تميزت النظم المركزية ذات الطابع الشمولي بالقدرة علي كبح جماح القوميات والأعراق والطوائف, فالاتحاد السوفيتي السابق مثلا غطي بالأيدلوجية الماركسية عددا كبيرا من القوميات في داخله حيث احتواها وكتم أصواتها لعدة عقود, فلم تبرز قضاياها ولم تظهر مشكلاتها إلا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط الغطاء العقائدي, والأمر ذاته ينسحب علي دول أخري في الكتلة الشرقية عندما غطت الأيدولوجية الحاكمة في ظل غيبة الديمقراطية الحقيقية علي جميع الخلافات العرقية والمذهبية, وفي عصر حكم الرئيس العراقي السابق صدام حسين كنا نسمع أحيانا عن ثورة الشيعة أو انتفاضة الأكراد, ولكن الشكل العام للدولة كان يبدو موحيا بالخضوع لسيطرة مركزية عامة لا تسمح بالتعبير عن الاتجاهات أو إظهار الخلافات, وها هو العراق الآن يواجه من جديد تحديا من نوع آخر إذ ان تلك الدولة الثرية بالمياه والنفط معا وبالأرض والبشر أيضا هي الآن في مهب الريح تتقاذفها أمواج عاتية ورياح عاصفة لعل آخرها ما انعكس أخيرا من نتائج تشكيل مجلس الحكم الانتقالي الجديد علي أسس طائفية وعرقية, وهو أمر يفتح في ظني بابا يصعب إغلاقه ويستحيل التحكم فيه, فالتوزيع الطائفي والتقسيم العرقي في دولة موزاييك مثل العراق تتصف بصورة الفسيفساء المذهبية والعرقية يمكن أن يؤدي إلي انفجارات بغير حدود ويأخذ ذلك الشعب العربي الشقيق إلي نفق طويل لا يعرف أحد نهايته.
فإذا كانت الطائفية قد كلفت لبنان فاتورة فادحة الثمن دفعتها علي امتداد خمسة عشر عاما علي الأقل من حرب أهلية ضروس فإن إيقاظ الطائفية في العراق وتزكية فلسفة التقسيم السياسي بين أطراف اللعبة علي المسرح العراقي هو أمر يدعو إلي القلق ويثير الدهشة في الوقت نفسه, فالمجلس المعين من الحاكم المدني الأمريكي قد تشكل وفقا لتقسيم طائفي وعرقي يثير انزعاج الجميع ويحرك مشاعر جميع من يعتبرون أنفسهم مقهورين سياسيا أو من يعتقدون أنهم الأكثر عددا, وبذلك فإن العراق ربما يواجه إلي جانب الاحتلال الأجنبي نعرات جديدة ومشكلات لم يكن بحاجة إليها, وهنا نحاول أن نفصل ما أجملناه في هذه المقدمة: ـ
أولا: نحن نسلم بحقيقة معروفة وهي ان نسبة الشيعة في العراق تتفوق قليلا علي نسبة السنة ولكن هل هناك من يقول أن الفروق بين الشيعة والسنة تستوجب تقسيما طائفيا ينعكس بالتالي سياسيا؟ لا أظن ذلك, ولكن عندما يستبد الغرام بالتقسيمات وتطفو علي السطح عمليات التصنيف المذهبي والتوزيع الديني, فإن الأمر يأخذ أشكالا مختلفة ويسمح بظهور حالة من المبالغة والتهويل لا داعي لها إذ يجب تحكيم المعيار القائم علي الانتماء السياسي قبل غيره, فنحن لم نعرف أن طه ياسين رمضان سني وأن الصحاف شيعي الا بعد سقوط النظام, فالشيعة في العراق جزء من نسيجه الأصلي وليسوا تجمعا سكانيا وافدا إليه أو دخيلا عليه لذلك فإن إبعاد اللعبة السياسية عن الأعراق والديانات والمذاهب هو أمر يتواكب مع طبيعة العصر ويتماشي مع ظروف الدولة الحديثة.
ثانيا: ـ إن الموقف السياسي للشيعة وأئمتهم تحديدا أمر يبدو لافتا للنظر فهم جميعا يدينون الاحتلال ظاهريا ولكن منهم من يدعون إلي نبذل العنف والتعامل معه بالطرق الدبلوماسية برغم أنهم كانوا تاريخيا ثوار الإسلام عبر القرون يقفون علي يسار الأمة عندما يشتد البأس وتحدث المواجهة بين الأطراف المختلفة.
ثالثا: ـ إن تشكيل مجلس الحكم الانتقالي الجديد في العراق قد أدخل الأكراد في عداد السنة مع أن الأمر في نظري يؤكد أن كرديتهم القومية تسبق سنتهم المذهبية, ولكن يبدو أن معايير التفرقة وأسباب التمييز قد لعبت دورا كبيرا في تأكيد سياسة التفتيت التي تقترب إلي حد كبير مما عرفناه في تاريخ الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ووادي النيل تحت شعار فرق تسد.
.. هذه ملاحظات ثلاث رأينا أن نبدأ بها قبل أن ندخل في تفاصيل أوضح.
