للازهر مكانة مرموقة لا تراجع فيها, ولشيخه مقام رفيع لا نزول عنه, ونحن ممن يؤمنون بقيمة المساحة التي يشغلها ذلك الرمز الإسلامي في عقل الأمة والحيز الذي يحتله في وجدان الوطن فقد كان هو دائما الملاذ في المحن والمرجع في الأزمات, اعتلي منبره ـ في سماحة وطنية رائعة ـ رجال الدين الأقباط أثناء ثورة1919 وخطب من فوق منبره الرئيس الراحل عبدالناصر لتعبئة الشعور الوطني ضد العدوان الثلاثي, حدث ذلك ليضيف إلي التاريخ الضخم لتلك المؤسسة الدينية صاحبة المواقف المشهودة علي امتداد مايزيد علي ألف عام, فهو الأزهر الذي صمد أمام الغزاة وقاوم بطش الطغاة حتي إن هناك من يري أن كلمة ياخراشي في العامية المصرية التي تعبر عن دهشة المفاجأة أو صعوبة الموقف مستمدة من اسم واحد من شيوخ الأزهر الأوائل الذي كان موئلا لأصحاب المطالب وذوي الشكايات, والذي يقرأ الجبرتي سوف يكتشف أن الأزهر الشريف كان هو الحصن الذي اصطدم به بونابرت في حملته الفرنسية رغم انه حاول التستر بالدين الحنيف وممالأة الشعب المصري عن طريق اللعب بعواطفه الدينية. وهو الأزهر الذي قام بالدعوة الإسلامية الصحيحة عبر القرون وعني بتدريس الفقه والشريعة وفقا لمذاهب السنة الأربعة مضافا إليها تدريسه الفقه الجعفري للشيعة الاثنا عشرية وهو مايجعله المركز الإسلامي الوحيد في العالم الذي يبحث في فقه الدين من مصادره المختلفة دون الوقوع فريسة للخلافات المذهبية أو الصراعات بين الفرق الإسلامية.
إنه الأزهر الشريف الذي استقبل رئيس جمهورية باكستان أحد شيوخه الراحلين في مطار إسلام أباد استقبالا رسميا, وهو الأزهر الذي حرص الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين ـ وهو خريجه مثلما تخرج فيه أيضا الرئيس عبدالقيوم رئيس دولة جزر المالديف ـ علي توديع إمامه الأكبر بنفسه في إشارة واضحة الي مكانة الأزهر الإسلامية وقيمته الدولية, وهو الأزهر الذي عرف رواد النهضة والمصلحين الكبار والأئمة العظام من رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده إلي المراغي وشلتوت فكان دائما قلعة السماحة ومزار أهل الديانات الذين تعاملوا معه عبر تاريخه الطويل بكل التوقير والاحترام خصوصا في المراحل التي عني فيها الأزهر الشريف بالتواصل مع أصحاب الديانات الأخري ورواد الثقافات المختلفة, كما أن نهج الأزهر في إيفاد خريجيه للدراسة في الجامعات الأوروبية والآسيوية بدءا من فرنسا إلي الهند, هو نفسه الأزهر الذي عني بابتعاث النابهين من رواده لكي يكونوا رموزا لصحيح الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها, وهو الأزهر الذي لم يقع فريسة موجات التطرف الديني في العقود الأخيرة إذ إن كل المؤشرات تؤكد أن غالبية من سقطوا في براثن ذلك المرض اللعين كانوا في معظمهم من خريجي الجامعات المدنية وكان منهم أقل القليل فقط ممن ينتسبون إلي الأزهر الشريف لأن من يدرس الفقه والشريعة ويقوم علي الدعوة يصبح معافي من نزعة التشدد, ويبرأ من مرض التطرف ويدرك سماحة الإسلام ورحابة نظرته تجاه الديانات الأخري, إنه الأزهر الذي قرر الرئيس السادات أن يكون ترتيب إمامه الأكبر في بروتوكول الدولة مناظرا لنواب رئيس الوزراء مثلما الأمر في تكريم قداسة بابا الأقباط أيضا بالتميز في المراسم العامة لأن مصر هي وطن أبنائها جميعا وموضع رموزها دون تفرقة بينهم أو إهدار لحقوقهم, وهو الأزهر الذي يحرص الرئيس مبارك علي مكانته السامية وقيمته العالمية حتي إنه أعطي توجيها دائماـ كنت ناقلا له من خلال موقع سابق ـ بالأ يقبل الإمام الأكبر الدعوة للخارج إلا إذا كانت موجهة إليه من ملك أو أمير أو رئيس جمهورية أو رئيس حكومة أو من مؤسسة إسلامية لها مكانتها التي ترتفع إلي مستوي توجيه الدعوة للإمام الأكبر لزيارتها.
