نحن ندرك جيدا أن الاسلام دين أممي يتجه الي الناس كافة دون تفرقة تتصل بالعرق أو الموقع أو الثقافة ودون استثناء لقومية معينة أو استبعاد لشعب بذاته, فالنبي العربي جاء مبعوثا للعالمين ومخاطبا للناس بلا تمييز, لاتقف دعوته عند حدود قومه وان كانت قد بدأت منها, ولاتنحصر في قبيلته وان كانت قد انطلقت عنها, وذلك خلافا لسابقيه من المرسلين الذين توجهت دعوتهم لأقوامهم من مثل عاد وثمود وأنبياء بني اسرائيل وغيرهم ممن توجهت رسالتهم لدائرة تحيط بهم, لذلك فإنه لايوجد إسلام مصري وآخر ايراني وثالث تركي كما أن تعبير الاسلام الآسيوي الذي بدأ يتردد في بعض الكتابات الغربية هو استخدام مغلوط أيضا لأن الاسلام دين واحد, جوهره معروف ومخبره واضح, ولكن الذي يعنينا الآن هو إسلام مصر الذي اكتسب دائما مكانة رفيعة لدي أتباع الديانة المحمدية وغيرهم من أتباع الديانات الأخري في العالم لأنه يتصف بالنقاء والبعد عن الصراعات المذهبية كما ان الفرق الاسلامية لم تقسم مصر أو تمزق أوصالها, كذلك فان الاعتدال النسبي الذي اتصف به الصوت الاسلامي الصادر من شمال وادي النيل كان له صداه دائما حتي اقترن اسم الأزهر الشريف بروح الاعتدال والوسطية وشمول
النظرة والتوازن الموضوعي بين المذاهب والفرق الاسلامية المعترف بها حتي أصبح ملاذا لكل من يريد ان يعرف صحيح الاسلام أو يتعامل معه, ولنا ان نرصد في هذا الشأن عددا من النقاط الجوهرية التي يدور محورها حول المعاني التالية:
أولا: ان الاسلام في مصر مكون أساسي في حياة أتباعه لأن الدين عموما يحتل مكانة ضخمة في حياة المصريين منذ ماقبل ظهور الديانات السماوية حتي أن الحضارة الفرعونية دارت حول الحياة الأخري واكتشفت التوحيد مبكرا بينما لعب الكهنة دورا فاعلا, ومازلنا نتذكر زيارة الاسكندر الأكبر لمعبد الإله آمون في سيوة تقربا الي آلهة المصريين وسعيا نحو الوصول الي مشاعرهم الداخلية وهو ذات الأمر الذي كرره نابليون بونابرت بعد ذلك بعشرات القرون عندما جاء الي مصر علي رأس حملته الفرنسية منافقا الاسلام ومحاولا التقرب الي الشعب المصري من خلال الوازع الديني المتغلغل في أعماقه لذلك فإنني أزعم ان المصريين هم من أكثر الشعوب الاسلامية تدينا وقربا من صحيح الإسلام, فالفلاح المصري يتوضأ من مياه النهر ويصلي علي ضفافه في بساطة وخشوع بالغين.
ثانيا: نحن لاننكر ان الاسلام السياسي قد ولد علي الأرض المصرية فحركة الإخوان المسلمين التي انطلقت من مدينة الاسماعيلية علي يد الإمام حسن البنا عام1928 هي حجر الزاوية في التوجه الأصولي الذي بدأ حينذاك ثم انتشر في بقاع الدنيا حيث نعبر عنه بمسميات مختلفة, ولكنها تلتقي حول ذات المضمون وهو الاحتكام الي كتاب الله وسنة رسوله والالتزام بالشريعة نهجا وتطبيقا, وعن حركة الاخوان المسلمين نقلت التيارات السلفية في العالم الاسلامي خصوصا علي يد الإمام الباكستاني أبوالأعلي المودودي الذي أعطي تركيزا خاصا لمفهوم الحاكمية في الاسلام, ونقل عنه الأستاذ سيد قطب في مصر, وغيرهما من منظري الحركة الاسلامية ومفكريها ممن قامت علي أكتافهم عناصر الدعوة الاسلامية في القرن العشرين, وفي ظني أن هذه النقطة لاتنتقص من وسطية واعتدال مصر المسلمة, ذلك أن مؤسسي حركة الإخوان المسلمين لم يكونوا علي إدراك كامل بأهمية دور الحركة في تصحيح المسار عند اللزوم, كما أن بداياتها لم تكن تعتمد العنف أسلوبا للتغيير.
