عرف الوطن العربي موجات الهجرة إلي الخارج مع منتصف القرن التاسع عشر عندما خرجت مجموعات من سوريا الكبري أو الشام الكبير لتعبر البحار والمحيطات في طريقها إلي العالم الجديد بينما خرجت منهم مجموعات أخري لتستقر في مصر خصوصا أولئك الذين اشتغلوا مع بدايات القرن العشرين بالصحافة والمسرح والسينما ووجدوا في مناخ الحرية الذي عرفته مصر في تلك الفترة بيئة حاضنة للشعراء والأدباء والمفكرين دون النظر لجنسية أو دين, وإذا كان خروج العرب في موجات الهجرة الأولي مدفوعين بأمرين أساسيين هما الفرار من اضطهاد الحكم العثماني والبحث عن مناخ فكري وسياسي مختلف بالإضافة إلي طلب الرزق والسعي نحو فرص عمل وتكوين ثروة خصوصا في الأرض البكر للعالم الجديد فإننا نقرر بذلك أن الاغتراب العربي والهجرة من المنطقة قد بدأت من دول المشرق خصوصا تلك المطلة منها علي ساحل البحر المتوسط, ولم يتقدم المصريون للهجرة بمعناها الحقيقي إلا مع نهايات الخمسينيات من القرن العشرين حتي ازدادت بأعداد أكبر بعد نكسة يونيو1967, فالمصري ليس مهاجرا بطبعه لأنه يرتبط بالأرض ويكره الاغتراب إلي الحد الذي يجعله إذا ترك قريته إلي مدينة مجاورة فإنه يقسم بغربته! ومع ذلك فإن لمصر مئات الألوف من المغتربين في أمريكا الشمالية واستراليا وأوروبا وبعض مناطق إفريقيا فضلا عن وجودهم في دول الخليج العربي بل والمشرق العربي أيضا طلبا للرزق وسعيا نحو تحسين مستوي المعيشة.وإن كان المصري لايترك وطنه إلا وفي ذهنه حلم العودة إلي أحضانه مرة أخري.
ولقد اتاحت لي رحلة أخيرة إلي نيويورك و واشنطن ومونتريال أن أري عن قرب أوضاع الجاليات العربية والمصرية وأن أتعرف علي آمالهم وأحلامهم وآلامهم ومشكلاتهم حتي تعزز لدي إدراك كامل بدرجة ارتباطهم بأمتهم الأصلية وأوطانهم العربية, وكنت قد شعرت بذلك أيضا من قبل أثناء عملي سفيرا لبلادي في فيينا واكتشافي ان أكثر من خمسة وعشرين ألف مصري يعيشون في النمسا مع وطنهم الأم لحظة بلحظة ويتأثرون بكل مايجري له ولايبدو أبدا حصولهم علي الجنسية من بلد الإقامة نهاية لعلاقتهم الوثيقةبيوطنهم الأصلي.. والآن دعني أفصل ما أجملناه من خلال النقاط التالية:ـ
أولا:ـ إن المغتربين العرب والمصريين ـ من بينهم ـ لم يلقوا منا الاهتمام الكافي وقد يكون لنا في ذلك أكثر من عذر ولكن المشكلة تبقي في النهاية موجودة, ومع تسليمنا بأن علاقتهم بالوطن هي طريق ذو اتجاهين أي أن عليهم أن يسعوا إلينا مثلما نسعي إليهم إلا أن ظروف المنطقة العربية في العقود الأخيرة قد حرمتها من خبرات ضخمة وعقليات متميزة وخبرات نادرة, وقد اخترت تعبير المغتربين ولم أقل المهاجرين أو أبناءنا في الخارج لأنني أري أن لفظ الاغتراب أشمل وأعم لأن فيه معني واسعا يضم كل من ترك وطنه بشكل مؤقت أو دائم, ويكفي هنا أن نتذكر بعض الأسماء اللامعة من المغتربين العرب بدءا من جبران خليل جبران الفيلسوف والمفكر صاحب كتاب النبي وهو أكثر الكتب توزيعا في القرن الماضي وصولا إلي مجدي يعقوب جراح القلب الدولي الشهير مرورا بعشرات بل ومئات النماذج المشرفة في مختلف مجالات العمل في الخارج الذين يرصعون سماوات الغرب من علمائنا الأفذاذ وعلي قمتهم صاحب نوبل أحمد زويل وغيرهم ممن ينتشرون في الجامعات ومراكز الأبحاث ويسهمون في بناء القدرات العلمية والتكنولوجية للدول التي يقيمون فيها.
ثانيا:ـ لقد انشأت دول مثل سوريا و لبنان وزارة للمغتربين ونحت مصر هذا النحو لفترة قصيرة منذ عقدين تقريبا عندما كانت وزارة الهجرة هي همزة الاتصال مع المصريين في الخارج, واعترف أنها لم تنجح بالشكل المنتظر ولم تحقق الفائدة المأمولة منها ولم تقم بالدور المتوقع لها لأسباب كثيرة لا أري مبررا للخوض فيها خصوصا أننا تصورنا وقتها أنها وزارة معنية بشئون العلاقة بين الأقباط والمسلمين في الخارج ولم نتجاوز ذلك إلي فهم أشمل لطبيعة المشكلات القائمة والأهداف المطلوبة, فلم تتمكن تلك الوزارة من فتح قنوات مستمرة مع ابناء الوطن ولم تقدم لهم من عوامل الجذب ونوعية التسهيلات مايدعوهم بقوة للاستثمار بالفكر والخبرة والمال في بلدهم فالأحاديث كثيرة والأفعال قليلة, والنوايا حسنة ولكن الوسائل محدودة.
