يرتبط مفهوم الأمن بروح السلام, فالأمن لاتصنعه الجدران العازلة ولا القنابل الذرية إنما يصنعه السلام المتوازن الذي يقوم علي صفقة متكافئة ترضي الحد الأدني لكل طرف وتلبي الاحتياجات الأساسية للجميع, فألمانيا التي خرجت مقهورة من الحرب العالمية الأولي اختلقت الأسباب بعد أقل من عقدين لتبدأ حربا عالمية ثانية لأنها شعرت أن السلام هش ولايقوم علي أسس متكافئة أو متعادلة, وذات الأمر ينسحب علي كافة المشكلات الدولية والصراعات الاقليمية حيث يستوجب البحث عن الأمن ضرورة السعي نحو السلام ولتفصيل ذلك فإننا نوضح الأبعاد المختلفة والرؤي المتداخلة للعلاقة بين الأمن والسلام في منطقة الشرق الأوسط بمعناه الجغرافي ومدلوله السياسي خصوصا أن أمامنا علي المسرح السياسي مشروعات ثلاثة مطروحة أولها هو المشروع الأمريكي حول الشرق الأوسط الكبير وثانيها المشروع الأوروبي أو ما نطلق عليهمبادرة فيشر نسبة إلي وزير خارجية ألمانيا وثالثها المشروع العربي الذي سوف يكون مطروحا علي القمة العربية القادمة ولانشير في هذه الحالة إلي مشروع إسرائيلي منفصل لأن إسرائيل تجد في المشروع الأول جزءا كبيرا من رغباتها كما أنها لاتعارض المشروع الثاني أيضا, ويهمنا هنا أن نوضح أن المشروعين الأول والثاني يتشابهان إلي حد كبير فالحديث عن خلاف بين ضفتي الأطلنطي في كل من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية حول الشرق الأوسط الكبير هو حديث يحتاج إلي مراجعة ويجب عدم أخذه علي إطلاقه خصوصا أن الدول الأوروبية قد اكتشفت اخيرا أن دورها محدود نسبيا وأن قدرتها محكومة بالإرادة الأمريكية, كما أن درس الأزمة العراقية قد خلق في اليقين الأوروبي إحساسا بأن دوره مكمل للدور الأمريكي وليس منافسا له أو بديلا عنه. كما أن الخلافات داخل المعسكر الأوروبي ذاته لايمكن أن تحقق سياسة مشتركة واحدة تناويءواشنطن إذ إن درجات التبعية الأوروبية لواشنطن تتفاوت وفقا لألوان الطيف السياسي داخل الاتحاد الأوروبي,
كما أن مبادرة فيشر وزير الخارجية الألماني حول السلام والاستقرار والديمقراطية في الشرق الأوسط تنطوي أساسا علي مفهوم إدماج مؤسسات الشراكة الأوروبية المتوسطية ــ سياسية وأمنية وثقافية ــ مع حلف الناتو الأطلنطي في إطار الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب, كذلك فإن مبادرة وزير خارجية ألمانيا تطرح تصورا للأمن والتعاون الإقليمي في الشرق الأوسط بما يجعله قريبا من الطرح الأمريكي للمشروع الأول مع بهارات أوروبية تطالب بأن يأتي التغيير والإصلاح من الداخل الشرق أوسطي علي اعتبار أن دور مؤسسات أوروبا والأطلنطي هو أن تساعد في انتشال المنطقة من مشكلاتها دون وصاية عليها أو تدخل في شئونها, ولاشك في أن مبادرة فيشر الأوروبية فيها ترشيد لابأس به لمشروع الشرق الأوسط الكبير كما تطرحه واشنطن, كما أنها محاولة ذكية لتحجيم الدور الأمريكي والالتفاف حوله خصوصا أن لأوروبا خبرات حضارية وتجارب تاريخية مع المنطقة بسبب القرب الجغرافي والتعامل المتواصل, كما أن للأوروبيين خبرات خاصة في مراحل من الحوار مع دول إسلامية مثل العراق وإيران وليبيا فضلا عن خبرة التاريخ الاستعماري في غرب آسيا وشمال أفريقيا, ولكن النقطة الجديرة بالذكر والتي تمثل عنصر التفوق للمشروع الأوروبي علي الأمريكي هي أن مبادرة فيشر لاتتجاهل تأثير الصراع العربي ـ الإسرائيلي ولكنها لاتقف عنده أيضا بل تتجاوزه وإن كانت تري أن انفراج الصراع سوف يكون من شأنه دفع مسارات الأمن والسلام في الشرق الأوسط وتعزيز برامج الإصلاح والتحول الديمقراطي والتغيير الثقافي الذي يتحدثون عنه, وهنا نلاحظ أن الطرح الذي تقدم به كولين باول وزير الخارجية الأمريكية في ديسمبر2002 والمحاضرة الشهيرة للسفير الأمريكي ريتشارد هاس في ذات التوقيت كانت هي نقطة البداية لانطلاق هذه الدعوة كجزء من الحملة ضد الإرهاب في جانب وتهيئة المسرح السياسي الشرق أوسطي للتعاون الإقليمي في جانب آخر,
