ناقشنا في المقال السابق مستقبل النظام الإقليمي العربي وهذه المرة نناقش مستقبل التنظيم الدولي العالمي الذي شهد في تطوره مراحل مختلفة منذ إرهاصات ميلاده سواء جاء ذلك سعيا نحو الوحدة الإسلامية أو ارتباطا بالكنيسة المسيحية إذ كانت المؤتمرات الدولية المبكرة شكلا من أشكال التنظيم الدولي المؤقت الذي يرتبط بمناسبة معينة أو يعبر عن قضية بذاتها ولا نزال نتذكر ما كتبه عبد الرحمن الكواكبي منذ قرن مضي عندما تصور تنظيما دوليا إسلاميا في كتابه الشهير( أم القري) وإن كنا نري أن التنظيم الدولي بمفهومه الحديث قد بدأ فقط مع نهاية الحرب العالمية الأولي عندما ولدت عصبة الأمم لكي تكون بمثابة المنظمة الدولية التي ترتب أوضاع عالم ما بعد الحرب وتنظم شكل العلاقات الدولية بين المنتصرين وغيرهم من أطراف الصراع الأخري التي شاركت في تلك الحرب الكونية.
ولقد انشغلت عصبة الأمم بالمشكلات الأوروبية بالدرجة الأولي- ربما باستثناء الحرب الإيطالية علي الحبشة إلي جانب بعض القضايا الإقليمية الصغيرة- لأن معظم الدول الإفريقية والآسيوية كانت لا تزال تحت السيطرة الاستعمارية للرجل الأوروبي الأبيض ولم تنضو تحت لواء العصبة
وعندما ظهر هتلر علي المسرح السياسي, واجتاح عددا من العواصم والمدن الأوروبية إيذانا ببداية الحرب العالمية الثانية فإن عصبة الأمم بدأت تفقد فاعليتها وتتجه في هدوء لتأخذ مكانها في ذمة التاريخ, ولما كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد دخلت في حلبة الصراع الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الأولي مع إعلان ويلسون لمبادئه الشهيرة التي تدور حول حق الشعوب في تقرير مصيرها فإن النقلة الكبيرة للدور الأمريكي علي مسرح السياسة الدولية قد اقتربت بنهاية الحرب العالمية الثانية واستخدامها للسلاح الذري ضد مدينتين في اليابان هيروشيما و ناجازاكي وردا علي ضرب أسطولها في بيرل هاربور وعندئذ بدأت الولايات المتحدة الأمريكية تتطلع إلي وراثة الدور الأوروبي الذي جسدته الدولتان الاستعماريتان بريطانيا و فرنسا حيث عبر مشروع مارشال عن رؤية أمريكية جديدة لإنعاش أوروبا التي خرجت من الحرب منهكة القوي مستنزفة الموارد وعندما بدأت الأعمال التحضيرية لقيام الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو فإن التأثير الأمريكي كان واضحا علي شخصية تلك المنظمة حيث جعلت مقرها في نيويورك بديلا لمقر عصبة الأمم في جنيف وكأنما هي إشارة إلي انتقال مركز الثقل السياسي من أوروبا إلي الولايات المتحدة الأمريكية ونصت ديباجة ميثاق المنظمة الوليدة علي مبادئ براقة وشعارات جديدة تتمحور حول قضايا الأمن والسلم الدوليين وعقدت الشعوب آمالها العريضة علي تلك المرحلة الجديدة من مراحل التنظيم الدولي المعاصر, ولابد أن نؤكد هنا أن تلك المنظمة قد لعبت دورا تاريخيا وعظيما في تصفية الظاهرة الاستعمارية وتحرير الشعوب حتي تضاعف عدد أعضائها بأكثر من ثلاثة أمثال العدد في بدايتها, فلقد انعكست حركة التحرر القومي والاستقلال الوطني علي أنشطة الأمم المتحدة واتجاهاتها وقدمت خدمات جليلة لكثير من شعوب آسيا وإفريقيا ومارست دورا مؤثرا في عدد من الأزمات الدولية مثل السويس المصرية و خليج الخنازير الكوبية و الكونجو الإفريقية وغيرها من الأزمات الإقليمية التي مرت علي المجتمع الدولي في سنوات الحرب الباردة كما أنها عايشت المشكلات المزمنة مثلالقضية الفلسطينية والمسألة القبرصية والمشكلات الكشميرية فضلا عن دورها الذي أرتبط بالجانب الاقتصادي والثقافي والاجتماعي متمثلا في وكالاتها المتخصصة التي أدت دورا كبيرا في تحضير الشعوب وترقية الأمم وظلت الجمعية العامة للأمم, المتحدة منبرا دوليا يعبر- ولو شكليا- عن مبدأ المساواة في
