قالوا إن الدستور هو أب القوانين ورأس التشريع وهذا قول صحيح ولكن الدستور أيضا من صنع البشر ووثيقة ترتضيها الشعوب قد تكتبها كما قد تكتفي بها مدونة في أعماقها دون نص مكتوب مثل الدستور البريطاني, والنتيجة في النهاية أن تلك الوثيقة ليست مقدسة لأنها لابد أن تواكب طبيعة الحياة وتطورات العصر وأن تتماشي مع المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في حياة الأمة ولأنها تعكس ضمير الشعب ووجدانه فإن المبادئ الرئيسية التي لاتتأثر بعامل الزمن تظل ثابتة ومستقرة,وغني عن البيان أن الدول في مراحل التحول قد تحتاج أكثر إلي مراجعة دساتيرها وإجراء مواءمة بين الواقع الجديد ونصوصها القائمة ولقد عرفت مصر معني الدستور منذ أن انفتحت علي أوروبا الغربية بعد الحملة الفرنسية وترددت في كتابات الجبرتي في غموض شديد ثم في كتب رفاعة الطهطاوي بوضوح أكثر حيث تحدث عن أهمية ميثاق الشعوب أودستور الأمة التي هي مصدر السلطات,
ولكننا نظن أن أشهر التجارب الرائدة للدساتير المكتوبة في المنطقة العربية هي دستور1923 في مصر والذي احتوي علي المبادئ الأساسية التي تضمنتها الدساتير العصرية في أكثر الدول تقدما ولذلك فإن علينا أن نعتز كثيرا بذلك الدستور وماجاء فيه من مبادئ سامية وأفكارنبيلة وضعتنا أثناء وجودها في مصاف الدول ذات الدساتير المتقدمة وسمحت بحياة سياسية تميزت بقدر نسبي من الليبرالية برغم سطوة الوجود الأجنبي ودورالقصر الملكي إلا أن الفترة بين الثورتين1919 ـ1952 قد مثلت عصرالازدهار للوحدة الوطنية المصرية عندما رفض الأقباط وفي مقدمتهم عزيز ميرهم تخصيص مقاعد لهم في البرلمان أثناء الأعمال التحضيرية لذلك الدستورالعظيم واعتبرت أغلبيتهم أن ذلك مساس بوضعهم وأن في التخصيص استهانة بهم,
ذلك أن المناخ السياسي والاجتماعي السائد في ذلك الوقت كان يسمح بمثل هذاالشعور الرائع حيث ضمت مسيرة حزب الوفد المصري المسلمين والأقباط معا ضمن تيار الحركة الوطنية في علمانية ليبرالية واضحة, بل إن حركة الاخوان المسلمين التي ولدت عام1928 ـ بعد وفاة سعد زغلول بعام واحد ـ لم تكن معادية للأقباط وإن لم تكن تستريح كثيرا لشعارات الوفد وسياساته العامة, أقول ذلك كله لكي أتقدم من خلال هذه الخلفية التاريخية بالملاحظات التالية:
أولا: إن تعطيل دستور1923 في ظل حكومة اسماعيل صدقي الأولي1930 كانت عملية انقضاض من القصر الملكي علي دستور البلاد في وقت كانت شعارات الحركة الوطنية تركز علي أمرين هما الاستقلال والدستور, وبعد ثورة يوليو1952 ظهرت دساتير1956 و1964 و1971 وكلها مضت بشكل أو بآخر وبدرجات متفاوتة في إطار الشرعية الثورية, ولقد جرت مياه كثيرة في نهر الحياة المصرية خلال العقود الثلاثة الأخيرة وتغيرت فلسفة الاقتصاد الوطني وطبيعة النظام السياسي والبنية الحزبية الموجودة وأصبح من المتعين إعادة النظر في بعض بنود ذلك الدستور حتي تتواكب مع الأوضاع الجديدة والحياة السياسية في البلاد.
ثانيا: إن دستور1971 يحتوي علي مبادئ رفيعة وضمانات لاتشكيك في قيمتها إذ يكفي أنه يضم بين دفتيه بابين أحدهما عن الحريات العامة والثاني عن سيادة القانون ولكنه يتحدث في الوقت ذاته عن أوضاع لم يعد لها وجود فعلي بدءا من النظام الاشتراكي مرورا بالقطاع العام وصولا إلي مجانية التعليم, فضلا عن البنود المتعلقة بالأحزاب السياسية والعمل العام علي ضوء ما اعتري المجتمع المصري والتحولات الجذرية فيه علي امتداد العقود الثلاثة الأخيرة, وهو ما استوجب درجة عالية من المكاشفة الصريحة للربط بين نصوص الدستور وواقع الحياة العملية فكانت الأحاديث المتكررة عن ضرورة مراجعة الدستور والمواءمة بين بنوده وواقع الحال.
