التنبؤ عند دراسة الظواهر الاجتماعية عملية محفوفة بالمخاطر وتزداد صعوبة وتعقيدا إذا كان الأمر يتصل بالظاهرة السياسية لأنه من العسير أن نستشرف المستقبل بوضوح أو أن نحدد مسار الأحداث بدقة لأن كل الظواهر التي تتصل بالإنسان لاتبدو يسيرة الفهم مضمونة النتائج عند تحليلها فالنفس البشرية معقدة وأصحاب القرار هم بشر في النهاية يؤثرون ويتأثرون ويستجيبون ويرفضون لذلك فإن محاولة ارتياد المستقبل لاتبدو أمرا سهلا مثلما هو الحال في العلوم التطبيقية التي يمكن أن تصل فيها دقة التنبؤات إلي مايقارب99%. ونحن ننتمي إلي أمة عريقة تحمل علي كاهلها تراثا ضخما وركاما ثقيلا من القيم والتقاليد والأفكار أيضا والأمم القديمة بهذا المعني تعاني أكثر من غيرها لأنها لاتبدأ من فراغ إذ لديها مخزون حضاري تستمد منه وعمق إنساني ترتد إليه عند اللزوم, لذلك فإن عمليات التحول تكون صعبة كما يبدو الإصلاح محاولة معقدة وعملية مركبة في ذات الوقت ولقد عاني الشرق الأوسط في العقود الأخيرة من الخلط المتعمد بين السياسة والدين ففي منطقة هي مهبط الاديان وأرض الرسالات تلونت الصراعات بلون ديني فارتدت مسوح القديسين ورفعت الصلبان لإنقاذ الأماكن المقدسة في العصور الوسطي ثم ارتدت عمامة الإسلام وادثرت بعباءته في العصور الحديثة ولاعجب فهي المنطقة التي اكتشف فيها الإسكندر الأكبر أهمية الإله آمون عند المصريين فنصب نفسه ابنا له وعاود نابليون نفس الاهتمام مع مصر المسلمة في حملته الفرنسية مع نهاية القرن الثامن عشر, وسوف نلاحظ أن تاريخ الشرق الأوسط ـــ بمفهومه الذي نعرفه نحن ــ حافل بالفرص الضائعة والمخاوف الفكرية والثقافية التي عطلت التنمية وأخرت الديمقراطية وسوف نعالج في السطور القادمة مانراه مكملا لملامح رؤيتنا المستقبلية علي النحو التالي: ـــ
أولا: ــ يجب أن نعترف بأن هذه واحدة من أصعب اللحظات في تاريخ المنطقة كلها بل وربما العالم بأسره حيث الفوضي السياسية هي القانون السائد فقد تبدلت خريطة القوي وتداخلت بشكل ملحوظ فلم يعد سهلا اكتشاف الخطوط الفاصلة بين الاتجاهات والكتل مثلما كان الأمر في سنوات الحرب الباردة, وإزاء هذه الصورة المضطربة لعالم لم يعد يعرف إلا لغة العنف ولايتعامل إلا بالسلاح اتسعت الهوة بين الأطراف وبلغت الأحقاد درجة عالية وتمكنت الكراهية من الطرفين بشكل غير مسبوق إزاء ذلك كله فإن الأمر يزداد صعوبة وتعقيدا.
ثانيا: ــ إن الإصلاح شعار نرفعه جميعا وبغير استثناء وهناك من يبعثون بإشارات ملزمة تحاول جعل الإصلاح مطلبا خارجيا بينما هو في الحقيقة ضرورة داخلية بالدرجة الأولي ومازال الإصلاح شعارا يردده الجميع ويصادر به كل طرف علي وجهة نظر الطرف الآخر, كما أن الحرية لاتزال في مهدها, أما الديمقراطية فالطريق أمامها طويل فضلا عن أن حقوق الإنسان التي كانت حلما قد أصبحت وهما بعد جرائم سجن أبوغريب والتي مارسها جنود القوة العظمي التي كان يفترض أن تكون هي منار الحريات وحصن حقوق الإنسان.
ثالثا: ــ سوف يظل المثلث الذهبي بزواياه الثلاث وهي التعليم والثقافة والتكنولوجيا هو عناصر التحكم في المستقبل وتحديد ملامح الرؤية نحوه, فالتعليم أولا هو بوابة المستقبل ولن ترتفع أمة بغير ارتفاع مستوي التعليم فيها كما أن وجود آلية رسمية محايدة للحكم علي درجة كفاءته وضمان مستواه سوف تظل هدفا تسعي إليه النظم في كل الظروف, أما الثقافة فهي سلوك الحياة اليومية ولغة الفكر السائد وروح المجتمع وتقاليده وقيمه لذلك فالتبشير بها وترشيدها والقدرة علي إعطائها جاذبية وقبولا أمام الأجيال الجديدة هي أمر مهم, أما التكنولوجيا الناتجة عن التزاوج بين العلم والصناعة فيجب أن تكون هدفا لا حياد عنه ولاخروج عليه إذ أن توطينها يحقق الاستقلال الصحيح للإرادة الوطنية.