ثالثا: ان المزاج المصري يبدو فريدا تجاه المذاهب الاسلامية, فمصر ـ كما أقول دائما ـ سنية المذهب شيعية الهوي لاذ بها أهل البيت في القرن الأول الهجري حيث كانت ملجأهم في حياتهم ومستقرا لمماتهم ومزارا بعد رحيلهم, وهذه النقطة بالذات مهمة في تبيان الأسباب وراء درجة القبول الاسلامي وغير الاسلامي للصيغة المصرية في فهم ذلك الدين العظيم وتطبيق شعائره والمضي علي طريقه لأن مصر صاخبة في عقيدتها ولكنها هادئة في شعائرها, تلتقي علي أرضها النقائض ففيها الأصولية والسلفية, وفيها الاعتدال والتطرف, وفيها التعايش بين شعائر أهل السنة وطقوس أهل الشيعة, فالقاهرة ـ علي سبيل المثال ـ مدينة تحتوي التراث الضخم وتضم رقائق الحضارات المتعاقبة التي كان آخرها غطاء الحضارة العربية الاسلامية الذي تتدثر به مصر في نقاء وصفاء وبساطة.
رابعا: ان فرادة مصر تأتي أيضا من أن الإسلام يمثل لها ركيزة ثقافية واضحة تبدو منفتحة علي الغير متفاعلة مع الاخر حتي أن أعياد المسلمين والمسيحيين تبدو في مصر نسيجا متكاملا يتبادل فيها الجميع مظاهر البهجة ومشاعر الود منذ عشرات القرون كما أنني أزعم ان علاقة التيار الاسلامي المعتدل بالأقباط في مصر علاقة صحية في جوهرها, أما الصدامات الطائفية بين حين وآخر فمردها إلي جهل أصحابها, وضغوط الحياة علي أطرافها, ولكنها لا تتأسس علي منطلق نظري تاريخي متأصل مثلما هو الحال بين المسلمين والهندوس في الهند أو حتي بين الكاثوليك والبروتستانت في ايرلنده الشمالية! وهو أمر يحمد في النهاية لعمق مصرية شعب الكنانة الذي عرف التسامح مبكرا وارتبط بالأديان منذ عصور سحيقة.
خامسا: ان شخصية المصري البعيدة عن العنف والتي ترفض التعصب كان لها أثرها الكبير في الوعي الديني لدي ذلك الشعب الذي يتهافت أفراده علي ارتياد المزارات الدينية والموالد السنوية الموزعة بين المساجد والأديرة ولعلي أعترف هنا أن دور الأزهر تاريخيا الي جانب تفرد الكنيسة الأرثوذكسية المصرية بمكانتها قد شكلا في النهاية سبيكة ثقافية واحدة للتعايش المشترك وصيغة للتوازن بين الدينين الأساسيين في مصر كما أن زوال جزء كبير من أسباب القلق المسيحي في مصر مع تحقيق الاصلاحات الجديدة وصدور القرارات العادلة التي كان أهمها وليس آخرها اعتبار الكريسماس القبطي في السابع من يناير كل عام عطلة رسمية للبلاد أقول ان ذلك كله قد خلق مناخا صحيا يسمح لغير المسلمين بالاشادة باسلام مصر كما عبرت عنه شخصيتها عبر التاريخ.
