الطفولة هي بوابة الحياة, يبدأ منها إصلاح الأمم وتكمن فيها ترقية الشعوب, ويعتمد عليها تطوير المجتمعات, فالطفولة الشقية المعذبة تقدم لأوطانها أجيالا مضطربة التفكير, قلقة الوجدان عصبية المزاج غير قادرة علي العطاء لذاتها أو لغيرها, وأنا واحد ممن تهزهم دائما معاناة الطفولة عندما تضطرها الظروف ـ بضغط من الفقر وتحت وطأة الحاجة ـ إلي أن تتعرض للاستغلال بكل أنواعه بدءا من تشغيل الأحداث إلي الحرمان من التعليم فضلا عن قصور الرعاية الصحية وانعدام كل أسباب الحماية التي يجب أن تتمتع بها تلك المخلوقات البريئة, وكلما نظرت إلي أحفادي رأيت من واقع المسافة العمرية الواسعة بيني وبينهم أننا نقدمهم للمجهول, فالحياة تزداد تعقيدا وأطرافها تزداد تشابكا ولا أحد يعلم ما تخفيه الأقدار لهم ولأجيالهم القادمة, والذي دفعني إلي الكتابة في هذا الموضوع ـ رغم الظروف الصاخبة في المنطقة حيث المواجهة المحتدمة في فلسطين والعنف اليومي في العراق ـ إنما هو ذلك الاحساس المتزايد بأن الطفولة هي المستقبل, فإذا كنا نسعي للتحرر من أسر الماضي والخروج من مأزق الحاضر, فإن الأمل أمامنا يكون فقط في غد أفضل وهو ما يعني أن تشكيل الطفولة السوية هو بمثابة التغيير من عند المنبع حيث الاستجابة أقوي والتأثير أوضح.
كما أن صدور تقرير منظمة الأمم المتحدة للطفولة( يونسيف) عن وضع الأطفال في العالم2003 وما تضمنه من حقائق وما كشف عنه من مفارقات وما احتواه من احصاءات يوضح أن المنطقة العربية تقع في مجملها داخل نطاق الدول النامية لذلك فإن تأمل أوضاع الطفل العربي يصبح قضية ذات مغزي ومسألة مأخوذة في الاعتبار دائما, وقد يكون من الأفضل أن نسجل ملاحظاتنا حول هذه القضية من خلال محاور أربعة: هي التعليم والصحة والمساواة والحماية فضلا عن التعرض من خلالها للجوانب التنموية في استراتيجية الطفولة العصرية مع البحث في موقع الطفل العربي عموما والطفل المصري خصوصا, ولن يخلو الأمر بالطبع من العبور علي أوضاع الأطفال اليتامي الذين تجمعت عليهم الظروف القاسية من حاجة الفقر إلي فقدان أحد الأبوين أو هما معا, وللأيتام موقع خاص في تاريخ الانسان, وقفت إلي جانبهم الديانات السماوية, وارتبطت معهم المشاعر الانسانية, واهتمت بهم الأساليب التربوية.
الطفولة والتعليم
تثبت الدراسات العلمية يوما بعد يوم أن التعليم هو مفتاح التقدم كما تؤكد كل عمليات المسح الميداني أن النهوض بالتعليم ينعكس إيجابا علي جميع نواحي الحياة وجوانب المجتمع ولو أراد العرب النهوض بحق فإن التعليم هو وسيلتهم الأولي وطريقهم الصحيح, وإن كان واقع الأمر لا يدعو للتفاؤل فالتعليم يتراجع في كثير من أقطار المنطقة, ومصر تعاني تعددية واضحة في مسارات العملية التعليمية فهناك تعليم حكومي وتعليم خاص وتعليم استثماري وتعليم أجنبي وتعليم ديني فضلا عن التعليم الفني بالطبع, والطفولة تبدو في النهاية موزعة علي تلك الدروب المتعددة وأعني بالطبع سعداء الحظ فقط من الأطفال الذين سوف يجدون فرصة في التعليم ومكانا في المدرسة بعد تصفيات الاهمال والتهرب والتسرب فالتقرير الذي نتحدث عنه يشير الي وجود121 مليون طفل في العالم حاليا لا يذهبون الي المدرسة ومنهم65 مليون طفلة علي الأقل كما أنه يشير الي أن نصف عدد النساء في العالم العربي أميات, وهذا يعني أن القضية في النهاية ليست نوعية التعليم فقط ولكنها قبل ذاك وجود الفرصة من عدمها وفي رأيي أن الحرمان من التعليم هو حكم مبكر بالهوان علي الانسان منذ بداية حياته, فالتعليم يرفع الفرد إلي أعلي ويسمو بمكانته ويحترم آدميته فإذا كنا نشكو من الأمية ونسبتها التي تتراجع ببطء شديد فإننا نتجه إلي تعليم الطفولة بالدرجة الأولي لأنه كما يقولون كالنقش علي الحجر بينما قد يصبح في مراحل عمرية متقدمة مجرد نقش علي المياه ومازلت أذكر من طفولتي أن تعليم الكتاتيب لم يكن خطيئة كما لم يكن بالضرورة نمطا متخلفا وأظن أن مدرسة الفصل الواحد هي عودة جديدة لذلك النمط التقليدي الذي تعلم منه عدد ضخم من المفكرين والمبدعين والأدباء والعلماء.
