ترددت تعبيرات تدور حول الإصلاح السياسي والدستوري بل والثقافي والاجتماعي وارتبطت في معظمها بالتطورات الأخيرة علي مسرح أحداث الشرق الأوسط كما عكست إلي حد كبير رغبة أمريكية في تأكيد الارتباط بين عجز بعض الأنظمة السياسية وبين الظاهرة الإرهابية التي طاولت الوجود الأمريكي في أكثر من موقع داخل الولايات المتحدة وخارجها اذ تقوم النظرية الأمريكية علي الادعاء بأن مسئولية توفير البيئة الحاضنة للإرهاب إنما تقع فقط علي عاتق بعض الأنظمة العربية التي لم تتمكن من الارتقاء بمستوي معيشة شعوبها ومحاربة الفساد في مجتمعاتها أو المضي في طريق الديمقراطية الحقيقية وتوسيع دائرة المشاركة السياسية وعلي الجانب الآخر فإن هناك من يرد علي هذه النظرية الأمريكية معتبرا أن البيئة الحاضنة للإرهاب إنما تغذيها سياسة ازدواج المعايير الدولية والدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل علي حساب الحقوق الفلسطينية واحتلال الأرض العربية, فالإحساس بغياب العدالة في القضايا الإقليمية واختفاء التوازن في العلاقات الدولية إنما يجسدان سببا قويا لدعم الارهاب واعطائه مبررا للاستمرار. كما ان واقع الأمر يؤكد أن الارهاب يعتمد علي مجموعتي الاسباب في النظريتين الأمريكية والعربية معا وعندما وجه رئيس مصر النصيحة للمجتمع الدولي كله قائلا إن الإرهاب لن يتوقف إلا بحل سياسي عادل وشامل للصراع في الشرق الأوسط لأن استمرار الأوضاع المتردية في المنطقة سوف يؤدي الي ظهور مائة بن لادن إنما كان يعبر بتجرد وموضوعية عن حقيقة اصبحت شديدة الوضوح ساطعة البيان
وإذا كان الإصلاح مطلبا حضاريا لا نقاش فيه وإذا كان التغيير ظاهرة بشرية طبيعية منذ الأزل فإن مقاومة الإصلاح وإجهاض التغيير هما تعبيران عن حالة من الفكر العبثي التي تصيب بعض الأمم وتنتاب عددا من الشعوب, كما أن الإصلاح والتغيير ينبعان من الواقع الذاتي ولا يمكن استيرادهما من الخارج او فرضهما بسطوة الغير لذلك فإننا نتناول هذه القضية شديدة الحساسية بالغة الأهمية من خلال المحاور الخمسة التالية:
أولا: ـ إن الإصلاح بكل جوانبه, دستورية وسياسية.. اقتصادية واجتماعية.. فكرية وثقافية هو مطلب حيوي للإنسان المعاصر ولشعوب الأرض جميعا كما أنه غاية للنظم وهدف للمجتمعات فضلا عن أنه يمثل مرحلة أساسية من مراحل التطور تتحدد من خلالها النقلة النوعية في كل ما يتعاطاه المجتمع من قيم وافكار وما يتداوله من تقاليد واعراف, لذلك فإن المجتمعات تحدد مسارها الصحيح من خلال موجات الإصلاح وعمليات التغيير من هنا فإنه لا ينبغي ان ننظر الي كل دعوة الي الاصلاح باعتبارها معادية للنظم القائمة أو الأفكار السائدة إذ أن الإصلاح يأتي تدريجيا ولا يعتمد علي صدمات مفاجأة أو خبطات غير مبررة, وهنا يختلف الاصلاح عن الثورة فالأخيرة تعتمد منطق القوة من اجل التغيير وتستبدل بالشرعية الدستورية مسميات اخري في مقدمتها تعبير الشرعية الثورية, ونحن هنا في المنطقة العربية احوج ما نكون الي الاصلاح العاقل والفاعل في ذات الوقت, خروجا من المعاناة الطويلة التي دفعت بالمنطقة الي حالة من الهوان العربي والتشرذم القومي حتي دخلت جامعة الدول العربية وهي المحصلة المؤسسية لمجموع الانظمة العربية في مرحلة من مراحل الضعف نتيجة غياب الارادة السياسية الساعية الي التغيير نحو الافضل وتحقيق الاصلاح المطلوب.
ثانيا: ان الحساسية التي تولدت من الطرح الامريكي الذي جاء مقترنا بالحرب علي العراق عندما كان يردد دعوته العامة الي الاصلاح الشامل ويربطها بالحرب المفتوحة ضد الارهاب علي نحو يثير الشك ويعطي احساسا بأن ذلك يتم لصالح تحقيق ادعاءات اسرائيل واتهاماتها المستمرة للعرب بالقصور الديمقراطي وغياب مناخ الحريات واختفاء المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان, كذلك فإنها هي أيضا الولايات المتحدة الأمريكية التي طرحت أخيرا مشروع اتفاق شراكة يربط اقتصاديات دول الشرق الأوسط بالاقتصاد الأمريكية في محاولة للرقابة المستمرة والمتابعة الدائمة لمستوي اداء النظم العربية وأساليب الحكم فيها, كما كانت محاضرة وزير الخارجية الأمريكي كولين باول في منتصف ديسمبر2002 بمثابة محاولة تصدير للفكر الأمريكي من خلال تقديم رؤية محددة لمستقبل المنطقة بصورة تتبناها واشنطن لذلك كله جاء رد الفعل العربي سلبيا إذ أنه بدلا من ان يفتش كل قطر عن اسباب تخلفه وعوامل ضعفه والفرص الضائعة منه فإن الذي حدث كان هو الاحساس بأن الاصلاح انما يحتاج حتما في طريقه حكومات قائمة وقيادات راسخة مع ان فلسفة التغيير لا تقف عند ذلك كما ان دعوة الاصلاح انما تتجه الي المؤسسات والسياسات والمناخ ولا تستهدف الافراد بالضرورة ثم تبقي هنا حقيقة اساسية وهي انه اذا كان الاصلاح ضرورة للبعض فإن المطلب الخارجي له لا يكون دافعا لتجاهله او مبررا لرفضه فالعبرة في الحاجة اليه والهدف منه.
