, كذلك فإن الصحافة الحزبية تلعب دورا ملموسا قد يفوق قدرات الحزب الذي تمثله وهو ما يؤكد أننا نعيش بحق عصر الصحافة باعتبارها طرفا فاعلا في الحياة السياسية المعاصرة.
.. إن هذه الملاحظات التي سقناها إنما تدل علي أن الصحافة المصرية ـ برغم كل المعوقات والسلبيات ـ مازالت مؤثرة لا في مصر وحدها ولكن ربما في المنطقة كلها ولقد استمعت الي كثير من الأشقاء العرب وهم يشيدون بمساحة الحرية غير المسبوقة في الصحافة المصرية وأثر ذلك علي مستقبل الحياة السياسية فيها, وأنا ممن يظنون أن ما تحصل عليه الشعوب لا تفقده بل يتحول الي حق مكتسب لا رجوع فيه لذلك فإنني كلما قرأت إحدي الصحف الجديدة فإنه ينتابني شعور مزدوج فهناك سعادة وارتياح لحجم الحرية المتاح, كما أن هناك أيضا قلقا من بعض التجاوزات الذي تبدو فيها أحيانا رائحة تصفية الحسابات والانطلاق من مشاعر شخصية وليس من أسباب موضوعية ولكنني أعود فأقول في النهاية إن ثمن الحرية دائما مرتفع ولن يصلح من ممارستها الا مزيد منها والذين يتصورون أن حرية الصحافة في مصر ظاهرة مؤقتة واهمون فلقد انطلق قطار الصحافة الحرة ولن يتوقف أبدا.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2005/9/27/WRIT1.HTM