إن مايجري في العراق ومن قبله مايحدث في فلسطين يضعنا أمام شرق أوسط مختلف عما كان عليه منذ سنوات قليلة إذ أن تفريغ الخريطة السياسية للإقليم من قوة العراق عسكريا واقتصاديا ـ بغض النظر عن تقييمنا لتوجهات النظام الذي سقط ـ قد أحدث خلخلة واضحة في موازين القوي في منطقة غرب آسيا والخليج العربي والشرق الأوسط أيضا, أما استمرار نزيف الدم الذي لا يتوقف إلا ليبدأ من جديد بسبب ممارسات قوة الاحتلال الإسرائيلي لتصفية مقاومة الشعب الفلسطيني في مشاهد أليمة تضعنا هي الأخري أمام تصور جديد لظروف تبدو مختلفة في إطارها العام وإن كانت متشابهة في التفاصيل, فالصراع العربي الإسرائيلي ممتد طوال قرن كامل من الزمان لكنه بدأ يأخذ صورة جديدة في السنوات الأخيرة حيث ظهر نوع من الخلل في موازين القوي نتيجة اختلاف المحاور وتباين أوزان الدول فضلا عن تغير الظروف, حتي إن رئيس وزراء سوريا قد اقترح ـ بغير حرج ـ محورا شرق أوسطي جديدا يضم إيران وسوريا وتركيا مع الأخذ في الاعتبار أن سوريا كانت دائما هي قلعة الحركة القومية حيث يفترض أن ارتباطاتها العربية تعلو أية ترتيبات إقليمية فضلا عن أن علاقتها مع تركيا لم تتحسن إلا في السنوات الأخيرة, وهكذا نجد أنفسنا أمام تركيبه جديدة نرصد أبعادها في النقاط التالية:ـ
أولا:ـ إن الدولة العبرية ـ التي عبر عنها الرئيس الأمريكي بوش اخيرا باسم الدولة اليهودية ـ قد حصدت مكاسب وامتيازات لم يكن لها أن تتحقق لولا الحادي عشر من سبتمبر وتداعياته وهو الحادث الإرهابي الذي دفع الولايات المتحدة الأمريكية بسبب عقدة الكبرياء المنهارة والكرامة الضائعة إلي أن تقوم بمغامرتها الكبري في العراق والتي يبدو أنها لن تكون نزهة سهلة بل إن ثمنها يزداد ارتفاعا كل يوم.
ثانيا: إن الدور التركي لم يأخذ الأهتمام الذي يستحقه منا نحن العرب وتعاملنا معه باعتباره ظهيراBackyard لأوروبا فقط ونظرنا إلي علاقاته بالشرق الأوسط من منظور تاريخي بحت وتناسينا تأثير الجوار الجغرافي المباشر, وفي رأينا أن أهمية الدور التركي تنبع من أنه همزة الوصل بين شمال العالم العربي وأوروبا في جانب والشرق الأوسط ومجموعة الأطلنطي التي ينشط في عضويتها في جانب آخر فضلا عن علاقاته القوية مع الولايات المتحدة الأمريكية والوثيقة مع إسرائيل, وكان يمكن لنا ـ بشيء من سعة الأفق ومرونة الحركة ـ أن نوظف ذلك الدور التركي لخدمة القضايا العربية واستقرار المنطقة ولا أظن أن دولا عربية قد سعت إلي ذلك ونجحت فيه, ولكننا نتذكر دائما الدور الكبير الذي قام به الرئيس مبارك في نزع فتيل المواجهة التركية السورية بسبب نشاط حزب العمال الكردستاني وزعيمة عبد الله اوجلان قبل اعتقاله حيث ترك الرئيس المصري احتفالات النصر في القاهرة واتجه الي العاصمة التركية في السادس من أكتوبر عام1998 لينهي صراعا محتملا بدأ بمواجهة تركية سورية كان يمكن ان تستمر طويلا وأن تستنزف الطاقات العربية كثيرا.
