إن التقليب في دفتر الأحوال العربية وتصفح الأجندات القطرية يقدم لنا صورة مهتزة للواقع المعاصر في هذه المنطقة من العالم وهو الذي يحتاج منا الي زخم ضخم من الأفكار البناءة والرؤي المتجددة والمبادرات الواقعية لمواجهة حالة التردي التي شعرنا بها في السنوات الاخيرة, فإذا كانت الحالة العربية جزءا من الحالة الدولية إلا انها تبقي ذات خصوصية اقليمية وقومية ولست اري في الافق القريب معجزة يمكن ان تتحقق ولكنني أري إرادة يمكن ان تولد وفكرا يجب أن يزدهر, إنها تلك الإرادة التي تولد من الآلام العظيمة التي تصنع الأمم الناهضة وهو الفكر الذي تصنعه المعاناة الكبيرة التي تصهر الشعوب المتقدمة, وقد يقول قائل إن العرب قد عرفوا من قبل مراحل قاسية وعاشوا ظروفا مؤلمة عبر تاريخهم الطويل ولكن الفارق هذه المرة هو أن التطورات الدولية ومعدل الحركة العالمية يجعلان الامر مختلفا امام تحد من نوع غير مسبوق يقتضي التفتيش في تاريخنا, واستلهام أقوي ما لدينا, واستنهاض أصدق عزائمنا, لذلك نبحث الآن فيما يجري حولنا حتي ندرك ان دفتر أحوالنا حافل بكل أسباب القلق ومظاهر التوتر وسوف نرصد ذلك من خلال العناصر التالية: ـ
(1) إن العقل العربي مازال يتأرجح في فضاء حاضره المليء بالمتناقضات والذي يعبر عن حالة انفصام في الشخصية القومية إذ تتذبذب المواقف العربية مائة وثمانين درجة فأعداء الامس هم حلفاء اليوم وأصدقاء الماضي هم خصوم الحاضر, إنها أمة تتخذ مواقفها بحسابات وقتية لا تعرف الرؤية البعيدة ولا تفكر بجدية في المستقبل, ويكفي أن نتذكر ان الهزائم العربية الكبري والخسائر القومية الفادحة قد ارتبطت بنزوات الحكم الفردي وغياب الديمقراطية وتضليل الشعوب.
(2) لا نكاد نعرف أمة في العصر الحديث بددت إمكاناتها وبعثرت ثرواتها وفرطت في مقوماتها مثلما فعل العرب, لديهم تشابك شديد بين السلطة والثروة, وأجندات قطرية متضاربة, وحساسيات مكتومة تغطيها شعارات زاعقة تتحدث عن( الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة)!
مع هرولة منفردة في الخفاء نحو مراكز النفوذ الدولي والعواصم الكبري لها بل إنني أري الآن مباراة بين النظم العربية في الحديث عن الاعتدال والتشدق بالإصلاح والرغبة في التغيير كما ان بعضها قد أصبح يؤمن بغير مواربة أن أوراق الاعتماد الي العاصمة الامريكية تمر أولا بإرضاء الدولة العبرية!
(3) هل هناك من يفسر لنا لماذا يواجه الشعب العراقي هذه المحنة القاسية مع ان لديه وفرة في النفط والمياه معا وفي الارض الخصبة والكوادر المدربة ايضا؟ وماذا جلبت عليه الديكتاتورية الحزبية وحكم الفرد المطلق من ويلات وآلام وأحزان؟ ومن الذي يفسر لنا ما انفقته دول عربية أخري في صراعات اقليمية في ظل شعارات تنادي بالقومية والوحدة وما تكبدته تلك الدول من نفقات فادحة سعيا نحو أهداف فضفاضة؟ ومن الذي يشرح لنا لماذا أصبحت القضية الفلسطينية هي قضية الفرص الضائعة؟ وكيف لم تتوفر لذلك الشعب المنكوب قيادات تواجه الحقيقة وتري الامور كما هي وتسمي الاشياء بمسمياتها وتخترق حاجز المعاناة لكي تخرج من النفق المظلم بأقل الخسائر مع الحفاظ علي معظم الثوابت ؟
(4) إن العرب يتشدقون باتفاقية الدفاع العربي المشترك التي لم نر لها تجسيدا حقيقيا ولو مرة واحدة لانها مجرد طرح نظري لا تحيطه بيئة سياسية واقتصادية ملائمة, وهم ايضا انفسهم العرب الذين بدأوا الحديث عن السوق العربية المشتركة منذ منتصف الخمسينيات ـ قبل إعلان قيام السوق الاوروبية المشتركة بسنوات ـ ولكن بقيت تلك السوق العربية وهما يطارد القادة في المؤتمرات ومادة لثرثرة الخبراء في الاجتماعات لان غياب الارادة السياسية حرم الامة من ميزاتها حتي ان التجارة البينية العربية لا تكاد تصل الآن الي خمسة بالمائة من التجارة العربية الكلية ويكفي ان نقول هنا ان بعض الواردات العربية من الخارج هي سلع عربية المنشأ من دول شقيقة يجري استيرادها عبر طرف ثالث!, كما ان حاجة العرب الي العالم الخارجي واعتمادها عليه تبدو واضحة لكل ذي عينين, فالعرب يستوردون ما يقرب من تسعين بالمائة من احتياجاتهم كما تبدو صادراتهم ـ خارج إطار النفط ـ رقما ضئيلا أمام صادرات إحدي دول جزر شرق آسيا.
