أتاحت لى فرصة عملى فى مؤسسة الرئاسة أن أرى قادةً عربًا ممن يُوصفون بالديكتاتورية والاستبداد، وأتذكر منهم ثلاثة: (صدام حسين)، و(حافظ الأسد)، و(معمر القذافى)، وقد تتفق أفكارنا عنهم وآراؤنا فيهم أو تختلف، ولكنَّ المؤكد أنها شخصيات لعبت دورًا مؤثرًا فى الحياة القومية والعمل العربى المشترك.
واليوم، أكتب عن (حافظ الأسد)، وأتذكر أول لقاءٍ لنا فى (دمشق) عندما كنت فى الوفد المرافق للرئيس الأسبق (مبارك)، والذى كان يعرف (حافظ الأسد) معرفة شخصية من عملهما المشترك فى سلاح الطيران أثناء الوحدة (المصرية-السورية)، ولقد كان الرئيس (مبارك) طيارًا شاملاً، بينما كان الرئيس (الأسد) طيارًا ليليًّا، وإن كنت لا أعرف الفارق بين الاثنين، إلا أننى أروى ما سمعت بكل دقة.
ولقد دعانا الرئيس (الأسد) إلى حوار طويل بحضور الرئيس الأسبق (مبارك) وكبار الكُتَّاب المصريين ورؤساء تحرير الصحف، ولاحظت يومها أنه يخلط بين الأستاذين (مكرم محمد أحمد) و(أنيس منصور)، وأن التفرقة بينهما غير واضحة لديه، فهو يتصور أن ما قاله أحدهما منسوب إلى الآخر، ولكننى لاحظت أن الرجل يعرف (مصر) من الداخل جيدًا، فقد عاش فيها، حتى بدأ يوجِّه أسئلة من نوع: هل مازال مترو (مصر الجديدة) يقف فى محطة (الإسعاف) فقط أم جرى امتداده إلى (ميدان التحرير)؟ ويتساءل مرة ثانية: هل انتهت المشكلة المزمنة للصرف الصحى فى منطقة (العجمى)؟ وقد لاحظت أنه يتحدث عن (مصر) بودٍّ ومحبَّةٍ، وأن ذكرياته فيها أمر لا ينساه.
ولكنَّ الحادثة الهامة التى جرت لى معه هى أننى ذهبت مع السيد (عمرو موسى) وزير الخارجية -وكنت مساعدًا له للشئون العربية والشرق والأوسط- ووصلنا إلى (دمشق) فى طائرة خاصة، فتحدد لنا موعد للقاء الرئيس السورى، وقد رأى السيد (عمرو موسى) أن يكون لقاءً منفردًا به، وهذا حقه؛ لأنه وزير للخارجية، وقد يكون حاملاً لرسالة سرية إلى الجانب الآخر، كما أن (عمرو موسى) كفاءة عالية بالمقاييس الدبلوماسية الدقيقة، ولكنه قال لى: سوف تدخل معى قليلاً للسلام على الرئيس (الأسد) وحديث قصير، ثم تتركنى معه وحدنا، فوافقت.
ودخلنا على الرئيس (الأسد) الذى تهلَّل باستقبالنا، وصافحنا وأجلس (عمرو موسى) أمامه، فقد كان من عادته أن يكون اللقاء على مقعدين متقابلين، ووجهاهما فى اتجاه واحد، كما أن جلساته كانت مشهورة بأنها تمتد لساعات طويلة حتى إن (ديك مارفى) وكيل الخارجية الأمريكية، قال لى يومًا إنه قبل أن يلتقى (حافظ الأسد) فإنه يمرُّ على دورة المياه؛ لأنه يعلم أنه سوف يطول حديث الجلسة لعدة ساعات يستمع فيها للرئيس السورى عن التاريخ السياسى والدينى للمنطقة والطوائف المختلفة فى (الشام الكبير) و(العراق)، وهو عندما يتحدث فإنه يستطرد طويلاً، وعلى من يستمع إليه أن يكون صبورًا للغاية.
رأيت الرئيس (حافظ الأسد) عدة مرات فى حياتى، وكان فيها نموذجًا للبساطة والرِّقة التى لا تقل عن بساطة (صدام) ورقَّته مع ضيوفه
وبعد أن جلسنا خمس دقائق نظر السيد (عمرو موسى) إلى الرئيس السورى، وقال له: إن (مصطفى الفقى) لديه نزلة برد و(زكام) حاد، ولكنه أصرَّ على أن يتشرَّف بلقائك، وتلك مُداعبة خبيثة من وزير الخارجية المصرى؛ لأن الرئيس السورى عندما سمع ذلك بدأ يقلق من الميكروبات المحتملة رغم أننى لم أكن مريضًا، وليس لدىَّ على الإطلاق شىء من ذلك، فآثرت الانسحاب والخروج من الحجرة والرئيس السورى يرمقنى فى سعادة؛ لأنه قد تخلَّص من مصدر للمرض فى مكتبه، خصوصًا أن ذلك كان قبل وفاته بأقل من عام، وكانت صحته مُعتلَّة ويخشى نزلات البرد والأمراض المُعدية بكل أنواعها.
وعندما انتهى الاجتماع وخرج السيد (عمرو موسى) كان مستغرقًا فى الضحك لأنه قام بهذا (المقلب) على نحو يجعل وجودى مع الرئيس السورى غير مرغوب فيه.
وبالمناسبة، فلقد رأيت الرئيس (حافظ الأسد) عدة مرات فى حياتى، وكان فيها نموذجًا للبساطة والرِّقة التى لا تقل عن بساطة (صدام) ورقَّته مع ضيوفه. أما (معمر القذافى) فقد كان نمطًا مختلفًا عن الرئيسين السابقين -العراقى والسورى- فقد كانت له شطحات واضحة وآراء غريبة وأفكار غير متوقعة، ولذلك حديث آخر عن الرجل الذى ملأ الدنيا وشغل الناس أربعين عامًا، ثم أطاحت به ثورة عانت بعدها (ليبيا) من فوضى شاملة نتمنى لها الخروج منها والاستقرار الذى يستحقه الشعب الليبى الشقيق.
أما (سوريا) فحدِّث ولا حرج عمَّا جرى لها وحدث فيها، وقد دفع (العراق) فاتورة غالية هو الآخر؛ إذ إن غياب الديمقراطية كارثة تدفع ثمنها فى النهاية الشعوب المقهورة!
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 225
تاريخ النشر: 10 مايو 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%ad%d8%a7%d9%81%d8%b8-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b3%d8%af-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%86%d9%81%d9%84%d9%88%d9%86%d8%b2%d8%a7-%d9%82%d9%8f%d8%a8%d9%8a%d9%84-%d9%84%d9%82%d8%a7%d8%a6%d9%87/