أن يحلم الإنسان فهذا حق طبيعي, لأن الخيال هو طريق الابداع ومقدمة التغيير نحو الأفضل لذلك فإن تشكيل رؤية المستقبل إنما يتحدد من خلال التصور المسبق والحلم البعيد والخيال الواسع, وإذا كان الإصلاح يعبر عن عملية المؤاءمة الزمنية بين ماهو قائم وما هو مطلوب فإن الذي ننشده هو الإصلاح الحقيقي في المنطقة التي نعيش فيها ونعاني معها ونتأثر بها, ومصر دولة قديمة صنع شعبها الحضارات وتعاطي الثقافات ولم يتوقف أبدا عند لحظة معينة ولكنه كان دائما الشعب الذي يملك الحيوية الدافقة والتجدد المستمر, منه خرجت التيارات الفكرية وانطلق زعماء الاصلاح ودعاة التغيير وأصحاب الرؤي الذين يملكون عبقرية الموازنة بين الثابت والمتغير, وبين المستقر والوافد وبين الأصيل والمعاصر, ولذلك يجب أن نحلم لوطننا ونتمني له وليس فقط أن نعشقه ونتغني به, وهناك محاور ثلاثة يجب التركيز عليها باعتبارها المقومات العصرية للدولة الحديثة خصوصا وأن الدعوة للاصلاح لاتتجه إلي النظم وحدها ولكنها تتجه إلي الشعوب بعدها فنحن محتاجون الي الوقوف علي أعمدة ثلاث هي التعليم والثقافة والتكنولوجيا فضلا عن ضرورة القيام بعملية ترتيب واسعة للبيت العربي كله.
تطوير التعليم
لا أظن أن هناك مشكلة تؤرق العقل العربي مثل مشكلة التعليم لأنه هو بوابة العصر ومدخل التعامل مع الأجيال الجديدة, وليس التعليم شأنا نختص به وحدنا ولكنه مشكلة المشكلات حيث اكتشفت الدول المتقدمة مسئوليته الكبيرة في تكييف الحاضر وصنع المستقبل, وعندما أصدر الأمريكيون ذلك الكتاب الشهير نظرة علي الخطر كانوا يلحون من بعيد بالمخاطر المحتملة علي العملية التعليمية, ويجب أن ننتبه إلي أن قيمة التعليم بالنسبة لنا ـ في مصر مثلا ـ لم تكن مجرد تقدم فكري يتصل بالمعارف من علوم وفنون وآداب ولكنه كان أيضا قيمة سياسية نعتز بها في كل مراحل تطور الدور المصري في المنطقة, فلقد لعب التعليم دورا أساسيا في ترسيخ مكانة مصر الإقليمية علي امتداد القرنين التاسع عشر والعشرين عندما حملت مصر لواء التنوير وقادت تيارات الاصلاح في كل المجالات, كما أن التعليم يمارس التأثير عند المنبع فهو الذي يتحكم في مستوي الأداء الوطني والنهضة القومية ولايمكن أن نتعامل مع التعليم باعتباره عملية إدارية تقاس بالكم لأنه عملية إنسانية ذات خصوصية فريدة وفلسفة متميزة تتمثل في ضرورة التركيز علي العلوم الجديدة التي نشأت عن التزاوج بين عدد من العلوم القديمة وفقا لتقسيمها الكلاسيكي فلا نتوقف عند العلوم الحدية بل نتطلع إلي فروع جديدة تتصل بمناهج البحث العلمي وتنمية القدرات الذهنية والتدريب علي الذكاء والهندسة الوراثية وترتيب الأولويات فلقد حدث انقلاب ضخم في نظرية المعرفة ودخلت التعددية الفكرية في مجال العلوم التطبيقية ولم يعد ممكنا أن نظل نتعامل بمقررات القرن العشرين والدنيا تجري حولنا والعالم يسبقنا بخطوات واسعة, فالتعليم هو التحدي الحقيقي التي تواجهه أمتنا, ولن نتمكن من إدارة الصراع السياسي أو ننجح في الإصلاح الاقتصادي أو نتقدم علي طريق البحث العلمي بغير نظام تعليمي يلبي حاجات العصر ويستجيب لمقتضيات الزمن, وتبدأ مسيرتنا في ذلك من الاعتراف الموضوعي بتدهور العملية التعليمية, فبعد أن كنا في المقدمة أصبحنا لانحتل الصدارة وسبقنا غيرنا وهنا ينبغي أن نقرر صراحة أن معظم خريجي الجامعات المصرية يمثلون حجما هائلا من المعروض الكمي الذي لاعلاقة له بالطلب العصري فضلا عن أن مجانية التعليم أصبحت شعارا نظريا, والكل يدرك ذلك ولكنه يردد غير ذلك!! كما أن هناك تحولا واضحا في مصر لصالح التعليم النظري وهو أمر يدعو إلي القلق لأن ذلك التوجه سوف يكون علي حساب التخصصات التطبيقية والعلوم البحتة وتلك ظاهرة خطيرة لأنها تؤثر في مستقبل البحث العلمي والتقدم التكنولوجي الذي يأتي من التزاوج بين العلم والصناعة كما أن البحث العلمي يبدأ وينتهي من أجل خدمة أهداف المجتمع وغاياته وليس ترفا يمارسه العلماء في أبراج عاجية.
