يتواكب عام2005 مع ذكري مرور قرنين كاملين علي وصول محمد علي الي حكم مصر بالإرادة الشعبية يوم أن ألبسه علماء الأزهر والأعيان رداء الحكم واختاروه واليا علي مصر في إشارة واضحة الي التعبير عن الإرادة المصرية في اختيار الحاكم لأول مرة بعد أن استيقظت الروح الوطنية علي صوت مدافع نابليون بونابرت قبل ذلك بسنوات قليلة, ولا شك أن محمد علي يمثل علامة فارقة في تاريخ مصر, حيث تبدأ معه عملية التحديث ويرتبط به ميلاد مصر المعاصرة التي تعايشت مع الصراعات الدولية
وساهمت في الأحداث الإقليمية وأصبحت قوة فاعلة في جنوب المتوسط والشام والحجاز والسودان وشرق افريقيا ولقد أسعدني كثيرا أن المشروع القومي للترجمة الذي يشرف عليه المجلس الأعلي للثقافة المصرية قد أصدر منذ شهور قليلة ترجمة رائعة لكتاب الدكتورة عفاف لطفي السيد مارسو بعنوان مصر في عهد محمد علي وهي من أسرة أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد, كما أنها أستاذة ذائعة الصيت في مجال دراستها إذ هي الآن أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في جامعة كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن أمضت حقبة من تاريخها الأكاديمي في المملكة المتحدة وقد قام بترجمة الكتاب السفير عبد السميع زين الدين وراجعه السفير الدكتور السيد شلبي,
ويضم الكتاب بين دفتيه فصولا رائعة ما أحوجنا لقراءتها ومتابعة أحداثها وتحليل نتائجها بعد قرنين من الزمان من ميلاد مصر الحديثة ولقد شد انتباهي ذلك الدهاء السياسي الذي تميز به الرجل الألباني القادم من ثغر قوله الواقع حينذاك في مقدونيا, حيث ولد في نفس العام الذي ولد فيه نابليون حسبما تشير بعض الكتابات, ودعونا الآن نتأمل كيف كان محمد علي يحاول تربية أولاده, ففي رسالة بعث بها الي ابنه سعيد الذي كان يميل الي البدانة بسبب الإسراف في الطعام ـ وهو الذي أصبح بعد ذلك واليا علي مصر ـ عندما الحقه ملازما في البحرية ووضعه تحت رئاسة أمير البحر ماتوش باشا وطلب منه أن يعامله فوق ظهر السفينة بمثل ما يعامل أي ملازم آخر ودون معاملة خاصة
وقد كتب محمد علي الي ابنه رسالة وردت في الكتاب المشار إليه يقول فيها:( هل تذكر أنني قلت لك إن ملك انجلترا قد خدم في البحرية برتبة ملازم, وتدرج في الرتب مثل كل الضباط الآخرين حتي أصبح ادميرالاوبعد ذلك بقليل أصبح ملكا, فطالما كنت علي ظهر سفينة فتذكر أنك لست إلا مجرد ملازم وعليك أن تقوم بالمهام التي تكلف بها وأن تتعلم فنون البحر وعلومه وأن تطيع رؤساءك من الضباط, لقد ارسلتك الي البحرية علي أمل أن تصبح منارة للأسرة, ولقد وصلت الي أسماعي شائعات مفادها أنك لا تقف انتباها لرؤسائك وأن ماتوش باشا لا يجلس في حضرتك حتي تأذن له, ياولدي لقد أرسلتك الي البحرية طبقا للتقليد البريطاني, وطالما أنت هناك فعليك أن تتصرف كما ينبغي للملازم أن يتصرف, فأنت لست سوي ضابط صغير علي سفينة ويجب أن تعامل كذلك), كما أرسل إليه ذات مرة خطابا آخر يؤنبه فيه لأنه يخالط النوعيات السيئة من الناس,
والغريب في الأمر أن محمد علي الذي ظل أميا حتي سن السابعة والأربعين كانت رسالته الدائمة الي أبنائه تعلموا تعلموا, وكان يتابع بدقة الكتب التي يقرأونها والدروس التي حفظوها وما يجب أن يفعلوه في المستقبل, لذلك ليس غريبا أن يتمكن ذلك الرجل من وضع لبنات الدولة الحديثة في مصر لأنه كان يؤمن بالتعليم طريقا للاستنارة وسبيلا للتحرر العقلي والفكري وقيام مصر المستقلة, إنه محمد علي الذي ارتبط اسمه بأكبر إمبراطورية مصرية في العصر الحديث, وهو الرجل الذي اتسم بالحصافة واكتمال الرؤية والقدرة علي استشراف المستقبل كما بذل جهودا عمرانية في كافة المجالات, في الزراعة والري, في التعليم والبعثات, في التنظيم والصحة في الأمن والاستقرار, فقد أراد الرجل أن يستقل بمصر عن السلطنة العثمانية فكان بحاجة الي جيش قوي, ومثل هذا الجيش يحتاج الي سلاح حديث والسلاح يحتاج الي تصنيع حربي وغير حربي تقف وراءه تكنولوجيا عصره وهي لا تتحقق دون تعليم متقدم,
وهو الذي يحتاج بدوره الي بعثات في الخارج, تلك كانت تداعيات جعلت محمد علي قادرا علي الوصول الي تصور شامل لشكل مصر في ذلك الوقت, ويهمنا هنا بعد قرنين من الزمان أن نحيي ذكري ذلك الرجل الذي غير وجه الحياة في الشرق الأوسط وجعله قوة فاعلة في العلاقات الدولية منذ مطلع القرن التاسع عشر, ولنا أن نورد علي هذه التجربة الكبري عددا من الملاحظات نوجزها فيما يلي:ـ
أولا: ـ إن قيام الدولة العصرية الحديثة لابد أن تقف وراءه إرادة واعية ذات رؤية شاملة ولا يمكن أن يتحقق بالنظرات الجزئية أو الأفكار المتناثرة ولكنه يحتاج الي عقلية جماعية قادرة علي امتصاص الحقائق وتحويلها الي قرارات للمستقبل الذي يستمر ويتواصل دون انقطاع أو توقف ولقد كان محمد علي نموذجا فريدا في ذلك.