ويهمني هنا أن أنبه القاريء إلي أن الدعوة الأمريكية أو الغربية عموما للإصلاح والتغيير نحو الديمقراطية ليست وليدة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر2001 بل إنها تسبق ذلك بعدة سنوات ولكن الذي كان يحمل لواءها ويكرر ترديدها كانوا هم بعض الساسة الإسرائيليين وأذكر منهم شيمون بيريز في محاضرة شهيرة بمنتدي دافوس عام1995 وكنت أحد شهودها إذ قال يومها إن السلام بين العرب وإسرائيل يقتضي أولا تحريك البحيرة الراكدة في الشرق الأوسط وانتهاء النظم الديكتاتورية وتعزيز التقارب الثقافي والتعليمي وتوسيع هامش الديمقراطية, علي اعتبار أن إسرائيل هي الواحة في صحراء الشرق الأوسط, وهو قول أقرب إلي الحق الذي يراد به باطل فهي شروط تحكمية كانت إسرائيل تضعها علي طريق التسوية للصراع في الشرق الأوسط في محاولة لإحراج الطرف العربي وإضعاف مركزه التفاوضي, ولكن هل معني أن البداية كانت إسرائيلية والدعوة أمريكية وتكملتها أوروبية أن أوضاعنا علي ما يرام وأننا لسنا بحاجة إلي تغيير وإصلاح وتحول فكري ونقلة نوعية في أسلوب الحياة وأنماط السلوك؟
أقول إن الرد سلبي تماما فنحن أحوج مانكون إلي هذه الأطروحات ولكن من منطلق ذاتي وبإرادة قومية تنبع من هويتنا وتجد صداها في تاريخنا الحضاري وبنائنا الثقافي, وإذا كانت إسرائيل تبحث عن سلام حقيقي فإنه يتعين عليها أن تتوقف عن جرائمها اليومية وأن تبدأ فصلا جديدا من الحوار مع العرب وألا تتصور أن مفهوم الشرق الأوسط الكبير سوف يؤدي إلي ذوبان الشخصية العربية في ذلك الفضاء الضخم الذي يمتد من تخوم الهند إلي شاطيء الأطلنطي لأن فيصل الأمر في النهاية هو قبول التعايش المشترك وفهم منطق التعاون الإقليمي الصحيح وهي أمور لايؤدي إليها جدار عنصري عازل أو سياسة أحادية الجانب, فالحوار هو اللغة المطلوبة وليس قتل الأطفال وهدم المنازل واغتيال القيادات, لذلك فإنه من الطبيعي أن يرتبط الحديث عن الشرق الأوسط الكبير بمراحل التسوية الجادة في الشرق الأوسط, لأن الذين يتصورون أن الإرهاب قد ولد في بيئة حاضنة صنعتها نظم متخلفة ينتشر فيها الفساد السياسي وتغيب منها الديمقراطية ويشيع معها الفقر يجب أن يدركوا أيضا أن سياسة ازدواج المعايير والكيل بمكيالين هي مجموعة أخري من الأسباب أدت إلي الإرهاب ودعمت استمراره فالشعور بالظلم وغياب العدالة هو الذي جعل القضية الفلسطينية تتحول إلي قميص عثمان الذي ارتداه بن لادن وصدام وسوف يرتديه كل من يحاول أن يجد مبررا للخلاص من المأزق الراهن, لذلك فإننا نزعم أن الأمن والسلام في الشرق الأوسط مرتبطان ولن يتحقق أحدهما دون الآخر إذ ليس أي منهما بديلا لسواه وفي ظني أن هناك ملاحظات ثلاثة يجب أن تسيطر علي القمة العربية القادمة مؤداها مايلي: ــ
أولا:ــ إن مشروع الشرق الأوسط الكبير ومعه المبادرة الأوروبية يسعيان إلي توسيع المفهوم الجغرافي للشرق الأوسط ليصبح مفهوما سياسيا يحتوي خريطة العالم الإسلامي تقريبا ولايقف عند حدود العروبة ولذلك مغزاه ومعناه.
ثانيا:ـــ إن مشروع الشرق الأوسط الكبير يجب الا يقبل برمته أو يرفض بالكامل بل العبرة في الأمر كله تنطلق من مدي حاجاتنا للإصلاح ورغبتنا فيه وقدرتنا علي تحقيقه, فليس في العالم النامي الذي تنتمي إليه معظم شعوب الشرق الأوسط مايدعو إلي نبذ الإصلاح والاستمرار في التخلف ولكن هناك خصوصية ثقافية وحضارية يجب احترامها والاعتزاز بها, فالاختلاف لايعني المفاضلة ولايدل علي تفوق بعض المجتمعات الإنسانية علي غيرها.
ثالثا: ــ إن المريض لايكابر أمام العلاج ولكنه أيضا أدري بمعاناته وأعرف بآلامه لايشخصها له سواه ولايبعث إليه الغير بروشتة صماء بل لابد من الحوار والأخذ والرد والقبول والرفض فتلك هي سمات الحضارة وخصائص الحداثة وروح المعاصرة.
.... هذه ملامح بعض الإطار الفكري لمشروعات الأمن والسلام بل والتغيير والإصلاح في الشرق الأوسط كما يجب أن نراها ونشعر بها ونتعامل معها.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2004/3/16/WRIT1.HTM