ونحن لانتحرك في ذلك من شيفونية وطنية وإنما من أرضية إسلامية, فنحن لا نتجاهل قيمة المدرسة المستنصرية في بغداد في عصور ازدهارها ولا ننكر الأسبقية التاريخية لجامعة القرويين في المغرب كما نعطي جامع الزيتونة في تونس قيمته العالية, ولعلي مازلت أتذكر أنني عندما كنت سفيرا لبلادي في فيينا طلبت السلطات النمساوية في نهاية التسعينيات من القرن الماضي أن يشرف الأزهر الشريف علي تعليم من يقومون بتدريس الديانة الإسلامية لأكثر من ثلاثمائة ألف مسلم نمساوي علي نفقة دولتهم اعترافا بقيمة الأزهر وابتعاده عن الغلو والشطط وتعبيره الصحيح عن جوهر الرسالة السمحة, أقول ذلك كله ويدي علي قلبي حبا وقلقا تجاه تلك المؤسسة التي نعتز بها ونفاخر بدورها والتي يقف علي قمتها إمام أكبر يتميز بالسماحة الواضحة والتواضع الزائد والبساطة المفرطة ومع ذلك نلحظ عددا من أسباب التوقف ومؤشرات التراجع نوجزها في النقاط التالية:
أولا: أثارت الفتوي الأخيرة التي صدرت منذ عدة أسابيع ـ كمثال لما نشير إليه ـ من أحد أعضاء اللجنة المعنية بذلك في الأزهر تجاه مجلس الحكم الانتقالي في العراق لغطا دوليا وجدلا إسلاميا وتوترا عربيا لأن تلك الفتوي زجت بغير مبرر بتلك المؤسسة الدينية الرفيعة في معترك السياسة اليومية علي نحو قد ينال من هيبتها ويقتطع من مكانتها, إذ إن تلك المسألة كانت قضية خلافية تصطدم فيها المصالح وتتضارب الآراء ولا أظن أن التطوع بفتوي أزهرية كان أمرا مطلوبا في ذلك السياق خصوصا في ظل ظروف إقليمية صاخبة, ولا يقف الأمر عند هذا الحد فالفتوي منسوبة للأزهر والتراجع عنها منسوب للأزهر
أيضا! وفي ذلك مساس لا مبرر له بمصداقية تلك المؤسسة التي لايدانيها في القيمة غيرها في العالم الإسلامي كله.
ثانيا: ليست الفتوي الخاصة بمجلس الحكم الانتقالي في العراق هي الحالة الأولي في مسلسل ما يصدر عن الأزهر خلال السنوات الأخيرة, فهناك أيضا تداخل الفتاوي حول النظام المصرفي وفوائد البنوك فضلا عما قيل صادرا عن الأزهر حول العمليات الاستشهادية بالدعوة لها أحيانا والتحذير منها أحيانا أخري بينما يدفع الأزهر في النهاية فاتورة الآراء المختلفة والاجتهادات المتباينة لذلك يجب أن يعبر عن الازهر صوت واحد يكون مدعوما من إمامه الأكبر في مواجهة قوي أزهرية داخلية تمتطي جياد التطرف وتمسك بعصا التشدد تطارد بها أحيانا كل فكر مستنير وتحارب دائما كل وسطية أو اعتدال.