ثالثا: إننا ندرك حساسيات العبث بالدساتير ونعلم جيدا أن ثبات النص سبب مهم لاستقرار الأوضاع كما أننا ندرك الحساسيات المرتبطة ببعض النصوص الاستهلالية التي تتحدث عن هوية الدولة وفلسفة نظامها لكننا ندرك في الوقت ذاته أن ترك الحال علي ما هوعليه لايخدم قضية التطوربل قد يعوقها وينال منها ولو أخذنا بحسابات المكسب والخسارة لوجدنا أن التجديد الفكري لابد أن يتحول إلي تشريعات جديدة تستمد قوتها من نصوص دستورية واضحة وصريحة.
رابعا: إن الازدواجية الملحوظة بين النص الدستوري والواقع الفعلي تشير الي حالة من حالات الشيزوفرانيا السياسية وتجعل الإصلاح قضية عبثية إذ لايمكن أن نضع بارادتنا قيودا علي حركتنا بدعوي قدسية النص وهوليس كذلك. فالدساتير كما قلنا من صنع البشر وتعبير عن إرادة الشعوب وانعكاس لأوضاع قائمة.
خامسا: إن السماح بالتناقض بين الدستور وواقع الحال هواعتراف ضمني بالخروج عليه والابتعاد عنه فجمود الدساتير يعني تلقائيا انعدام احترامها والسماح بالاختلاف معها وهذه ظاهرة تعبر عن عوارحقيقي وتجسد مهزلة من يقولون مالايفعلون ويفعلون مالايقولون.
.. هذه ملاحظات خمس أردنا أن نقول من خلالها إن الحديث عن الإصلاح الدستوري يمثل بالضرورة البداية الصحيحة لعملية الإصلاح كله إذ ان الإصلاح في حد ذاته هو عملية مراجعة تدريجية لتحسين نوعية الحياة والارتقاء بالعنصرالبشري وتعزيز امكانات التقدم في ظل التطور العصري الذي لايمكن أن نعيش في عزلة عنه أونبتعد عن تأثيراته, وعندما استخدم رئيس مصر صلاحياته وفقا للمادة189 من الدستور بأن طلب من البرلمان بمجلسيه البدء في دراسة مقترحات تعديل تلك المادة الحاكمة وطرح ذلك التعديل علي الاستفتاء الشعبي وفقا لما هو معمول به في هذه الحالات فإن الرئيس قد فتح بوابة العصر أمام الديمقراطية المصرية لأنه بدأ بأكثر مواد الدستور حساسية وأكثرها ارتباطا بشخص الرئيس وكيفية وصوله إلي السلطة
ولكن لأنه كان يري من بعيد ملامح المستقبل القادم وحتمية الإصلاح المطلوب لذلك فإننا نظن أن قرارالرئيس في هذا الشأن هو أخطر قراراته في السنوات الأخيرة علي الإطلاق وهو تعبيرعن عملية كسرالجمود ومراجعة النصوص أمام تغير الواقع واستجابة لمقتضيات الظروف الجديدة التي لم تكن قائمة عندما وضع النص في صورته القائمة, ولاشك أن تعديل المادة76 سوف تتداعي معه عملية تحول كبير في الحياة السياسية المصرية
وهي في ظني تأكيد حقيقي للشرعية الدستورية وضمان للاستقرار في المستقبل خصوصا أنها تتعلق برئاسة الدولة وتتعامل مع أكثر المناصب خطورة علي الإطلاق وأشدها تأثيرا خصوصا في ظل الصلاحيات الواسعة لرئيس الجمهورية في بلادنا التي هي أقرب الي النظام الرئاسي منها إلي النظام البرلماني, ومع ذلك كله فإنه يجب أن نضع في الاعتبار وفي الوقت ذاته أن الظروف الدولية والاقليمية المحيطة بنا لم تتغير لذلك فإن أسلوب المهاترة ومنطق المضاربة عند تعديل هذه المادة لايبدو متناسبا مع خطورة القرار بشأنها فالمطلوب أن تكون هناك شروط معقولة تجعل التعددية في الترشيح أمرا ممكنا ومتاحا وفقا لضوابط يرتضيها عقل الأمة علي نحو يحمي وحدتها الوطنية وأمنها القومي ومصالحها العليا, إنني علي يقين من أن الإصلاح الدستوري هو إصلاح لضمير المجتمع ووجدان الشعب وتعبير عن مكانة الوثيقة الدستورية وأهميتها, فالاصلاح الاجتماعي والسياسي والاقتصادي يحتاج إلي نصوص دستورية تعزز مسيرة ذلك الإصلاح وتدافع عنها وترتبط بها,
إن جزءا كبيرا من وجهة نظر المعارضة المصرية في الفترة الأخيرة إنما يعتمد علي تناولها لانصوص في إطار المناخ السائد ـ ومعهم في ذلك بعض الحق ـ ولكن يجب أن يكون القياس علي مستقبل نتطلع إليه, فيه من المتغيرات الايجابية والتحولات السلمية مايرفع عنهم محنة الشك التاريخية, إنني أعبر في النهاية عن روح التفاؤل الحذر التي تدفعني إلي القول بأن الإصلاح الدستوري هو بداية الطريق.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2005/5/24/WRIT1.HTM