ثالثا: ــ إننا ننظر أحيانا ــ عربا ومصريين ـــ إلي المغتربين وكأنهم مندوبون لأمتهم وأوطانهم لدي مجتمعات أخري وتلك نظرة خاطئة لأننا نحملهم ما لايطيقون فهم بحكم اغترابهم واندماج معظمهم في الشعوب التي يعيشون بينها ويرتبطون برباط المصلحة فيها يجب أن يكونوا جزءا لايتجزأ منها يخضعون لقوانينها ويتعايشون مع أسلوب الحياة فيها ولايمكن أن نطلب منهم أن يكونوا أداة سياسية في القضايا القومية أو الوطنية لبلادهم الأصلية إلا بالقدر الذي تسمح به ظروفهم ولايؤثر علي أوضاعهم بما قد يؤدي إلي تصنيفهم وعزلتهم, وأنا أشير هنا تحديدا إلي مايتردد كثيرا حول ضرورة وجود جماعات ضغط عربية لوبي خصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية وكأننا نتصور ـ وهما ـ أن العربي المقيم هناك يمكن أن يرفع صوته فجأة بين حين وآخر ليتحدث عن الحقوق الفلسطينية أو المسألة العراقية أو غيرهما من همومنا وشواغلنا دون أن يكون ذلك المتحدث شريكا فاعلا في الحياة اليومية للمجتمع الأمريكي وله رأي في مسائل الضرائب والإجهاض والشذوذ وغيرها من الأمور المثارة أحيانا علي مسرح الحياة السياسية بحيث يتحول العرب الأمريكيون إلي قوة تصويتية ينظر إليها ويطلب رأيها ويعمل حسابها.
رابعا: ــ إننا قد فهمنا موضوع الجنسية المزدوجة فهما خاطئا وتصورنا أنه يعني بالضرورة نقص الولاء للوطن وضعف الارتباط به, وهذا قول مردود عليه إذ أن واقع الأمر أن الذين يتطلعون إلي حمل جنسية أجنبية إنما يتطلعون إلي التسهيلات التي يتوقعونها والأبواب التي تفتحها الجنسية الجديدة أمامهم, ولايعني ذلك أبدا نقصا في الولاء أو ضعفا في الانتماء خصوصا أن معظمهم يحافظ علي جنسية الأصلية ويظل وطنه الأول شاغلا يؤرقه صباح مساء, ولقد رأيت بعيني انفعال المصريين مع قضايا وطنهم من خلال مواقع العمل الدبلوماسي الذي انخرطت فيه لقرابة خمسة وثلاثين عاما قضيت منها أربعة عشر عاما في الخارج وأدركت أن العربي عموما والمصري خصوصا يحمل في أعماقه هموم أمته أينما ذهب ولايقلل من ذلك جنسية أخري يحملها أو فرص عمل جديدة يتطلع إليها.
خامسا: لا أجد حرجا في التعرض لمسألة الوحدة الوطنية في الخارج وإذا أخذنا المصريين كمثال فسوف نجد أن العلاقة بين المسلمين والأقباط قد بلغت درجة عالية من الفهم المشترك والتواصل الرائع بل والاندماج الوطني الصحيح خصوصا أنها تبدو انعكاسا لما يجري داخل الوطن, وإذا كنت أزعم أننا قد قطعنا شوطا كبيرا علي طريق إصلاح جوانب الوحدة الوطنية في الداخل وإنهاء قدر كبير من مشكلات ملف الوحدة الوطنية وتصفية معظم هموم الشأن القبطي فإن ذلك قد انعكس بالضرورة علي جالياتنا في الخارج خصوصا في مراكز تجمعهم ومواقع تركزهم, ولقد شعرت من لقاءاتي بالعرب والمصريين المقيمين في مونتريال ونيويورك وواشنطن- علي سبيل المثال ومن خلال آخر زيارة لهم- أنهم يعيشون في ظل مناخ سوي ويتمتعون بعلاقات ودية للغاية, وعندما استمعت إلي الأصوات القبطية المستنيرة وجدت أنها تتطابق مع نظيرتها المسلمة في ضرورة الحفاظ علي الوحدة الوطنية من خلال الإصلاح الشامل الذي لايعرف التفرقة بين أبناء الوطن الواحد.
... خلاصة ما أريد أن أصل إليه هو أن أشدد علي أن المغتربين جزء لايتجزأ من أمتهم يحملون ثقافتها, ويعبرون عن هويتها, ولكنهم في الوقت ذاته يجب أن يندمجوا في الحياة اليومية بل والمشاركة السياسية لمجتمعاتهم الجديدة بدلا من أن يكونوا كالجزر المعزولة التي لاتفيد ولاتستفيد, ومازلت أذكر يوما كان فيه حوالي سبعة من رؤساء الدول في أمريكا اللاتينية منحدرين من أصول عربية- سورية ولبنانية- وقد جاء الوقت الذي يجب أن تسيطر فيه قضية المغتربين علي تفكيرنا وتطفو علي سطح توجهاتنا, وحسنا ماتفعله الجامعة العربية في هذا السياق وسوف يكون الأمر أفضل إذا استوعبت الحكومات أبعاد هذه القضية المهمة وأعطت المغتربين مايستحقون من دراسة جادة وقرارات واعية وإجراءات لازمة حتي لاتضيع العروة الوثقي بين من ينتمون إلي الأمة الواحدة.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2004/1/20/WRIT1.HTM