إنها تلك الامة التي لا تواجه نفسها الحقيقة ولا تتحدث مع ذاتها بصدق ولا تتعامل مع الواقع في شفافية لان المصداقية لديها شعار نظري بينما الحساسيات القطرية تستنزف كل الجهود وتمتص كافة الطاقات بل إن الغيرة المكتومة بين بعض الدول العربية اصبحت أمرا نلاحظه في المحافل الدولية والمنتديات الاقتصادية والمباريات الرياضية بل وفي الصراع حول استضافة الكأس الكروية!
.. هذه ملاحظات عامة أخلص منها بالحديث عن ظاهرة بدأنا نشعر بها في اللقاءات القومية وبرامج الفضائيات العربية حيث تشير كلها الي حالة التشرذم العربي والاتجاه نحو التحوصل القطري بل والغمز واللمز أحيانا من الصغار تجاه الكبار كما ان الشقيقة الكبري قد أصبحت تتعرض هي الأخري لحملة إعلامية مستترة وحصار ثقافي خفي, فالحياء القومي لم يعد له وجود والعرفان التاريخي بالتضحيات الكبري قد أصبح في ذمة التاريخ, إن البحث في دفتر أحوالنا المعاصرة سوف يؤكد ان فصلا جديدا من فصول المحنة مازال مطروحا والامر في ظني لابد ان يعتمد في ذلك علي اعمدة ثلاث:ـ
أولا: ـ اعتراف امين بالواقع ومصداقية كاملة وشفافية بغير حدود تضرب كلها الفساد في المجتمعات وتفتح أبواب الحريات وتدفع بالمجتمع المدني الي الامام ولا تكون مجرد عابر مؤقت تحكمه مخاوف النظم من مواجهة رياح التغيير وعواصف السياسات.
ثانيا: ـ مبادرات بناءة وخطوات محسوبة نحو المستقبل بحيث تستوعب دروس الماضي وتحديات الحاضر في إطار رؤية شاملة لا تضيع في الجزئيات ولا تستغرق في التفاصيل ولكنها تبدأ من العام الي الخاص لكي تنتشل الامة من غياهب الضبابية وبراثن التخلف الفكري.
ثالثا: ـ التفكير الجدي في نظام اقليمي يضع العرب في مكان لائق داخل شرق اوسط جديد تحكمه اعتبارات مختلفة أفرزتها تطورات المسألة العراقية وانتكاسات القضية الفلسطينية وتحولات السياسة الليبية.
.. إننا أمام فصل مؤلم من تاريخنا المعاصر حيث دخلت حضارتنا قفص الاتهام وتحولنا الي مذنبين وجناة بينما نحن الذين دفعنا الضريبة عدة مرات, مرة للارهاب المحلي وأخري للوجود الاجنبي وثالثة للاحتلال الاسرائيلي ورابعة للتخلف السياسي والاقتصادي والثقافي, ولابد لنا ـ والامر كذلك ـ من صحوة تعيد الرشد لأمتنا والروح لشعوبنا حتي نتقدم نحو عملية طويلة لتجديد البيت العربي وترميم قلاع الحرية وإرساء قواعد المستقبل مع التركيز علي التعليم العصري والثقافة الانسانية والتكنولوجيا الحديثة.
.. إن دفتر أحوالنا الذي يسجل وقائع العصور الماضية يتهيأ الآن لصفحات جديدة نمحو بها خطايا الماضي الطويل وعذابات السلطة الطاغية وذنوب النظم المستبدة.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2004/2/17/WRIT2.HTM