تردد في الاسابيع الأخيرة حديث معلن في الصحافة الأمريكية ومستتر في الصحافة العربية حول ما يمكن تسميته بقائمة الطلبات الموجهة لدول المنطقة بعد الحرب علي العراق والتي مكنت للولايات المتحدة الأمريكية من أن تتمركز رسميا في واحدة من أكبر الدول العربية وأهمها حيث يقبع جنرال أمريكي علي رأس الإدارة الحالية في بغداد لذلك فإنه يتعين علينا أن نناقش وبوضوح دور مصر في المرحلة القادمة ونعني بذلك مصر المؤسسات, ومصر السياسات, بل ومصر المناخ الفكري والثقافي, ويهمني هنا أن أسجل ملاحظة اساسية وهي أن المطلوب من مصر بالذات ليس مطلوبا من سلطة الحكم وحده ولكنه يتجه أيضا إلي الشعب المصري ذاته لأنه يمثل دائما قيادة قومية لشعوب المنطقة, فهو الشعب الذي خرجت جماهيره دائما لترفض الوجود الأجنبي, وهو الشعب الذي ساند القضية الفلسطينية بأكثر من مائة ألف شهيد في خمس حروب دامية خلال ربع قرنوهي حروب1948 و1956 و1967 وحرب الاستنزاف ثم حرب1973 التي توجت النضال المصري بالعبور العظيم, ثم انها أيضا مصر التي خرجت منها الأفكار الرئيسية والشعارات الأساسية علي امتداد القرن الماضي كله, وهي مصر التي قادت حركة التنوير في القرن التاسع عشر من رفاعة الطهطاوي إلي محمد عبده وهي التي قادت حركة التحرير في افريقيا والعالم العربي حول منتصف القرن العشرين ومع سنوات المد القومي الذي جسدته كاريزما الرئيس الراحل عبدالناصر وهي أيضا التي قادت التوجه نحو تسوية شاملة وعادلة للصراع العربي الإسرائيلي عندما قاد المبادرة إلي ذلك الرئيس الراحل السادات. وهكذا كانت مصر دائما هي الفاعل الرئيسي عند المنعطفات والمرشد الاساسي في مفترق الطرق, وإذا كان لنا أن نرصد الآن المحاور التي سوف تدور حولها حركة الاصلاح الذي يتعين أن تقوده مصر في المرحلة القادمة باعتبارها الدولة النموذج التي ينقل عنها غيرها ويتابعها اشقاؤها بحكم المكان والمكانة والتاريخ والريادة, فإننا نجمل تصورنا في النقاط التالية:ـ
أولا ـ خلافا لمعظم دول المنطقة فان مصر تستأثر بوضع خاص يجعل المطلوب منها منصرفا إلي الشعب المصري ومؤسساته المدنية بقدر اتجاهه إلي الحكومة المصرية وهيئاتها الرسمية ذلك أن المجتمع المصري يحتوي أكبر مخزون للقيم والتقاليد ويضم ميراثا ضخما للحضارات التي تعاقبت علي أرضه والثقافات التي وفدت إليه لذلك فإن التأثير في ملامح الهوية المصرية يبدو الآن أمرا مطلوبا والتأثير هنا يقوم علي قاعدة مثلث أضلاعه هي التعليم والثقافة والإعلام فالمطلوب صراحة هو التدخل في العقل المصري وربما تنظيم مخرجات ذاكرته الوطنية أيضا, لذلك فإن المساس بدور بعض المؤسسات المصرية التي جري تشييدها عبر العصور لايبدو أمرا بعيدا عن بعض الأفكار المتداولة في السوق السياسية الدولية.
ثانيا: ان المجتمع المصري من أكثر المجتمعات البشرية تدينا وارتباطا بفكرة الإله منذ اكتشف الفراعنة مبدأ التوحيد علي يد اخناتون في مرحلة سابقة علي الديانات السماوية ذاتها, لذلك فان الدين يحتل حيزا كبيرا في العقل المصري وقد ادرك هذه الحقيقة الطغاة والغزاة والحكام بدءا من الاسكندر الأكبر وصولا إلي نابليون ومحمد علي والغرب كله لاينسي والأمريكيون يدركون أيضا هذه الحقيقة وهي أن الإسلام السياسي واحد من أهم الصادرات الفكرية المصرية في القرن العشرين عندما بدأت حركة الأخوان المسلمين علي يد الامام الشهيد حسن البنا عام1928 وهي الحركة التي انتشرت بعد خروجها من إطارها المصري المحلي إلي العالم الإسلامي كله لكي تتلقفها رموز معروفة من أمثال أبوالأعلي المودودي وسيد قطب وصولا إلي حركات العنف السياسي التي اتخذت الإسلام غطاء منذ تزايد دورها من الاحباطات التي استقرت في الوجدان الإسلامي مع النكبة ثم النكسة حتي الكارثة خصوصا وأن شهر العسل الذي شهدته العلاقة بين التيار الإسلامي والولايات المتحدة الأمريكية قد انقضي مع قيام الثورة الإسلامية في إيران رغم بلوغه الذروة في التعاون المشترك بينهما ضد الاحتلال السوفيتي لافغانستان وان كانت هناك أحاديث تتردد علي استيحاء عن ترحيب أمريكي حاليا بالتعاون مع التيار الإسلامي في عدد من الدول العربية وليس في العراق وحده وهذه مسألة مهمة تحتاج المتابعة والدراسة.
