عرف المصريون انتفاضات مختلفة فى مراحل متعددة من تاريخهم الحديث وتفننوا فى إطلاق كلمة ثورة على كل منها رغم أن مدلول الثورة لا يعنى فقط تغيير النظام السياسى أو تبديل الوضع الاقتصادى ولكن له دلالة أعمق من ذلك بكثير، فالثورة لا تكتسب قيمتها إلا من شعبيتها وتعبيرها عن إرادة الغالبية العظمى ممن يعاصرون وقوع أحداثها، ولابد أن يكون لها مخرجات مختلفة لا أن تكون إعادة إنتاج للماضي، فالثورة لابد أن يكون لها هوية سياسية وفلسفة فكرية وإطار اقتصادى بحيث تكون نقلة نوعية حقيقية فى حياة الوطن وليست مجرد انفعال وقتى يؤدى إلى تغيير مفاجئ دون أن يصاحبها إصلاح مدروس له برنامج محدد يؤدى إلى نتائج واضحة، فالثورة الفرنسية ــ على سبيل المثال ــ عبرت عن الشخصية الفرنسية الحديثة أصدق تعبير وانتصرت لإرادة الشعب الفرنسى ثم انتقلت عدواها إلى كل أوروبا وانتشرت مبادئها الثلاثة فى أدبيات العمل السياسى المعاصر، ولقد عرفنا فى مصر الحديثة انتفاضات متتالية بدءًا من ثورة القاهرة الأولى والثانية ضد قوات الحملة الفرنسية وقادتها الثلاثة (نابليون) و(كليبر) و(مينو) كما انتفض الشعب المصرى بعد ذلك مرات متتالية بدءًا من هوجة (عرابي) مرورًا بالحركة المباركة عام 1952 وصولًا إلى الانتفاضتين الكبريين الأولى فى عام 2011 ضد نظام الرئيس الأسبق مبارك والثانية فى عام 2013 ضد حكم الإخوان المسلمين، وفى كل هذه الأحوال غاب عن المشهد أمر لم نتوقف عنده وأعنى به ذلك التغيير الجذرى فى أساليب التفكير وبرامج الإصلاح والشعارات السياسية المطروحة واحتشاد الشعب وراء قيادة وطنية طلبًا للاستقلال والدستور، وذلك النموذج يبدو أكثر وضوحًا فى ثورة عام 1919 التى نحتفل فى هذه الأيام بمئويتها الأولي، ونذكر أن تلك الثورة طرحت شعارات تتصل بمقاومة قوات الاحتلال البريطانى، وتأكيد الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين من أبناء مصر، فضلًا عن انطلاق شرارة تحرير المرأة المصرية بقيادة الرائدات من أمثال هدى شعراوى وصفية زغلول وغيرهما كما امتدت إلى الآداب والفنون ونشط رجال من أمثال أحمد لطفى السيد وطه حسين وعباس العقاد وسلامة موسى وعلى عبد الرازق ليضعوا خريطة جديدة لمستقبل الوطن المصري، كما انعكس الأمر ذاته على الفن فكانت أعمال النحات العبقرى محمود مختار مثالًا حيًا على مواكبة الفن أحداث الثورة التى عبر عنها سيد درويش بصوته وألحانه وتلاميذ محمد عبده الذين بشروا بالتجديد وتناغم العلم والحياة الحديثة مع مقاصد الشريعة ، لذلك أفرخت تلك الثورة الشعبية التى قادها سعد زغلول ورفاقه تحولًا هائلًا فى العقل المصرى حتى إننا نعتبر الفترة من عام 1922 إلى عام 1952 هى الفترة الليبرالية الحقيقية فى تاريخ مصر الحديثة، وقد يقول قائل كيف تمجد فترة شهدت الإقطاع الزراعى والتفاوت الفاضح فى الثروات فضلًا عن غياب العدالة الاجتماعية؟! وهنا نؤكد أن مفهوم الثورة لا يعنى بالضرورة أن تلك النقلة النوعية المرتبطة بمفهوم الإصلاح لابد أن تكون إيجابية بالكامل بل إن هناك من الزعامات الكبيرة والأسماء اللامعة من لم يستوعبوا من تلك الثورة الشعبية إلا الهتافات العالية وصيحات الدراويش وأجراس الكنائس، بينما الأمر يختلف متجاوزًا ذلك كله ليصل إلى أعماق الإنسان المصرى الذى استقبل بحذر الاستقلال الشكلى الذى تضمنه تصريح 28 فبراير عام 1922 والتحفظات الأربعة المرتبطة به لكى يؤكد المصريون من جديد أنهم لا يقنعون بما يعرض عليهم ولكنهم يتطلعون إلى تحقيق أهداف الحركة الوطنية التى ضمت المسلمين والأقباط حتى قال مكرم عبيد - ذلك الرمز المتوهج لمفهوم الوحدة الوطنية - ذات يوم (يارب المسلمين والنصارى اجعلنا جميعًا للوطن أنصارًا)، وعندما وقع الخلاف الشهير بين رئيس الوفد (مصطفى باشا النحاس) والسكرتير العام (مكرم باشا عبيد) لم تهتز معايير الثورة وخرج مع مكرم كثير من المسلمين وبقى مع النحاس معظم المسيحيين، فلم يكن الفرز السياسى دينيًا ولكنه كان سياسيًا بامتياز حتى إن مكرم عبيد - المجاهد القبطى - قد اكتسح ياسين أحمد باشا نقيب الأشراف فى دائرة قنا حيث الأغلبية المسلمة تسيطر على مرافق الحياة فيها.
إن الثورة ليست تعبيرًا مبهمًا أو كلمة غامضة بل لابد لها من مسار واضح يقوم على الالتزام بأفكار محددة واحترام مبادئ لا يمكن الخروج عنها، فالثورة إطار إصلاحى وتعبير ثقافى ومالم يتغير العقل فلا جدوى من حدوثها وإلا أصبحت مجرد عمودٍ يوميٍ فى إحدى الصحف، بينما ما نسعى إليه فى الحقيقة هو تعزيز كل الجهد المبذول وتقديم التوصيف الدقيق للأحداث خصوصًا أن الثورة غالبًا ما تأكل أبناءها، لذلك فإن الضمان الوحيد لتأكيد ثوريتها مستمد أساسًا من إمكانية التخلص من أعداء الشعب وخصوم تقدمه ودعاة الإحباط والهزيمة بين صفوفه، عندئذ تكتسب الانتفاضة الشعبية مدلول الثورة وتستطيع أن تكتسح أمامها ذلك التراكم الضخم من الشعارات البالية والأطروحات المستهلكة والأفكار العقيمة، لذلك فإننا يجب أن نتعلم الحذر عند إطلاق كلمة ثورة على كل انتفاضة شعبية أو حركة داخل الجيش، بل لابد من معايير محددة وضوابط مفهومة يمكن بها تقييم برامجها الإصلاحية ونتائجها الإيجابية شريطة إحداث تغيير جذرى وواضح فى شكل الدولة وتركيبة نظام الحكم وهياكل الإنتاج وأنماط الاستهلاك .. إن الثورة - أيها السادة - كلمة كبيرة يبدو ما جرى عام 1919 هو أقرب توصيف مصرى لها.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/697817.aspx