تصدير الثقافة
الثقافة هي أغلي سلعة مصرية بها يتحدد الدور المصري في المنطقة العربية منذ كانت مصر هي المصدر الرئيسي للكتاب والصحيفة والقصة والقصيدة والمسرحية والفيلم السينمائي حتي تشكلت شخصية مصر الحديثة في الوجدان العربي من خلال أدواتها الثقافية, لذلك فإننا نظن وبحق أن الدور الثقافي لمصر أمر بالغ الأهمية شديد الحيوية فضلا عما نشهده في العقود الأخيرة من تزايد دور العامل الثقافي في العلاقات الدولية, ولا يظن البعض أن الدور المصري كان دورا سياسيا أو عسكريا فقط ولكنه ارتكز علي قواعد راسخة من الثقافة والتعليم ومظاهر التقدم الاخري التي صاحبت عصر النهضة المصرية مع ميلاد الدولة الحديثة منذ قدوم الحملة الفرنسية وحكم محمد علي وقد ظلت مصر هي الدولة النموذج حتي شب غيرها عن الطوق وجاءت الإمكانات المادية السريعة لبعض الدول العربية مبررا للتنافس مع الشقيقة الكبري ومصدرا جديدا لسلعة ثقافية بدأت تأخذ طريقها إلي جانب السلعة المصرية الرئيسية التي نقلت عنها وتعلمت منها, ولايمكن أن نتحدث عن الدولة العصرية في بعدها الثقافي إذا أغفلنا أهمية التحرر الاجتماعي وشيوع ثقافة الاصلاح والتسامح معا وترسيخ مفاهيم الحوار الديمقراطي وأدواته الحقيقية وتغيير النظرة التقليدية تجاه عناصر المجتمع وفي مقدمتها المرأة, فالثقافة السائدة هي التي تصنع المناخ العام وتحدد الإطار الذي تنضوي تحته قيم المجتمعات وتقاليد الشعوب, لذلك فإنني أري أن التركيز علي العامل الثقافي في مصر أمر له حيويته وقيمته في وقت واحد إذ يمثل عنصرا أساسيا من عناصر الإصلاح المطلوب.