ثالثا: إن المؤسسة الإسلامية الرسمية في مصر وهي الأزهر الشريف أصبحت محل انتقاد صامت في كثير من الدوائر الأمريكية إذ لاينسي المتطرفون في واشنطن ذلك الموقف القوي والفتاوي الحاسمة والبيانات القاطعة التي صدرت عن الأزهر الشريف أثناء الحرب علي العراق وقبلها وبعدها, كما أن موقف الأزهر ـ وهو أكبر مركز إسلامي لأهل السنة فضلا عن تدريسه للفقة الجعفري لأهل الشيعة أيضا ـ الداعم بشدة للقضية الفلسطينية والرافض للسياسات الإسرائيلية هو أمر لا تنساه تلك الدوائر التي تخطط للمنطقة وتتصور لها مستقبلا قد يختلف كثيرا عن هويتها القومية وشخصيتها الحضارية خصوصا وأن مصر سنية المذهب شيعية الهوي.
رابعا: إن مواقف الكنيسة القبطية المتشددة ضد الاحتلال الإسرائيلي والمتمسكة بالمواقف القومية لاتبرأ هي الأخري من بعض الانتقاد واللوم, لذلك فان المؤسسة الدينية المصرية عموما هي محل انتقاد عام لأن المطلوب هو القبول بالاوضاع الجديدة والتوقف عن حملات الانتقاد والكف عن ترديد النصوص الدينية التي تحذر من اليهود أو تحث علي اليقظة من المخاطر التي تحيط بالأمة, من هنا فإن المدارس الدينية والمعاهد الأزهرية سوف تكونان هدفا للرغبة في التغيير تحت دعاوي الاصلاح والحداثة والعصرنة, وهنا يجب أن نضع في الاعتبار أن هناك اشارات إيجابية صدرت اخيرا من عواصم عربية, فمصر ـ علي سبيل المثال ـ صدق برلمانها مؤخرا علي اتفاقية المشاركة مع أوروبا, وأغلق القضاء فيها ملف قضية د. سعد الدين ابراهيم وجرت عملية تحرير كامل لسعر صرف العملات الأجنبية أمام العملة الوطنية, كما أن المجلس الأعلي للسياسات في الحزب الوطني قد بادر بطرح أفكار حول انشاء المجلس القومي لحقوق الانسان والغاء محاكم أمن الدولة في غير اختصاصها والاستغناء عن عقوبة الأشغال الشاقة في السجون, ومصر لم تفعل ذلك بضغط خارجي ولكن اتساقا منها مع روح العصر وتطور الظروف.
خامسا:ـ إن الحس القومي والتوجه العروبي وثقافة رفض الوجود الأجنبي وكلها من مكونات الضمير الجمعي للشعب المصري هي أمور سوف تكون موضع مراجعة لأنه إذا هدأ الوجدان المصري ربما استجابت لهدوئه شعوب عربية أخري فالمطلوب هو تأكيد التعود علي الواقع الجديد والتعايش مع ثقافة سياسية ودينية تقوم علي مبدأ القبول بالأمر الواقع والتوقف عن رفض الآخر والابتعاد عن الحساسية من الهيمنة الأجنبية مع التسليم بأننا نعيش العصر الأمريكي بكل معطياته وتوابعه!
... إن استعراض النقاط السابقة يوضح أن روشتة الاصلاح في مصر لاتستهدف السلطة وحدها بل تستهدف عقل الشعب وضمير الأمة أيضا خصوصا وأن مصر قد عرفت في العقود الثلاثة الأخيرة تيارات فكرية متشددة بدت الحكومة أمامها أكثر ليبرالية وأشد اعتدالا, وهنا لابد أن نطرح بصراحة لماذا تبدو مصر مستهدفة أكثر من غيرها رغم أن الشوط الذي قطعته نحو الاصلاح لايبدو قصيرا, فالسبب في ظني يكمن في الدوافع التالية:
أ تزعم دوائر ناقدة للدور المصري أنه كان دورا تحريضيا لا يستجيب دائما للضغوط ولايمضي مع التيار المطلوب وهم الذين يرددون دائما مقولة أن الإرهاب قد يكون ظاهرة دولية عضلاتها موزعة بين الشعوب الإسلامي ولكن العقل الذي وقف وراءها كان مصري المصدر والنهج والثقافة.
ب ـ ان مصر ـ في ظنهم ـ كان يمكن ان تقوم بدور أكبر في خدمة سياسات الهيمنة ودعاوي السيطرة ولكن الوطنية المصرية هي التي جعلت سياساتها غير المعلنة متطابقة إلي حد كبير مع سياساتها المعلنة, فالضمير المصري مسئول دائما امام أمته, معني غالبا بعروبته, وهو أمر لاتستريح إليه دوائر عديدة تشارك في صنع سياسات القوي العظمي والكبري تجاه الشرق الأوسط.
ـ إن ما يطلقون عليه تعبير السلام البارد بين مصر وإسرائيل هو واحد من اسباب الغيظ المكتوم تجاه مصر التي لم يقبل شعبها المضي منفردا في التطبيع الكامل مع الدولة العبرية رغم احترامه للالتزامات التعاقدية والاتفاقات الدولية.
دعني اقل إن مصر التي حققت بنجاح برنامج الاصلاح الاقتصادي رغم ما طرأ عليه من مشكلات في السنوات الأخيرة ومصر التي تنتج أغلي سلعة في المنطقة وهي السلعة الثقافية ومصر التي تملك أكبر أدوات التأثير المحوري عند صياغة المستقبل وإضفاء الشرعية علي الأوضاع التي يمكن قبولها عربيا والتعامل معها قوميا.. إنها إيضا هي مصر التي يجب أن تقود حركة الاصلاح السياسي والدستوري في المنطقة وتبشر بالثقافة العصرية وتتقدم بالنموذج الذي يثير الإعجاب ويغري بالمحاكاة فهي مصر التنوير والتحرير فمن الطبيعي أيضا أن تكون هي مصر الاصلاح.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2003/5/6/WRIT1.HTM