رابعا: ــ إن المواجهة العادلة للعلاقة بين الدين والسياسة تبدو أمرا لامحيص عنه إذ إن المعادلة الصعبة والناجمة عن تسييس الدين أو تديين السياسة تبدو حتي الآن واحدة من المفاتيح المهمة للمستقبل وكل محاولة للدوران حول المشكلة والالتفاف عليها لن تجدي فتيلا إذ لابد من الوصول إلي صيغة تجعل الحضارة العربية الإسلامية نموذجا يتكيف مع روح العصر وطبيعته أما استمرار المواجهة المكتومة بينها وبين الغرب فإنها سوف تفتح بابا للتطرف والعنف والاضطراب لايمكن إغلاقه خصوصا أن الإسلام يملك شريعة ثرية وفكرا مستنيرا كما أنه لايعرف في جوهره الحقيقي التعصب بل يعطي مساحة كافية للتسامح كما يعرف التعايش المشترك والحس الإنساني الواحد.
خامسا: إن مشكلة المشكلات هي النظرة الجزئية التي ننظر بها إلي المستقبل ونتعامل من خلالها مع التفاصيل دون الإلمام بالصورة الكاملة وهذا عيب نتصف به نحن العرب إذ إننا لانتناول الأمور من منظور شامل بل نكتفي بتجزئة المواقف والاستغراق في الفرعيات مع غياب الرؤية وافتقاد الموضوعية وليست هذه مسألة نظرية أو منهجية إنما هي تمثل صلب التفكير العربي وتقف وراء الكثير من أخطائه وعثراته, فالعقل العربي يحتاج إلي إعادة برمجة تجعله عربيا وإنسانيا في نفس الوقت, وإسلاميا وعصريا في آن واحد لأنه يتعين علينا أن نعترف بحالة الازدواج التي نعاني منها والنظرة الممزقة التي نتعامل بها.
... هذه بعض ملاحظات سريعة لما نراه في الأفق القريب وإن كنا نعتقد أن هناك عناصر أخري حاكمة يتوقف عليها المضي بخطوات ثابتة نحو المستقبل فنحن نعيش في منطقة ملتهبة والعنف فيها صاحب اليد العليا وصوت العقل يبدو ضعيفا وخافتا لذلك فإننا نري أن كل محاولة لفهم المستقبل يجب أن تقوم علي أسس موضوعية تستوعب طموحات الأجيال الجديدة وتلبي احتياجاتها ولعل اخطر ما يمكن أن يواجهنا علي طريق المستقبل هو واحد من ثلاثة: ـــ
(1) أن نظل نردد شعارات الإصلاح حتي يتم تفريغها من مضمونها وتصبح بلامعني وهذا ليس أمرا جديدا علينا فقد طرقنا كل الأبواب ورفعنا جميع الشعارات وكانت المشكلة دائما أننا لانكمل المسيرة وإذا أكملناها فإننا نفعل ذلك بأداء سقيم وشطحات حمقاء ولقد لاحظت أن شعار الإصلاح العربي قد بدأ يجري إجهاضه نتيجة تداول مستمر دون مضمون واضح بل لقد وقف العرب أمام الشعار رافضين لأنه يأتيهم من الخارج بينما الأدعي والأوفق هو أن ينخرطوا في عملية الإصلاح ويواصلوا ما بدأته بعض الدول في ذلك النهج حتي يثبتوا للآخر أن الإصلاح ابن شرعي للبيئة العربية والعقل المسلم ويحرقوا عليه كل أساليب الالتفاف وحملات التشويه.
(2) إن أخطر ما يتهدد المستقبل هو الانسياق وراء الطموحات العالية دون النظر إلي الإمكانات الحقيقية خصوصا أننا أمة أساءت توظيف مواردها واستخدام إمكاناتها وأصيبت بحالة من العجز والإحباط الذي يبدو سائدا من المشرق إلي المغرب ليتنا نفعل مايفعل اليابانيون في آسيا عندما يلقنون الأجيال الجديدة أنهم لايملكون شيئا وأن بلادهم شحيحة الموارد ليس فيها إلا السمك واللؤلؤ ولكن لديها العقل الياباني الخارق الذي صنع معجزة القرن العشرين وخرج من دائرة التخلف والفقر بالاهتمام بالتصنيع وتطوير التكنولوجيا ومحاكاة التقدم, والسويسريون يفعلون نفس الشيء في أوروبا عندما يزرعون في ذهن الأجيال الجديدة أن بلادهم فقيرة الموارد ولكنها تملك كفاءة العقل البشري المتميز ومهارة اليد العاملة الدقيقة والمدربة فأين نحن من تلك الأمم التي حزمت أمرها وأحالت نقاط ضعفها إلي قوة وأسباب النقص لديها إلي دفعة نحو الأمام؟
(3) يمكن أن يصيبنا علي الجانب الآخر شعور عميق بالإحباط وتستبد بنا درجة عالية من اليأس نتيجة الاستغراق في جلد الذات والإحساس بالتهميش وافتقاد البوصلة الصحيحة للتوجه السليم فمثلما كانت الطموحات العالية مشكلة فإن الإحباطات الشديدة مشكلة أيضا ولايوجد حل لذلك إلا بالخطوات الثابتة نحو الإصلاح وفقا لإيقاع العصر دون تردد أو ارتباك فالتغيير والإصلاح والحرية والديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان كلها مفردات يصعب الإقلال منها أو الاستغناء عن إحداها.
.. إننا نتطلع إلي مستقبل نريده مخرجا من النفق المظلم وطريقا للأمل الحقيقي بدلا من ترديد الصيحات الجوفاء والعبارات المكررة التي لم تعد متوافقة مع الظروف التي تحيط بنا والتحديات التي تواجهنا والمخاطر التي تنتظرنا.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2004/6/8/WRIT1.HTM