توطين التكنولوجيا
لايمكن أن نتصور أمة عربية تظل عالة علي غيرها, وتستورد كل احتياجاتها, وتتوقف عن البحث العلمي والتقدم التكنولوجي, مستعيضة عن ذلك بفتح أسواقها لكل من تشاء, لقد حان الوقت الذي يجب أن تكون فيه التكنولوجيا العصرية راسخة الوجود في بلادنا لأن توطين التكنولوجيا هو الضمان الوحيد للاستقلال الوطني والإصلاح الاقتصادي والتحديث الاداري والتحول الساسي والاجتماعي, والترابط بين العلم والثقافة والتكنولوجيا لايحتاج إلي دليل جديد, فالتعليم هو المصدر الأساسي للبحث العلمي وعليه يعتمد التفوق التكنولوجي, كما أن الثقافة هي التي تصنع المناخ العام الذي تمضي فيه المجتمعات النامية والديمقراطيات الحديثة التي تتعامل مع روح العصر ومفرداته بكل انفتاح وشفافية, وقد يقول قائل إن أعباء التكنولوجيا الحديثة فادحة التكاليف وهذا وهم حقيقي فالهند فقيرة تقدمت تكنولوجيا أو اليابان معدومة الموارد الطبيعية استعاضت بتفوق العنصر البشري عن نقص مصادر الطاقة وعناصر الثراء الطبيعي, فالعقل البشري في النهاية هو الحاكم, والتفوق الإنساني مطلب لابديل له, وقد جاء الوقت الذي يجب أن نستيقظ فيه وأن ندرك حقيقة يجب ألا تغيب عن أذهاننا وهي أن العالم المتقدم لايعطي الدول المتخلفة أسرار التكنولوجيا(KNOWHOW) بمستواها الكامل وهو أمر يربط بالضرورة بين استقلال الإرادة وبين حيازة التكنولوجيا.
.. هذه عناصر أساسية في مسيرة الإصلاح الذي ننشده علي طريق الدولة العصرية وذلك يقتضي ضرورة الأخذ في الاعتبار أن إعادة ترتيب أوضاع البيت الوطني تمثل قضية مرتبطة تماما بالعناصر الثلاثة التي أشرنا إليها, إذ أن مصر دولة تنفرد دون غيرها بأن الاصلاح عملية متواصلة تشترك فيها الحكومة ومؤسسات المجتمع المدني وترتبط أيضا بالإدارة السياسية قبل أي عامل آخر, ولاشك أن الرؤية الجديدة لمؤسسات المجتمع وهيئاته بل و وزارته تحتاج إلي مراجعة وتنسيق فقطاع الآثار مثلا يرتبط بالثقافة والسياحة معا بل وربما بالطيران المدني أيضا, كذلك فإن المشكلة السكانية تشترك فيها كل وزارات الحكومة تقريبا وعلي الأخص الصحة والتعليم والشئون الاجتماعية والتأمينات, حيث تتعاون الاخيرة مع وزارة الأوقاف في الأعمال الخيرية والأنشطة التطوعية, كما أن التعاون الدولي يدخل تحت مظلة الشئون الخارجية وعلي ذلك لاتوجد خطوط فاصلة أو حدود مانعة, فالمسئولية الوزارية مشتركة والحكومة مسئولة أمام البرلمان, والبرلمان مسئول أمام الشعب الذي انتخبه, ورئيس البلاد هو ولي الأمر والحكم بين السلطات, ولكننا نضيف إلي ذلك أيضا أن هناك مجموعات جديدة من الوزارات المستحدثة بدأت تأخذ بها دول العالم المختلفة بحيث تغطي الموضوعات ذات الاهتمام الواسع مثل التنمية البشرية والمجتمع المدني وحقوق الانسان والتعاون الاقليمي, بل إنني أحيانا أتصور أن مصر يمكن أن تسمي وزارة الأشغال العمومية وزارة النيل والمياه مثلما أن قطاع الاثار يحتاج إلي شخصية محددة قد تتصل إلي حد المطالبة بوزارة مستقلة, تلك كلها أفكار عامة إلا أنها تصب في خانة واحدة وهي أن ترتيب البيت من الداخل شأن وطني يرتبط بالاصلاح السياسي والدستوري اللذين يكملان الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي ويمهدان لثقافة عصرية تحتوي كافة التيارات الجديدة والتوجهات الحديثة في الفكر المعاصر فضلا عن استيعابها لكافة القوي السياسية في المجتمع.
.. إنني أري مصر ــ الشقيقة الكبري والدولة القدوة غالبا ــ تخطو خطوات جادة نحو الإصلاح وتسعي في رصانة إلي الفهم الحقيقي للعالم الذي اختلف كثيرا دون أن تتخلي عن شئ من هويتها, أو تفرط في واحد من مبادئها, أو تتساهل في عنصر ثابت لديها, ما بقي النيل يجري, وما ظلت الأهرامات شامخة تحكي قصة الزمان والمكان حيث الكل في واحد.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2003/8/12/WRIT1.HTM