تناثرت اشلاء الابرياء واتسعت بقع الدماء علي ارض مدينة شرم الشيخ وبدأت مصر الصامدة تواجه جرائم الإرهاب الذي عانت منه كثيرا مثلما حدث للعاصمة البريطانية التي كنت أعيش فيها مع مطلع السبعينيات من القرن الماضي, حيث كانت الدنيا مختلفة, الأمن يسود أرجاء المدينة برغم بعض التفجيرات المحدودة التي كان يقوم بها جيش التحرير الأيرلندي ومن بينها تفجير برج لندن الشهير, ولم يكن تعبير الإرهاب مستخدما حتي عندما بدأت المطارات إجراءات الأمن وتفتيش الركاب وحقائبهم لمواجهة ظاهرة خطف الطائرات التي كانت قد بدأت في الانتشار
بفعل بعض المنظمات الفلسطينية المتشددة ولكن ظاهرة العنف العشوائي ازدادت بعد ذلك واكتسبت أبعادا معقدة تطرح تساؤلات حول مشروعية استهداف الآمنين وترويع المدنيين وخلق العقبات بدءا من الحصول علي التأشيرات وصولا إلي إجراءات المطارات علي نحو تضاءل معه حجم حرية الأفراد, والذي يهمني في هذه المناسبة هو أن افتح باب الحوار مع كل من يهمه الأمر بالإجابة عن السؤال الأساسي في هذا السياق وهو الذي يدور حول حق صاحب القضية ـ أية قضية ـ في اتخاذ وسائل إرهابية للحصول علي حقه المفقود, ولعلي أستأذن القاريء هنا في عملية عصف ذهني قصير تقوم علي النقاط التالية:
أولا:ـ إن مشروعية الهدف لاتبرر استخدام الوسائل المرفوضة إنسانية فالتعميم في التعامل مع الطرف الآخر هو في حد ذاته جريمة من نوع جديد لأنها تتخذ من الغاية المقبولة ذريعة لاستخدام وسائل مرفوضة, أي أنها لاتقترب فقط من الطرح المكيافيللي بل تتجاوز ذلك إلي ما تمارسه من عنف وما تسقطه من ضحايا.
ثانيا:ـ إن الإرهاب قد ولد في ظل غياب تكافؤ القوي فالقوة الكاسحة أمام القوة المحدودة تدفع الأخيرة إلي تبني أساليب خفية تجعلها تمارس رد الفعل في الظلام وبطريقة عشوائية فالإرهاب في حقيقته ـ وبغض النظر عن الدوافع والغايات ـ هو سلاح الضعفاء ووسيلة المقهورين وأنا لا أقول ذلك تعاطفا معه بل تصويرا حقيقيا للمعادلة المضطربة بين من يملكون القوة ومن يطالبون بالحق أو يتوهمون ذلك.
ثالثا:ـ إن الإرهاب ليس ظاهرة جديدة ولكنه ظاهرة قديمة قدم الحياة والإنسان, عرفته المجتمعات البشرية منذ العصور الأولي عندما كان العدوان علي النفس وسلب الممتلكات ظاهرة همجية سبقت الحضارات وسمحت لشريعة الغاب ومنطق القوة أن تكون لهما السيادة دون غيرهما, كذلك فإن تاريخ الحضارات والديانات قد عرف الظواهر الإرهابية في مراحل مختلفة من تطوره فالإرهاب بإيجاز هو عدوان عشوائي علي الأرواح والممتلكات, وهو ايضا عملية استهداف طائشة تسلب الأمن وتنشر الرعب.
رابعا:ـ إن الإرهاب قد بدأ يغتال استقرار الأمم وأمن الشعوب حتي لم يعد في مقدور أحد أن يقبل الغاية إذا كان الإرهاب وسيلة تحقيقها, ولقد ظلم هذا الخلط أصحاب القضايا المشروعة في عصرنا ووضعها أمام تحديات بغير حدود فالقضية العادلة تعتمد علي وسائل قانونية وأساليب مقبولة.
خامسا:ـ إن معيار عدالة القضية يضيع في زحام نوعية المقاومة وفي هذه المناسبة فإنني أذكر أنني قلت في إحدي المحاضرات العامة منذ سنوات لماذا يلوم الغرب الفلسطينيين عندما يقومون بعمليات استشهادية بينما مارس الفرنسيون حق المقاومة الوطنية ضد النازي بكل الوسائل أثناء الحرب العالمية الثانية؟ وأذكر أن سفير فرنسا السابق بالقاهرة قد طلب مقابلتي لكي يقول إن المقاومة الفرنسية لم تقتل مدنيا ولم تصب طفلة في سوبر ماركت أو عجوزا في حافلة عامة, فالخلاصة إذن في باب شرعية المقاومة هي تجنب إصابة المدنيين لأن ذلك يعتبر جريمة حرب في وقت الحرب ويسمي إرهابا في وقت السلم.
