يجري حديث يتداوله المعنيون بشئون الشرق الأوسط وخبراء المنطقة يدور حول تساؤل مؤداه هل ما نحن مقبلون عليه يعني نجاح المحاولة الأمريكية لتدجين الشرق الأوسط واستئناس الدول العربية بعد أن سقطت بغداد واحتلت العراق وجري تهديد سوريا وإيران ودخلت المنطقة بالكامل في مزاج مختلف وروح جديدة!
ولقد جمعني لقاء منفرد لقرابة ساعتين مع أستاذي الدكتور بطرس غالي الأمين العام السابق للأمم المتحدة بعد أن هاتفني مستفسرا عن وعكة صحية طارئة ألمت بي فلما برئت منها سعيت إليه في منزله علي ضفاف نيل الجيزة استمع إلي الأستاذ المتمرس صاحب الخبرة العريضة والفريدة الذي تربطني به علاقة التلميذ بأستاذه منذ أكثر من أربعين عاما تعلمنا منه فيها التفكير المنظم وأسلوب طرح الأولويات والمناقشة الموضوعية للقضايا في شفافية ووضوح وقد قال لي ذلك الرجل الذي شغل الدنيا كلها لعدة أسابيع عند تعيينه في أرفع منصب دولي وشغلها لعدة شهور أخري عندما أنهت الولايات المتحدة الأمريكية مهمته ووقفت ضد الإرادة الدولية في التجديد له لأنه لم يكن أداة طيعة في يد واشنطن فإذا به يحصل علي أربعة عشر صوتا في مجلس الأمن تؤيد التجديد له لفترة ثانية في مقابل رفض الولايات المتحدة الأمريكية وحدها فكان لها ما أرادت.
وكانت تلك إشارة لا تخطئها العين مؤداها أن العالم قد تغير وأن الكلمة العليا أصبحت للقطب الأوحد وحده وقد قال لي الدكتور بطرس غالي- ضمن أفكار مختلفة يطرحها ذهنه الصافي في تلك المرحلة الرصينة من العمر ـ إن الحرب الأخيرة علي العراق هي رد فعل طبيعي لحادث الحادي عشر من سبتمبر2001 فالكثير من الأمريكيين يشعر بأن يوم سقوط بغداد هو يوم رد الاعتبار للولايات المتحدة الأمريكية التي تحولت لديها العملية الإرهابية فينيويورك و واشنطن في وقت واحد إلي عقدة متجذرة في عمق الوجدان الأمريكي وكان لابد للقوة العظمي في عالم اليوم أن تسعي نحو مغامرة عسكرية كبيرة تستعيد بها الثقة في النفس وترسل من خلالها إشارات للقوي الدولية والإقليمية بدءا من أوروبا ومرورا بالصين ووصولا إلي كوريا الشمالية تقول فيها أنها صاحبة القوة المنفردة في العالم والتي تستطيع أن تتصرف وحدها عندما تشاء ولقد كان من حظ بلاد ما بين النهرين أن تكون العراق هي مسرح العمليات ومركز إطلاق الإشارة المطلوبة ولسنا نعرف بالضبط حتي الآن إذا كان ما جري هو بداية سلسلة من الاضطرابات والقلاقل بل وربما العمليات الإرهابية أيضا التي يمكن أن تجتاح الشرق الأوسط بفوضي العنف أم أن المنطقة سوف تدخل بالضرورة مرحلة تدجين واستئناس بل واستقرار وإصلاح وبين الخيارين وفي منتصف الاحتمالين أطرح الملاحظات التالية:
أولا: إن الشرق الأوسط كان مصدر قلق واضطراب في العقود الخمسة الأخيرة حيث يمثل الصراع العربي ـ الإسرائيلي صداعا دوليا لا يمكن تجنبه ولقد دخلت المنطقة في أجواء اضطرابات طويلة بسبب استهدافها من جانب القوي الكبري خصوصا في عملية الإحلال والإبدال بين الاستعمار التقليدي البريطاني والفرنسي وبين النمط الجديد من الهيمنة الذي تمثله الولايات المتحدة الأمريكية بشكل سافر خصوصا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي السابق وانفراد واشنطن بعملية إعادة ترتيب الأوضاع الدولية وفقا لما تريد وقد كان نصيب الشرق الأوسط من الشهية الأمريكية المفتوحة كبيرا لأن11 سبتمبر2001 خلقت وهما أمريكيا يعتبر أن الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية لا يقف عند حدودها ولكنه يتأثر بكل ما يجري في بقاع العالم المختلفة خصوصا في المنطقة العربية والدول الإسلامية.
ثانيا: لقد أبرزت عملية سقوط بغداد واحتلال العراق ووجود جنرال أمريكي يحكم أرض الرافدين من عاصمة العباسيين كان بمثابة زلزال قوي غير المفاهيم وبدل البرامج وجعلنا أمام حقائق جديدة لم يكن لها وجود من قبل خصوصا أن دراما السقوط قد تمت بشكل مفاجئ بل وغامض حتي الآن لأن النظام العراقي السابق قد حارب بكوادر حزب البعث وحده الذي سلحه دون غيره وحرم جماهير الشعب العراقي من حق الدفاع عن وطنها خصوصا أن الخوف من ذلك النظام والعداء له قد أثر إلي حد كبير في رد فعل العراقيين تجاه القوات الغازية وهنا يجب ألا يغيب عن البال أن سقوط الجناح العراقي لحزب البعث العربي له أيضا تداعياته في المشرق العربي وعلي سوريا تحديدا رغم العداء المعروف بين الجناحين منذ سنوات طويلة.
