عندما يتحدث العرب عن الحروب الشاملة في المواجهة مع إسرائيل فإنهم يشيرون إلي حروب أربعة في أعوام48 و56و67 والحرب الظافرة عام73 من القرن العشرين, وهم يسقطون من حسابهم ـ بوعي أو بغير وعي ـ حربا خامسة هي التي يجب أن نطلق عليها الحرب الباسلة وهي حرب الاستنزاف التي بدأت منذ يونيو1967 وتوقفت بقبول مبادرة روجرز الأمريكية عام1970, وهذه الحرب لم تأخذ حقها من الاهتمام الكافي والدراسة الأمنية لأن حرب أكتوبر المجيدة قد غطت ببريقها اللامع ونتائجها الضخمة علي تلك الحرب الباسلة التي سبقتها ومهدت لها وأعني بها ما نسميه بحرب الاستنزاف التي تحتفظ الذاكرة القومية برموزها من رأس العش إلي شدوان إلي اغراق ايلات إلي اسبوع تساقط الطائرات الإسرائيلية في سيناء والتضحيات الشعبية المصرية الجسيمة في بحر البقر والزعفران وعمق الدلتا, انها في ظني واحدة من أشجع حروب تاريخنا وأعظم المواجهات الباسلة في الصراع العربي الإسرائيلي كله, وإذا كان هناك من يزايدون علي مصر شعبا وحكما فإن عليهم أن يذهبوا قليلا إلي سجلات تلك الحرب الخالدة وأن يتذكروا تلك التضحيات الجسيمة عندما كان فضاء مصر مفتوحا بعد النكسة يضربون نظاما أزعجه كثيرا ويحاول أن يخيف شعبا أقلقه دائما.
ولعلي أقول هنا صراحة إن بعض الكتاب المصريين والمؤرخين العسكريين قد اغمطوا إلي حد كبير تلك الحرب حقها لأسباب ذكرنا أولها وهو الطغيان الكاسح لانتصار أكتوبر الشامخ الذي بدأت به الكرامة العربية مرحلة العبور العظيم مثلما بدأت الانسانية ميلادها بحدث الانفجار العظيم, أما السبب الثاني في ظني فهو أن كثيرا من هؤلاء الخبراء في شئون العسكرية والسياسة لا يستريح بعضهم إلي الربط بين زعامة عبدالناصر المهزوم في1967 وبين تلك الحرب الباسلة التي قادها في السنوات الثلاث الأخيرة من حياته, وهي بالمناسبة أكثر سنوات حكمه سلامة ووعيا وموضوعية فيها ضرب مراكز القوي وأسقط دولة المخابرات ورفع الحراسات وبدت لديه الدنيا مختلفة يستعيد مع صدمة النكسة حيوية النضال ويبتعد عن أخطاء سنوات حكمه, حتي أننا لا نرصد له خطأ سياسيا كبيرا في الفترة من النكسة إلي الرحيل إلا مذبحة القضاء ـ وهي خطيئة جسيمة سلبت جزءا كبيرا من مصداقية تلك السنوات الأخيرة من حكم ذلك الزعيم الراحل ـ ومع ذلك فإنني أنبه الذي يغمطون تلك الحرب الباسلة حقها ويبخسون قدرها ويتجاوزون تأثيرها المباشر في التمهيد لحرب أكتوبر المجيد إنني أسوق اليهم الملاحظات التالية:
اولا: إن حرب الاستنزاف لا تقف عند اسم الراحل عبدالناصر وحده الذي كان يتعامل مباشرة مع الوحدات العسكرية من أدناها إلي أعلاها بعد صدمة الهزيمة وهو أن الرفيق الذي قاد جيش مصر قبل1967 بمنطق مؤسسة الرهبة التي تغلب عليها خصائص العشيرة أكثر من سمات الانضباط العسكري والتدريب المطلوب في غمار ضجيج سياسي وإعلامي لم يتوقف لسنوات طويلة عن الحديث عن أقوي قوة ضاربة في الشرق الأوسط, ولكن عبدالناصر الذي كان قد تغير كثيرا من هول زلزال يونيو67 كان كمن يبدأ مع قواته المسلحة من نقطة البداية يزور المواقع ويناقش القادة ويدرس الخطط المبدئية لإزالة الاحتلال واستعادة الكرامة إلي جانب تحولات فكرية وسياسية جعلته يوجه خطابه السنوي العالمي في عيد الثورة عام1970 في شكل رسالة إلي الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون يطالبه بعدالة السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط والحد من الانحياز لإسرائيل في لهجة نرصد فيها الرغبة القوية في تحسين العلاقات العربية الأمريكية وتغيير المسار خصوصا في ظل خيبة الأمل المصرية من بعض المواقف السوفيتية حينذاك, وعندما قبل عبدالناصر مبادرة روجرز ـ التي لم يكن نائبه أنور السادات متحمسا لها ـ كانت تلك علامة كبيرة للرغبة في الاتجاه نحو الحل السلمي والسعي لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي بتدخل من القوي الكبري وفي مقدمتها بالطبع الولايات المتحدة الأمريكية حاضنة إسرائيل وداعمتها في الحرب والسلام.