ثالثا:ـ إن إيران دولة شرق أوسطية تقف علي تخوم غرب آسيا كمحطة أخيرة للإسلام غير العربي في خط التماس مع العراق ودول الخليج, ولقد تحولت العلاقات العربية الإيرانية علي امتدادالنصف الثاني من القرن العشرين إلي قوة سلبية مخصومة من الشرق الأوسط مرة بسبب سياسات الشاه الموالية للغرب والمرتبطة بإسرائيل وأخري بسبب تداعيات الثورة الإسلامية ومحاولتها تصدير بعض أفكارها, ولاشك أن الاحتلال الأمريكي للعراق قد أدي اخيرا إلي غياب عنصر التوازن بين طرفي المعادلة حول شط العرب.
رابعا: لقد شهد الشرق الأوسط في العقود الأخيرة صراعا مكتوما بين التيار الإسلامي والتيار القومي في جانب وبين الفكر العروبي والنزعة القطرية في جانب آخر, وهو مايعتبر لطمة مؤثرة في القوة التقليدية في المنطقة العربية ويفتح بابا لصراعات فكرية وخلافات سياسية تؤثر بالضرورة في شكل المنطقة وتوازناتها الجديدة.
خامسا:ـ إن الدور المصري ينفرد بأنه يمثل قوة مركزية محورية في الشرق الأوسط كما يمثل في الوقت ذاته قيادة فكرية وسياسية وثقافية للدول العربية, وهو يبدو كمنظم التيارStabilizer الإقليمي, وصدق الإنجليز ـ وهم خبراء في شئون المنطقة ـ عندما قالوا إذا عطست مصر فإن ذلك يعني أن الشرق الأوسط قد أصابته أنفلونزا!
هذه أبعاد أساسية للقوي الرئيسية في الشرق الأوسط وهنا يتعين علينا أن نبحث في الخريطة السياسية الجديدة وتأثيرها في التوازنات التي نجمت عنها وارتبطت بها, ويحتاج الأمر الي مناقشة نتائج التصعيد الذي طرأ علي المواجهة الإسرائيلية الفلسطينية وكذلك الفراغ الذي نشأ بسبب ما حدث في العراق ويبقي الأمر في النهاية مرتبطا بالقوي السياسية الجديدة في الشرق الأوسط وتيارات الإصلاح التي بدأت تهب عليه, لذلك فإننا نري:
(1) إن صراع الشرق الأوسط بين العرب وإسرائيل والذي تشكلت من خلاله موازين القوي الاقليمية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يبدو الآن أكثر اضطرابا وقلقا من أي فترة مضت فالعملية السلمية توقفت والاحتلال يواصل انتهاكاته والشعب الفلسطيني ينتحر علي أرضه ويظل السؤال مطروحا إلي متي وكيف سوف تمضي المواجهة؟ ويجب أن نقرر هنا أن المقاومة الفلسطينية بكل فصائلها قد أدخلت بعدا جديدا في ميزان القوي بين العرب وإسرائيل فلقد وجهت المقاومة ضربات موجعة لاسرائيل في السنوات الأخيرة كما أن إسرائيل علي الجانب الآخر قد عمدت إلي نوع من التصعيد غير المسبوق تجاه الفلسطينيين وظهرت حالة من التعود العربي العام علي مايجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة, كما أن السياسة الأمريكية بعد الحادي عشر من سبتمبر قد نالت من حدة الشعور القومي لدي العرب وجعلت للواقعية السياسية دورا يبدو لبعض المحللين كما لو كان تراجعا سلبيا عن مواقف بل وثوابت كان الاحتفاظ بها أمرا لاجدال فيه ولكن الحياء القومي سقط وأصبحت الدول العربية في حالة انزواء قطري حيث طفت علي السطح هموم أخري سحبت البساط إلي حد كبير من تحت أقدام المناضلين الفلسطينيين, وهنا لابد لي أن أكرر ماكتبت عنه من قبل حول ضرورة النظر إلي الصراع العربي الاسرائيلي في إطاره الاقليمي دون الاكتفاء باطاره القومي كما كنا نفعل طوال السنوات الماضية.