ثانيا: ـ إن الحديث المتكرر عن أن مؤسس حكم الأسرة العلوية إنما كان يطمح فقط الي تحقيق مصالحه الشخصية وتحويل مصر الي ضيعة يحكمها هو وأولاده أمر مردود عليه فالفصل بين الأهداف الشخصية والغايات الوطنية يبدو أحيانا فصلا نظريا بحتا ولا نستطيع الآن بعد مضي قرنين من الزمان علي احتفال القلعة بتنصيب محمد علي أن نتحدث فقط عن أطماعه ـ وقد كانت كثيرة ـ متناسين الخدمات الجليلة التي قدمها لمصر والتي ليس أقلها القناطر الخيرية وليس أكثرها المكانة الدولية التي صنعها لمصر, مدركين في الوقت ذاته أنه هو أيضا محمد علي صاحب مذبحة القلعة وهو أيضا الذي غدر بالحركة الوطنية ورموزها بعد فترة قصيرة من توليته حكم البلاد.
ثالثا:ـ إنني ممن يعتقدون أن حكم الأسرة العلوي لم تكن نتائجه سلبية في مجملها ففيها محمد علي الكبير المؤسس وصانع الإمبراطورية التي قلصتها معاهدة لندن عام1840, وفيها إبراهيم باشا أب العسكرية المصرية والذي دانت له إمبراطورية المشرق فحكم الشام تسع سنوات بدءا من عام1831 بعد مغامرات في الجزيرة العربية لصالح الباب العالي في وقت كانت فيه حدود الحكم المصري تبدأ من منابع النيل وتنتهي علي مشارف هضبة الأناضول, وفيها سعيد باشا أيضا الذي يسميه المؤرخون صديق الفلاح لأنه هو صاحب اللائحة السعيدية, وهي الأسرة التي انجبت اسماعيل المفتري عليه الذي حاول أن يجعل من مصر قطعة من أوروبا فأغرقها في الديون, كما أن الخديو عباس حلمي قد أبدي تعاطفا في بعض فترات حكمه مع الحركة الوطنية المصرية في محاولة لتصحيح أخطاء أبيه محمد توفيق الذي جلب الاحتلال البريطاني للبلاد, كذلك فإننا نري أن عصر فؤاد بكل جهامته المعروفة هو عصر تطوير التعليم وقيام المؤسسات الثقافية الأدبية والفنية وهو عصر ميلاد الجمعيات العلمية ونضوج المجتمع المدني.
رابعا:ـ إن تاريخ الأسرة العلوية الذي نحتفل هذا العام بالمئوية الثانية لوصول مؤسسها الي حكم مصر يجب أن نتناوله بصورة شاملة تناقش الإيجابيات والسلبيات, فيجب ألا نتوقف عند حدود القول إنها أسرة أجنبية كرست الإقطاع في الريف ووزعت الأبعاديات وتجاهلت أحيانا الروح الوطنية بل يجب أن نشير أيضا الي دورها في تحديث مصر وتطوير شكل الحكم والنهوض بالمجتمع المصري حتي قامت الثورة عام1952 في محاولة لتعديل الأوضاع وتصحيح المسار.
خامسا: ـ إن محمد علي تحديدا ـ ودون أولاده وأحفاده ـ يمثل حجر الزاوية في الانتقال من العصر المملوكي المضطرب والحكم العثماني المباشر للدخول في كيان الدولة العصرية المستقلة صاحبة الدور الفاعل في المتغيرات الدولية والإقليمية مع النصف الأول من القرن التاسع عشر.
.. لقد أردت من هذه الملاحظات ان أعطي المناسبة قدرها وأن أسجل لمحمد علي حق الاحتفاء به بعد مائتي عام من توليه معترفا بأفضاله وفي نفس الوقت مدركا خطاياه مؤكدا أنه هو الحاكم الذي خرج بالدولة من عباءة الدين وحده الي مظلة الوطن والقومية أيضا, كما أنه له من المواقف الشهيرة ما يجعله نموذجا للدهاء السياسي والرؤية الثاقبة مع الرغبة في الإصلاح والتغيير, إنه بحق محمد علي واضع الأسس التاريخية لمصر الحديثة.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2005/5/10/WRIT1.HTM