ثالثا: إن الإصلاح والتغيير لا يستهدفان الأنظمة وحدها ولكنهما يتجهان الي الشعوب والمجتمعات لرفع ركام ضخم من الأفكار البالية والرؤي الأحادية التي لا تدرك معني التطور ولا تتجاوب مع طبيعة العصر, فالأصل في الحياة هو التجدد المستمر حيث يمثل دوران النخبة وتداول السلطة محطات سياسية لا مفر منها ولا تجاوز لها لذلك فإن بلدا مثل مصر تبدو للباحثين والخبراء وكأنها تستأثر بوضع خاص يمثل نموذجا فريدا فلا هي بالدولة المتخلفة فكريا وثقافيا ولا هي أيضا بالدولة العاجزة اقتصاديا واجتماعيا ورغم ذلك كله فهي تعاني من امراض الحضارات القديمة ومشكلات الادارة العتيقة التي بدأت مع عملية توزيع مياه النهر وتنظيم مواقيت الزراعة في مجتمع عرف الدولة قبل غيره وامتلك جهازا إداريا سبق به الدنيا منذ آلاف السنين, كذلك فإنها هي أيضا مصر التي صدرت الأفكار الكبري والتوجهات الأساسية التي تلقفتها شعوب إسلامية واحتضنتها مجتمعات عربية, لذلك كان قلق الأنظمة واردا وجاءت مخاوف الشعوب مبررة فهناك من يري ـ ومعه بعض الحق ـ ان الهوية ستكون مستهدفة والثقافة سوف تصبح محل جدل ويظل التعليم محور نقاش ثم نأتي الي اخطر النقاط واكثرها اثارة عندما تطفو المخاوف من محاولات المساس بالخطاب الديني لأن العقيدة ليست قابلة للحوار كما ان قداسة النص امر غير قابل للمجادلة, من هنا فإنني ازعم ان مقاومة التيار الاصلاحي تبدو روتينا تاريخيا عرفناه في كل العصور ولعل اقربها الي الاذهان تلك المقاومة التي واجهت الامام محمد عبده رائد الاصلاح الديني والاجتماعي, او قاسم امين داعية تحرير المرأة او علي عبد الرازق الذي قام في كتابه الشهير بعملية فك اشتباك بين الاسلام الحنيف والخلافة كمظهر للملك ووراثة الحكم, ولماذا نذهب بعيدا ان في عصرنا الحالي ووقتنا الراهن رموزا للاستنارة واجهت المتاعب واجبرت علي ان تترك اوطانها وان تفر بأفكارها لأن حجم التسامح الديني قد تضاءل كما أن مساحة الليبرالية الفكرية قد انكمشت.
رابعا: ان محاولة تصوير الاوضاع العربية كما لو كانت تعبيرا حضاريا غير قابل للتغيير او هي انعكاس لجذور روحية واصول قومية لا نقاش فيها إنما هي محاولة تعكس القلق من اوهام يجب الا تسيطر علي الانسان وهو يعيش في القرن الحادي والعشرين من الميلاد. كما انه يجب الا يغيب عن الذهن ان مقاومة الجديد هي طبيعة بشرية ورفض التغيير هو ظاهرة انسانية ولكن تبقي في النهاية مسئولية في اعناقنا تجاه الاجيال القادمة التي لا نريد لها ان ترمينا بالجمود الفكري او التعصب الديني او الجفاف الثقافي.
خامسا: إن اضاعة الفرصة الحالية للإصلاح العربي قد تكون هي العشاء الأخير لأمة الأصل فيها انها خير امة اخرجت للناس فالإصلاح يجب أن ينبع من داخلها كما أن التغيير يجب أن يصدر عنها, وهنا أنبه إلي حقيقة مهمة وهي أن التأخير في المضي نحو الاصلاح الحقيقي وتطبيق برامجه الجادة والسعي نحو التغيير الي الافضل, سوف تكون له آثاره السلبية علي الجميع وبغير استثناء لأن الزمن لا يقف عندنا, والدنيا لا تنتظرنا, وقوافل التطور تجري أمامنا, لذلك فإن التوقيت المناسب للقرار الصحيح والرؤي المبكرة والآراء الصائبة هي امور ترتبط بالمصلحة العليا للأمم والأمن القومي للأوطان.
هذه ملاحظات نسوقها بكل تجرد وموضوعية في ظرف شديد الخصوصية وامام تحديات غير مسبوقة لأننا نريد ان يتذكر الجميع ـ أنظمة وشعوبا ـ ان القلق من الاصلاح والخوف من التغيير هي امور تكبل الارادة. وتوقف الحركة, وتعيد الانسان الي الوراء, وتجعلنا نلفت النظر الي المحاولات العفوية والآراء السطحية التي تسعي احيانا الي مقاومة الإصلاح وإجهاض التغيير مع أنهما مرتبطان معا برؤية المستقبل, واستشراف الغد, ونهضة الأمة.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2003/6/17/WRIT1.HTM