ثالثا: إنني صراحة لا أتفهم ما جاء في سياق تبرير التراجع عن فتوي تحريم الاعتراف بمجلس الحكم الانتقالي من أن ذلك شأن عراقي لا علاقة لغيره به, وهذا يخالف ـ بغض النظر عن وقوفنا مع تلك الفتوي أو الرجوع عنها ـ روح الاسلام الأممي الذي يري الأمة من منظور متكامل ولا يفرق بين شعوبها وفقا للجنسيات أو الحكومات أو حتي الأوطان, فما يجري في العراق شأن دولي عام ومشكلة إقليمية حادة وهم إسلامي يحمله الأزهر مثلما يحمله المسلمون في كل مكان.
رابعا: إنني أري أنه ينبغي أن ينظم الأزهر باستعلاء وحذر أيضا درجة تدخله في الشئون السياسية والأحداث اليومية حتي لا يكون موضعا للانتقاد أو محلا للمساءلة لأن دوره ديني قومي وطني وقبل ذلك كله فإن دوره الإنساني يسبق الجميع ولا يستقيم أبدا أن تتضارب مواقفه أو تطفو الخلافات علي سطحه.
خامسا: إن مقام الإمام الأكبر عال يرتفع معه عن الخلافات ويجعل كلمته هي فصل الخطاب وينأي به عن أحاديث المنتديات وثرثرة الصالونات خصوصا إذا كان في مثل روح الإمام الحالي التي تتصف بالوداعة وشخصيته التي تتسم بالطيبة والتواضع.
.. هذه بعض ملاحظات أردت منها وبها أن أنبه إلي المخاوف التي تجتاحني والقلق الذي يستبد بي حرصا علي مكانة الأزهر الشريف وتاريخه الشامخ وحاضره المؤثر, يحدوني في ذلك فهم عميق لرسالته وإيمان كبير بالمهمة الضخمة التي تنتظره في ظل حملة شرسة وظالمة ضد الإسلام دينا وحضارة بل وسلوكا وثقافة, فالازهر الشريف مدعو إلي أن يتقدم الصفوف نحو الدعوة الإسلامية الصحيحة وأن يقتحم المعاقل التي تروج للأراجيف والافتراءات ضد المسلمين وأن يحارب التطرف والزندقة بكل ما أوتي من أسباب العلم ووسائل المعرفة ولابد له ـ وهذه هي القضية الجوهرية ـ أن ينفتح علي عالم اليوم وأن يعي جيدا ما جري حول الأمة الإسلامية وداخلها وأن يدرك خبث محاولات الإقصاء التي تستهدف وضع العرب والمسلمين تحت وهم المؤامرة المستمرة لدفعهم نحو العزلة الكاملة, وأنا لا أتصور أن يمضي الأزهر الشريف في سياسة انسحابية بدءا من عودة بعثته التي كانت سندا لأهل السنة في لبنان مرورا بالمواقع التي يجب أن يسعي للتواجد فيها من خلال المراكز الإسلامية في الغرب والشرق علي السواء, وصولا إلي ضرورة إيفاد المئات من علمائه لاستكمال الدراسة في الجامعات الاجنبية والتعرف علي الثقافات الأخري والانفتاح علي المجتمعات المختلفة وحيازة اللغات الحية حتي يصدر عن الأزهر الشريف خطاب ديني صحيح تعودنا عليه ونطالب به, ونري أن الحاجة إليه لم تكن عبر تاريخ الأزهر الطويل مثلما هي الآن, حيث العواصف تقتلع الجذور, والسحب تمطر المفاجآت, والضباب يحجب الرؤية.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2003/10/7/WRIT2.HTM