.. ويبقي السؤال بعد هذه الملاحظات مطروحا ومؤداه هل من حق حركات التحرير الوطني أن تسلك من الطرق وأن تستخدم من الوسائل مايلفت النظر إلي قضاياها العادلة وغاياتها النبيلة وأهدافها القومية؟ هل يصبح من حق المقاومة الوطنية أن تخطف طائرة ركاب مدنية وتروع من فيها في ظل ظروف مأساوية تكررت كثيرا؟ وهل يصبح من حق تنظيم القاعدة أن يفجر قطارات لندن لكي ينبه إلي وجوده ويقدم بالعنف العشوائي وجهة نظره؟
وبأي حق تقتل جماعة مسلحة في العراق رئيس بعثة دولة عربية مسلمة شقيقة في ظل تبريرات عبثية وتحت مظلة إجرامية؟ وبأي منطق يضرب الإرهاب شرم الشيخ مدينة السلام حاصدا الأعناق والأرزاق؟ لقد بلغ السيل الزبي وتعقدت الحياة وتاهت المصالح في ظل فوضي الإرهاب الكئيب الذي يطل علي العالم بوجهه القبيح بين الحين والآخر لايفرق بين ثقافة أو ديانة أو جنسية, فلننظر حولنا ونري كيف أصبحت الإجراءات الأمنية قيدا علي حرية الانتقال,
فالعربي والمسلم هما محل شك مبدئي إلي أن يثبت العكس كما أصبح خلع الملابس في المطارات إجراء معتادا ورفض طلب التأشيرات تصرفا متكررا مع أن الإرهاب الإجرامي قد ولد في أحضان الاضطهاد والاستبداد وغيبة العدالة في العلاقات بين الدول فهو يبدو في النهاية كرد فعل لمظالم لحقت ببعض الشعوب وأصابت عددا من الأمم,
وأصحاب هذا التيار لايبحثون عن مبرر للإرهاب ولكنهم يربطون بين السبب والنتيجة ويرون ما رآه السيد توني بلير رئيس الوزراء البريطاني عندما صرح في يوم الخميس الدامي حين وقعت تفجيرات لندن فقال( إن الإجراءات الأمنية ليست هي الحل الوحيد للإرهاب بل إن هناك أساليب سياسية أيضا لمواجهة ذلك الخطر الداهم من خلال دراسة دوافعه ومواجهة أسبابه والتصدي لنتائجه, ولعلي اجتهد هنا فأضع أمام القاريء بعض الأساليب السياسية لعلاج داء العصر ومواجهة الإرهاب بخلاياه المركزية والعنقودية وأقدم هنا المحاور الثلاثة التالية:
(1) إن الفقر وتدني مستوي المعيشة وغياب الرؤية ونقص الثقافة هي بيئة حاضنة لتفريخ الإرهابيين لا في العالم الإسلامي وحده ولكن في كل المناطق التي تعاني من ظروف مماثلة وإذا كان الحلفاء قد فطنوا بعد الحرب العالمية الثانية إلي الأسباب الاقتصادية لها وخرجت الولايات المتحدة الأمريكية علي العالم بمشروع مارشال لإنعاش أوروبا فإننا نظن أن للإرهاب أسبابا مشابهة لتلك التي تقف وراء الحروب, وندعو إلي التركيز علي العامل الاقتصادي كأحد الدوافع للعمليات الإرهابية وقد يقول قائل إن كثيرا من الإرهابيين قد جاءوا من بلاد غنية ولم يكونوا من الفقراء وهنا نقول إن الفقر قد لايكون العامل الوحيد ولكنه أهم العوامل بالتأكيد.
(2) يعتبر التخلف السياسي واحدا من مكونات المناخ الذي ينمو فيه الإرهاب ويزدهر فغيبة الديمقراطية ونقص الحريات وضعف المشاركة السياسية وعدم تمثيل كل القوي الموجودة في الشارع السياسي وحرمان بعضها من حقوقه السياسية هي كلها عوامل ترتبط بالدوافع الحالية للظاهرة الإرهابية, وبهذه المناسبة فإننا نعتقد أن الإصلاح السياسي والدستوري والاقتصادي والاجتماعي سوف يكون كفيلا بمحاربة الظاهرة والقضاء عليها.
(3) يبقي المحور الأخير وقد يكون أهم المحاور علي الإطلاق وأعني به سياسة الكيل بمكيالين وازدواج المعايير في العلاقات الدولية وغيبة العدالة في التعامل مع المشكلات المزمنة, وفي مقدمتها القضية الفلسطينية باعتبارها قضية المسلمين والعرب الأولي, لهذا فإن الغرب يتحمل جزءا من مسئولية انتشار العمليات الإرهابية, وعليه أن يشارك بفاعلية في دفع الأساليب السياسية لمواجهتها من خلال العمل علي تسوية النزاعات الدولية والمشكلات الإقليمية في توازن وعدالة, ولذلك فإنني أظن مخلصا أن تحول الموقف الغربي عموما والأمريكي خصوصا عن الدعم المطلق لإسرائيل سوف يكون له تأثيره الجذري في ضرب الظاهرة الإرهابية وإيقاف نموها.
.. كانت هذه محاولة للتفكير بصوت عال في واحدة من أخطر مشكلاتنا إنها تلك التي تمثل بحق داء العصر.
|