الطفولة والصحة
تتجسد المعاناة الحقيقية في طفل مريض أو عجوز فقير, فالأول يستهل حياته بالعجز والمرض ويختتمها الثاني بالحاجة والعوز والمهم دائما هو نقطة البداية مثلما هي مهمة أيضا نقطة النهاية, لذلك فإن قصور الخدمات الصحية التي يعانيها الأطفال في مناطق كثيرة من عالم اليوم تبعث علي الألم والحزن في وقت واحد فغياب التطعيمات في مواعيدها المطلوبة ونقص التغذية اللازمة للبراعم الجديدة أمر لا يساعد علي تفتحها, ولعل القارة الأفريقية بما تعج به من مشكلات وما تواجهه من تحديات هي النموذج الأوضح للمعاناة الحقيقية في عصرنا هذا فالأطفال يولدون في بقاعها المختلفة كي تستقبلهم الحياة بكل أسباب التوتر والمعاناة بل وتضيف إليهم وراثة الأمراض القاتلة وفي مقدمتها فيروس نقص المناعة الإيدز ولا شك أن مشاهد الأطفال الأفارقة في مناطق التصحر والفقر الشديد وهم يظهرون كالهياكل العظمية الشاحبة سوف تبقي في ذاكرة الانسانية وخزا مستمرا في الضمائر وناقوسا يدق لمن ينفقون البلايين علي أسلحة الدمار الشامل بدلا من أن يقدموا جزءا يسيرا منها لإنقاذ الطفولة الضائعة والأفواه الجائعة والعيون التي لا تطل منها ابتسامة فرح ولكي تكسوها غيمة حزن لا ينتهي, فالرعاية الصحية ضرورة أساسية للأطفال الذين يستقبلون الحياة بصفحات ناصعة لا جرم فيها ولا ذنب.
الطفولة والمساواة
يفرق الناس بين الذكر والأنثي ويفضلون الأول علي الثانية ـ ربما في كل أنحاء الدنيا ـ ولكن بنسب متفاوتة بل إن مجتمعات كثيرة سواء في الجزيرة العربية قبل الاسلام أو في بعض مناطق الهند والصين قد اعتبرت ميلاد الطفلة عارا ونكبة وصلت إلي حد شيوع وأد البنات ومواصلة الانجاب انتظارا للصبي الموعود! فأصبحت الطفلة الأنثي تحمل علي عاتقها عبئا ثقيلا من الأفكار المتخلفة والقيم البالية حيث إنها توضع في مرتبة ثانية فالأولوية لأخيها والأفضلية له والفرص قد تكون متاحة له وحده وفي مقدمتها فرصة التعليم وهنا نزعم ـ متأكدين ـ أن طريق التقدم والنهوض بالأسرة والمجتمع وإصلاح الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية يرتبط بتعليم المرأة فهي مدرسة إن أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق علي حد تعبير الشاعر وهنا نلفت النظر إلي أن التعليم حق للمرأة مثله مثل العمل كفلتهما شرائع السماء والاسلام في ذلك سباق وكل الدعاوي التي تحاول الحجر علي المرأة وازدراء الأنثي وحجب فرصة التعليم عن الطفلة هي كلها جرائم تخلف أن لها أن تختفي من ساحة الحياة العصرية.
الطفولة والحماية
إن الحروب الدامية والنزاعات المسلحة قد اتخذت من الأطفال وقودا لها ووضعت علي كواهلهم الضعيفة منذ سنوات العمر الأولي أعباء لا قبل لهم بها ولا ذنب لهم فيها ولعلنا نذكر الشهيد الطفل محمد الدرة الذي صرعته رصاصات غادرة وهو يحتمي بأبيه, كما أننا نزعم أن العنف قد حصد من الأطفال أعدادا هائلة بل إن بعض حركات التمرد الثالث قد استخدمت الأطفال وصغار الصبية في عمليات عسكرية بل واتخذت منهم أحيانا دروعا بشرية وهذه كلها أمور تدعو إلي الأسي وتبعث علي الإشفاق لذلك فإن الحماية الدولية مطلوبة لهم كما أن الحرص علي سلامتهم هو مسئولية في أعناقنا جميعا ولا تقتصر أهمية الحماية علي ظروف الحروب والنزاعات وحدها, فلابد من العمل الجاد من أجل صيانة الطفولة في الشوارع والملاجيء وإصلاحيات الأحداث من جرائم الاعتداء البدني والجنسي ممن غابت ضمائرهم وخربت ذممهم, فضلا عن جرائم النخاسين وتجار الرقيق الأبيض في عصر يتحدث عن الحريات ويتشدق بحقوق الانسان بينما لا يبدأ بالبداية الطبيعية وهي حقوق الطفل.
.. إن تقرير الأمم المتحدة يحمل من الأوجاع ما يربط بين الأمومة والطفولة, ويحتوي من المفارقات ما يقارن بين التقدم والتخلف ويدعونا جميعا إلي أن نمسح دموع أطفال العالم بدءا من الطفل العربي الذي قد تستقبله الحياة بصفعات قوية قاسية تزرع في أعماقه المعاناة والمرارة وربما تدفعه نحو الانحراف أيضا ليمضي في مسيرة حزينة تبدأ من لحظة الميلاد حتي لحظة النهاية.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2004/1/6/WRIT1.HTM