.. هذه هي المعاني التي ننطلق منها كي نتحدث عن دور مطلوب من إسلام مصر المعروف بالوسطية الموصوف بالاعتدال لاسيما بعد أن اندلع صراع غير مفهوم الأبعاد وغير واضح المعالم بين الإسلام كحضارة وثقافة وبين الغرب عموما خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحادي عشر من سبتمبر2001 وهو أمر محزن أولا وظالم ثانيا وضار بالجميع ثالثا, ولعلي هنا أسجل قلقي لعدم قدرتنا ـ أزهرا ودولة ـ علي استخدام الفرصة السانحة لقيادة تيار اسلامي معتدل يدين العنف ويجرم الارهاب ويدعو الي صحيح الإسلام, وهو دور منتظر من مصر قبل غيرها, فكلمة الأزهر مسموعة في العالم, والفتاوي منه تهز أركان النظم, وتحظي باهتمام الحكومات, والذي أريده تحديدا من إسلام مصر يتلخص في محاور ثلاثة هي:
(أ) أن ينشط الأزهر الشريف وعلي قمته شيخ جليل ووزارة الأوقاف المصرية وعلي رأسها عالم مستنير بالسعي الحثيث لايفاد علماء الدين الشباب لاستكمال الدراسة في الخارج وتعلم لغة أجنبية حيوية حتي نشكل قاعدة ثابتة ومستمرة لتكوين الدعاة العصريين وأحسب ان شيئا من ذلك قد بدأ بالفعل لأن العودة الي سياسة ابتعاث الأزهريين الي الخارج هي الضمان الوحيد لظهور أمثال رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده واستعادة أمجاد الدور الاسلامي لمصر في هذه الفترة القاتمة من المواجهة غير المتكافئة بين أصحاب الديانات الكبري.
(ب) تجديد الخطاب الديني ـ وذلك شاغل واضح للمؤسسة الأزهرية ووزارة الأوقاف ـ سعيا نحو تغيير مفردات ذلك الخطاب وأساليبه, بما لايمس جوهر الرسالة أو ثوابت العقيدة ولكنه يتحرر من الشكليات المكررة التي تبدو كالقوالب الموروثة من عصور التخلف وقرون القهر إذ يتعين ان يكون الخطاب عصريا وموضوعيا يتسم بسماحة الاسلام ويعكس صفاءه ونقاءه بعيدا عن رواسب الجمود وصياغات التعصب.
(ج) إن خطبة الجمعة هي رسالة أسبوعية لمؤتمر إسلامي صغير في كل مسجد أو زاوية من أطراف الدلتا أو أعماق الصعيد لذلك يجب ان يكون مضمونها ايجابيا يعتمد علي الترغيب أكثر مما يحتوي من ترهيب لأن المسلم العادي ـ خصوصا ذا الحظ المحدود من الثقافة ـ يتناول فهم دينه بل ودنياه من خلال أدبيات نص الخطبة ومحتواها وهو أمر يلقي مسئولية كبيرة علينا في تطوير تلك الخطبة والنهوض بالأئمة حتي يواكب موضوعها ظروف العصر ومقتضيات الحال.
.. هذه خواطر مسلم مصري يؤمن بفضيلة التسامح ويدرك عمقها في صميم روح الإسلام وينتظر من دولته ان تمارس دورا مطلوبا منها ومنتظرا من أزهرها, وأنا علي يقين من ان ممارسة مثل هذا الدور سوف تعزز مكانة مصر في ظروف دولية معقدة وملابسات اقليمية متشابكة حيث تجري مباراة في الاعتدال الطارئ بين النظم العربية والاسلامية في وقت واحد ولأسباب مختلفة لدي كل منها, ولكن يظل الدور الاسلامي الذي نطلبه من مصر دورا لايقدر عليه غيرها!
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2004/2/3/WRIT1.HTM