(2) إن الوجود الأمريكي في العراق قد ترك آثاره القوية علي ميزان القوي في منطقة الخليج العربي ويكفي أن نتذكر هنا أن الولايات المتحدة الأمريكية قد أصبحت موجودة وجودا مباشرا بقواتها وسياساتها وثقافتها ولم يعد للوكلاء أهمية مثلما كانت لهم في فترة الحرب الباردة وفي أعقابها, ولعل هذا يفسر ممارسة واشنطن لبعض الضغط علي الحكومة الاسرائيلية في مسألة خارطة الطريق إذ أن حاجتها إلي دور إسرائيل في المنطقة قد بدأت تتناقص وربما ينسحب نفس الأمر علي حاجتها إلي دول عربية أخري أيضا, ونحن نظن أن منطقة الخليج العربي سوف تشهد تأثيرات قادمة تأتيها عبر المحيط الهندي لأننا نتصور أن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تبحث عن قوة قريبة من المنطقة وبعيدة عن المد الاسلامي تقوم بدور الشرطي المعاون للدور الأمريكي الأساسي في المنطقة ونكاد نري للهند باعتبارها القوي الأكبر في جنوب وغرب آسيا دورا ترشحه لها إمكاناتها السياسية ووزنها الاقليمي وقبولها العام في سياسات المنطقة.
(3) إن الدورين التركي والايراني يضاف إليهما منطقة التماس العربي الافريقي في السودان ومنطقة القرن الأفريقي تمثل كلها مراكز اهتمام عربي في المرحلة المقبلة حيث قد تأتي المخاطر منها مثلما يمكن أن تأتي أيضا عوامل الاستقرار من خلالها والأمر يحتاج منا نحن العرب إلي شيء من البصيرة فلو أننا سلكنا ـ علي سبيل المثال ـ طريق الانتقاد الشديد والحملة الاعلامية الضخمة التي كان يمكن أن تصل إلي حد قطع العلاقات مع الدولة التركية بسبب علاقاتها الاستراتيجية مع إسرائيل فإننا نكون قد ارتكبنا خطأ كبيرا ولكن ذلك لم يحدث لحسن الحظ بسبب تغير الأساليب والتحول نحو احتواء من يختلفون معنا بدلا من التعبئة القومية ضدهم وتركيز الحملات عليهم, ومازلت أظن أن توثيق العلاقات مع تركيا أمر مطلوب خصوصا في هذه المرحلة كذلك الانفتاح علي إيران والعناصر المعتدلة والتيارات الاصلاحية فيها التي بدأت تطفو أخيرا علي السطح في علاقة ودية نسبيا بين إيران ومجلس الحكم الانتقالي في العراق الذي أعطي الشيعة وزنا يرضي طهران برغم الانفلات الأمني في العراق الذي كان من ضحاياه رئيس المجلس الأعلي للثورة الاسلامية آية الله محمد باقر الحكيم, ونحن نظن أن إيران تسعي عموما لتحسين صورتها سياسيا وإقليميا بل ونوويا وتأمل في فتح قنوات للاتصال مع واشنطن برغم خطاب طهران السياسي المتشدد ظاهريا, ولاشك أن ذلك كله ينعكس علي النظام الاقليمي الذي جعل دخول تركيا و إيران واثيوبيا و اريتريا كأعضاء مراقبين في جامعة الدولة العربية أمرا مطروحا!
إننا عندما نتحدث عن الشرق الأوسط وموازين القوي فيه فإننا نقصد بذلك أن مايجري في فلسطين والعراق إلي جانب حرب مفتوحة علي الارهاب مع تغيير في التركيبة الدولية والاقليمية بعد الحادي عشر من سبتمبر يمثل كله مستجدات تدعو إلي دراسة الأوزان المختلفة للقوي الاقليمية وإعادة النظر في الحسابات العلوية التي تشكل صورة المستقبل الذي نتطلع إلي أبعاده الجديدة وآفاقه المختلفة.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2003/9/9/WRIT1.HTM