ثالثا: إن من نتائج ما جري أيضا هو ظهور الشيعة علي المسرح السياسي للأحداث كقوة ذات ثقل سياسي وديني مع إحساس كامل لديهم بالقهر وغياب الدور في ظل حكم الرئيس السابق صدام حسين ولقد كانت مظاهرتهم الاستعراضية يوم الاحتفال بأربعينية سيد الشهداء هي مثال للإحساس بالقوة والخروج إلي الساحة بعد ضغوط طويلة ولا يمكن أن نتحدث عن شيعة العراق دون أن نشير إلي شيعة لبنان والمواجهة المحتملة مع حزب الله الذي تمثل سوريا وإيران الركيزتين الداعمتين لوجوده واستمرار دوره وهو بالمناسبة يمثل هاجسا كبيرا لدي إسرائيل بصورة تتفهمها واشنطن وتسعي لتحقيق ذلك الهدف الإسرائيلي في هذه الظروف الاستثنائية التي تمر بها المنطقة.
رابعا: إن وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد قد أدلي بتصريح له مغزاه قال فيه أن الولايات المتحدة الأمريكية لا توافق علي قيام نظام سياسي ديني في العراق علي النمط الإيراني تحديدا وهو بذلك لا يستبعد بالكامل القبول الأمريكي بدور سياسي لجماعات دينية في العراق الجديد تحت مظلة الديمقراطية التي يتحدثون عنها وفي ظني أن واشنطن لن تمانع في قيام نظام سياسي تقوده حكومة تمثل توجها إسلاميا شكليا علي غرار النموذج التركي لأن ذلك سوف يحقق لها عدة أهداف في وقت واحد أولها ضمان نوع من الاستقرار النسبي لشعب لم يعرف الاستقرار الحقيقي طويلا عبر تاريخه كله كما أنه يصنع واجهة ترضي بعض التيارات الإسلامية المعتدلة وتمتص روح الغضب الرافض للدور الأمريكي في المنطقة وتؤدي إلي حالة من حالات التعاون المحتمل مرة أخري بين الولايات المتحدة الأمريكية وبعض التيارات الدينية في الدول العربية والإسلامية.
خامسا: إن الحرب علي العراق كانت بمثابة رسالة واضحة وجهتها الولايات المتحدة الأمريكية للدول العربية والإسلامية فيها من الترهيب بقدر ما فيها من الترغيب ولكنها تتطلع في النهاية إلي حالة من تطبيع العلاقات بين كافة الأطراف واستئناس كل القوة المشاغبة وتغيير الخطاب السياسي بالكامل في المنطقة ولعلي أزعم هنا أن واشنطن برغم كل المصاعب والمتاعب ـ قد وجدت بعض الاستجابة لرسالتها الجديدة.
سادسا: إن التحولات التي تسعي إليها واشنطن والتغييرات التي تطلبها بدعوي الإصلاح تدور كلها حول ثقافة المجتمعات العربية والسعي للعبث بهويتها ولاشك أنها ملحة في هذا المطلب مصممة علي المضي في هذا الاتجاه فلقد صرح الرئيس الأمريكي الحالي أكثر من مرة بأنهم جاءوا إلي العراق ليمكثوا فترة لا يمكن تحديدها إلا وفقا لإنجاز المهمة التي أعلنوا عنها وتحدثوا منذ شهور حولها والتي جسدتها ما سميت بمبادرة الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية التي أطلقها كولين باول في محاضرته الشهيرة عند منتصف ديسمبر عام2002.
سابعا: إن الشخصية الحضارية للأمة العربية والإسلامية تبدو هي الأخري مستهدفة فالتعليم الديني مصدر قلق للولايات المتحدة الأمريكية والحماس القومي الشديد مصدر تحفظ عندها فالمنطقة لم تعد كما كانت وحدود الحركة لم تعد متاحة بالقدر الذي كانت عليه وإسرائيل حققت جزءا كبيرا من أحلامها بعد أن أمنت لها الولايات المتحدة الأمريكية تقريبا الجبهة الشرقية وأعطتها الفرصة لكي تتسكع علي خريطة الطريق دون ضوابط واضحة أو نهايات محددة.
إن استعراض النقاط السابقة يؤكد أنه ليس بمقدورنا أن نقول أن الشرق الأوسط يدخل بالضرورة مرحلة التدجين الفكري والاستئناس السياسي ولكننا نستطيع أن نقول وبارتياح ان الأمور مازالت غير واضحة وأن الجزء الخفي من الأجندة الأمريكية لم يظهر بعد ويجب أن يتطلع العرب في هذه المرحلة إلي قدراتهم الذاتية وأن يتجهوا إلي تعزيز مسيرة الإصلاح الداخلي والوعي الخارجي لأنه لا بديل عنهما في مواجهة الرياح العاصفة التي تعرضنا لها والأنواء التي ما زالت تحيط بنا والضباب الذي يغلف مستقبل المنطقة كلها.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2003/6/3/WRIT2.HTM