ثانيا: إن الربط بين اسم عبدالناصر وحرب الاستنزاف يمثل مرة أخري فهما متعجلا لطبيعة تلك الحرب ونتائجها الكبيرة والمؤثرة في التاريخ العربي عموما والوجدان المصري خصوصا, فهي حرب تعبر عن المشاركة الشعبية الكاملة عندما تساقط عشرات الشهداء من عمال مصر وهم يبنون حائط الصواريخ وتسيل دماء أطفالها في مدرسة بحر البقر ويسقط رئيس الأركان شهيدا في ميدان المعركة ليسجل الفريق عبدالمنعم رياض ان التضحيات لم تقف عند الصغار ولكنها طاولت الكبار ايضا, وأريد أن أذكر الجميع بأن الرئيس مبارك كان واحدا من ألمع القيادات العسكرية في سنوات حرب الاستنزاف حيث ألتقاه الرئيس عبدالناصر القائد الأعلي عدة مرات يناقشه ويستمع إليه في حضور القائد العام للقوات المسلحة المصرية ـ وزير الحربية حينذاك ـ ويراجع معهما خطط الدفاع عن سماء مصر المكشوفة ويستمع إلي نصيحة اللواء طيار حسني مبارك بعد أن استدعاه من موقعه كمدير للكلية الجوية ليسند إليه مهمة رئاسة أركان القوات الجوية, وكان هو مبارك صاحب نظرية المصيدة في استدراك الطائرات الإسرائيلية المغرورة وإسقاطها في عمق سيناء والدلتا حتي بدت خسائر إسرائيل ـ في ظل انتصارها الواهم ـ محل جدل داخل القيادات العسكرية الإسرائيلية ذاتها, ولذلك فإنني أزعم أن تلك الحرب كان لها جنود مجهولون وقيادات لم تأخذ حقها من التكريم بل إن مبارك ذاته قد طغت قيادته للضربة الجوية الأولي في حرب أكتوبر المجيدة علي دوره الشجاع في حرب الاستنزاف الباسلة.
ثالثا: إن حرب الاستنزاف يومياتها الموثقة تضع وساما ضخما علي صدر العسكرية المصرية والشعب المصري معا لأنها الحرب التي اتسمت بالمشاركة الكاملة بينهما ووصلت إلي كل بيت خرج منه ابن أو أكثر من حملة المؤهلات العليا أو ما دونها لقتال دولة الاحتلال بل والقيام بعمليات استشهادية حقيقية بعبور قناة السويس ليلا, حيث يضرب الفدائيون المصريون وراء خطوط العدو في مواجهة انتحارية شجاعة تستهدف القوات العسكرية للمحتل الغاشم, بل أنني أريد ان أذكر من لا يتذكرون ان معركة رأس العش قد جرت بعد اسبوعين فقط من هزيمة يونيو67 وفي ظل أجواء النكسة القاتمة وظروف غير متكافئة بين القوات الإسرائيلية التي يدفعها زهو النصر وغرور القوة وبين فلول الجيش المصري المبعثرة ولكنها تملك إيمان المحارب الحقيقي وصلابة المعدن المصري الأصيل عندما تصدت في تلك المعركة الصغيرة لقوات احتلال لم يمض علي وجوده إلا أيام قليلة لتكبدها خسائر فادحة ثم تتلوها بمعركة باسلة في جزيرة شدوان وتتجاسر القوات البحرية المصرية ـ في شجاعة الاجداد وعناد الأباء ـ لتغرق البارجة العسكرية الإسرائيلية إيلات التي كانت تعد مصدر اعتزاز لدي البحرية الإسرائيلية ومبعث فخر استعراضي مستمر, لذلك كله فإن المزايدة علي شجاعة المصريين وبسالتهم المستميتة في مقاومة الاحتلال عندما تطأ أقدامه أرضهم المقدسة فويل لمن يستهين بمصر وينكر تضحيات شعبها وشجاعة جندها, ألم يقل الرسول( صلي الله عليه وسلم) أنهم خير أجناد الأرض.
رابعا: إن جيلنا مازال يتذكر تلك الأيام الصعبة التي خاضت فيها مصر حرب الاستنزاف وكيف كانت مشاعرنا التي تتأرجح بين الآلام العظيمة والمشاعر الأليمة والعناد الجسور, ولقد تخرجت شخصيا في الجامعة قبل النكسة بعام واحد واستقبلت حياتي الوظيفية بدخول الخدمة العسكرية التي طالت بعض زملائي حتي جاوزت الأعوام الثمانية, ضريبة وطن ورفض احتلال وبسالة تجري في العروق من عصر الفراعنة, فإلي أولئك الذين يتحدثون بالغمز واللمز افتراء علي دور مصر أطالبهم بالتقليب في دفتر الأحوال الوطنية لذلك الشعب العريق الذي لم يتخل عن التزامه القومي وانتمائه العربي ولم يفرط في مبدأ ولم يقايض علي حق, وأطالبهم جميعا بأن يضعوا حرب الاستنزاف المصرية التي امتدت إلي سنوات ثلاث ووصلت إلي أعماق الريف المصري والتجمعات السكانية المحتشدة في ظل تهجير محافظات السويس الثلاث إلي مدن الدلتا والصعيد عندما استضاف الأشقاء في السودان الكلية الحربية المصرية وعكفت الكلية الجوية علي تخريج أعداد كبيرة من الطيارين العظام في سباق محموم مع الزمن لتعويض ما فات والخروج من شرنقة الهزيمة ومواجهة التحدي بإرادة لا يعرفها إلا من عاش تلك السنوات العجاف من النضال الوطني تحت مظلة قومية لم تخرج عنها مصر أبدا.
.. هذه ملاحظات أسوقها لمن نسوا الحرب المظلومة رغم بسالتها, التائهة في سجلات التاريخ رغم فرادتها, التي لم تأخذ حقها باعتبارها المقدمة الطبيعية لحرب أكتوبر الظافرة التي لا يعلوها انتصار عربي آخر, ولعلي أردت التذكير فقط والذكري تنفع المؤمنين.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2003/10/21/WRIT1.HTM