الكاظمية والأعظمية
تجسد هاتان المنطقتان في العاصمة العراقية الفروق المذهبية داخل الأغلبية المسلمة في بلاد الرافدين, فالكاظمية نسبة إلي الإمام موسي الكاظم( رضي الله عنه) والأعظمية نسبة إلي الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان( رضي الله عنه), ولقد رأيت فيهما الصورة الرمزية لتركيبة المسلمين في العراق وإن كنت لا أظن أن الفروق المذهبية بينهما تشكل في حد ذاتها سببا للخلاف, ولكن تغذية تلك الفروق واللعب عليها هي التي تدفع إلي ما نراه من حين لآخر, ولقد لاحظنا منذ بداية الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق, وحتي الآن أن تماسك الجبهة الداخلية يدعو إلي الاعجاب, فعلماء السنة يخطبون في المساجد الشيعية وأئمة الشيعة يتحدثون من فوق المنابر السنية, حيث رفض الجانبان أية محاولة أجنبية للتسلل بينهما أو دق إسفين يفرق وحدتهما, لكن محاولات أخيرة جرت في البصرة حيث تزيد نسبة سكان الشيعة بشكل ملحوظ فقد استولي بعضهم علي إدارة الأوقاف الاسلامية وطلب السيطرة علي عدد من المساجد السنية, وعندما تابعت مثل تلك الأخبار أيقنت أن مصر قد برئت من ذلك الداء مبكرا لأنها تحولت إلي مجتمع نقي خالص, أو هي كما أقول دائما سنية المذهب شيعية الهوي بتأثير العصر الفاطمي واحتضانها لأهل بيت النبوة منذ القرن الأول الهجري.
عرب وأكراد
الكرد يمثلون قومية عانت كثيرا لا في العراق وحده ولكن أيضا في إيران وتركيا وربما سوريا كذلك وهي قومية ذات خصوصية تعايش معها العرب اندمجوا فيها بصورة غير مسبوقة بالنسبة لقوميات الأطراف وأعراق التخوم المحيطة بالوطن العربي, وهي قومية قدمت للمنطقة نماذج متألقة بدءا من البطل القومي صلاح الدين الأيوبي وصولا إلي أمير الشعراء أحمد شوقي, ولقد عاني الأكراد اضطهادا بغير حدود وتعرضوا لمواقف بالغة الصعوبة ومارس النظام العراقي السابق ضدهم ألوانا بشعة من الإبادة التي استخدم فيها سلاحه الكيماوي حتي أصبحت حلبجة عنوانا تاريخيا للعذاب الكردي علي يد صدام حسين, لذلك تحمس الأكراد كثيرا لسقوط نظامه بعد أن اندفعوا ـ خصوصا حزب جلال طلباني ـ منذ سنوات صوب واشنطن يطلبون الدعم وينادون بالحكم الذاتي لا سيما أنهم يتركزون في الشمال, حيث تتركز ثروات العراق أيضا, ولقد حظي الأكراد بحملات ضخمة من التأييد الانساني داخل المجتمعات الغربية حتي أن زوجة الرئيس الفرنسي الراحل ميتران مازالت تعتبر أحد الرموز المساندة بشدة للقضية الكردية, ولقد ترددت أقوال كثيرة عن اتصالات كردية بكل العواصم العربية تقريبا وبإسرائيل أيضا فالعلاقات الكردية بالدولة العبرية ليست أمرا مجهولا لكثير من الدوائر المعنية بشئون الشرق الأوسط, لذلك كان طبيعيا أن يبدأ أول حاكم عسكري أمريكي وهو جارنر مهامه من الشمال حيث الأغلبية الكردية كمدخل لمحاولة الادارة الأمريكية السيطرة علي الشارع العراقي, وبرغم ذلك كله فإن الأكراد لا يخفون حاليا شعورهم بالاحباط علي اعتبار أنهم كانوا يتوقعون ميزات أكبر ومعاملة تفضيلية أشد في ظل الحكم الأمريكي للعراق.
الضوء في نهاية النفق
برغم الصورة القاتمة فإننا نري الضوء في نهاية النفق المظلم, ونتفق مع الذين يقولون ان قيام مجلس الحكم الانتقالي الجديد في العراق برغم كل ما يعتريه من نقائص وما يحيط به من مخاوف فإنه يعتبر خطوة ـ ولو محدودة ـ علي طريق حكم العراقيين للعراق بعد سقوط النظام السابق, فلقد طالب العرب من عواصمهم المختلفة بأن يكون حكم العراق للعراقيين وعلي الرغم من أن المجلس الجديد يفتقد إلي حد كبير الشرعية والشعبية معا, فإننا نراه علامة أولي علي طريق طويل قد يخرج به الشعب العراقي الباسل من النفق المظلم بعد سنوات من الحرب والحصار ثم الغزو العسكري الذي انتهي باحتلال قد يستمر لسنوات قادمة.
.. إننا أرادنا أن نقول ان عدم استقرار الأوضاع في العراق واستمرار العنف الذي يقاوم الوجود الأجنبي بشكل يومي هو تجسيد لإرادة شعب لا يقبل أن يخرج من قبضة الديكتاتور إلي سطوة الاحتلال, لذلك فإننا ندعي أن معاناته قد تطول وأن الاستقرار السريع لا يلوح في الأفق القريب, وإذا كانت الادارة الأمريكية مقبلة علي انتخابات رئاسية فإننا نتوقع للعراق شهورا ثقيلة وربما أعواما صعبة لأنه قد دخل إلي النفق الطويل منذ سنوات ومازال الضوء بعيدا عن ذلك البلد العريق والشعب الشقيق.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2003/7/29/WRIT2.HTM