السيادة بين الدول حيث يتمتع كل منها بصوت واحد مهما يبلغ حجمها السكاني أو تقدمها الاقتصادي أو سيطرتها السياسية أما مجلس الأمن فهو الذي ظل يحمل دائما بذور فناء الأمم المتحدة لأنه يمثل( حلف المنتصرين) ويعبر عن التفاوت الضخم بين أقدار الأمم ومكانة الشعوب فعضويته الدائمة بما تكفله من حق النقضVETO صادرت كثيرا من أماني الدول وأعطت ميزات نسبية لمجموعة معينة علي حساب غيرها وما زالت المطاعن الرئيسية التي توجه للأمم المتحدة تصدر من تقويم عمل مجلس الأمن وما يلحق به من انتقادات ترتبط بسوء استخدام حق الفيتو فضلا عن ضعف القوة الإلزامية له ورغم انتشار قوات حفظ السلام مع الأزمات الدولية المختلفة سواء في البلقان أو إفريقيا أو المشرق العربي أو غيرها ورغم كل الجهود التي جرت لتطوير آليات العمل في تلك المنظمة الدولية العالمية وتعديل ميثاقها بما يواكب روح العصر وينسجم مع التطورات الجديدة تركيزا علي الرغبة في توسيع مجلس الأمن حتي يحتوي علي القوي الجديدة في العالم المعاصر والتغييرات التي استجدت مع فكر العولمة وتطور القانون الدولي الإنساني برغم ذلك كله ظل جهدها مقصورا علي بلوغ الغايات التي قامت من أجلها ولقد حاول بعض من تولوا منصب السكرتير العام إدخال تغييرات غير تقليدية علي المنظمة ونذكر في هذا الشأن جهود الأمين العام المصري بطرس غالي الذي قدم أجندة السلامAGENDAFORPEACE كعلامة مهمة في تاريخ الأمم المتحدة يهمني في هذه المناسبة أن أركز علي نقاط ثلاث:
أولا: إن دور الأمين العام للأمم المتحدة حيوي وفاعل وتتحدد بشخصيته قيمة ذلك الدور ومدي تأثيره فمنهم من اكتفي بدور إداري تنظيمي ومنهم من تمسك بدور سياسي مؤثر ولو استعرضنا أسماء الأمناء العامين للأمم المتحدة منذ إنشائها لوجدنا تريجفي لي النروجيي همرشيلد السويدي يوثـانت البـورمي و فالدهايم النمساوي و دي كويلار البيروي و بطرس غالي المصري و كوفي أنان الغاني إنما يمثلون جميعا سلسلة متصلة من الجهود البارزة لقيادة ذلك العمل الدولي الضخم وإذا كانت حياة الأمين العام الثاني همرشيلد قد انتهت بحادث طائرة في الكونجو, كما أن الأمين العام السادس بطرس غالي قد أخرج من منصبه رغم حصوله علي أربعة عشر صوتا في مجلس الأمن أيدوا بقاءه في مقابل صوت واحد هو الولايات المتحدة الأمريكية التي صممت علي رفض التجديد له فإن ذلك يشير إلي محاولة هذين الأمينين العامين توسيع دائرة صلاحيتهما السياسية علي نحو يبدو, وأنه هو الذي حدد نهاية دورهما.
ثانيا: إن الموقف الأمريكي من الأمم المتحدة لا يبدو متحمسا لها ولكنه فقط مستخدم لصلاحياتها فالولايات المتحدة التي تمثل القطب الأوحد وتتصدر قيادة العالم المعاصر لم تدفع الأقساط المطلوبة من حصتها في ميزانية الأمم المتحدة حتي إن تلك المتأخرات قد أصبحت تحسب بالمليارات من الدولارات الأمريكية وقـد ركزت واشنطن أهمية الأمم المتحدة لديها في مجلس الأمن الذي تستمد منه غطاء الشرعية عند اللزوم و الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي تمثل النادي المغلق للدول النووية بالإضافة إلي منظمة التجارة الدولية بدورها المنتظر في تكييف مستقبل العلاقات الدولية الاقتصادية إنها الولايات المتحدة الأمريكية التي انسحبت من اليونيسكو منظمة الثقافة والآداب والعلوم ومن اليونيدو منظمة التنمية الصناعية للدول الفقيرة, فهي لا تسعي إلا لتحقيق ما تريد ولا يعنيها ما يحتاج إليه الآخرون.
ثالثا: إن الأزمة العراقية التي نعيش تطوراتها حاليا وأسلوب معالجة الأمم المتحدة لها, وكيفية تعاملها مع تداعياتها القادمة سوف تحدد مستقبل تلك المنظمة الدولية العالمية, فالأمريكيون مستاءون من استخـدام غيرهم لحـق( الفيتو) حيث حرمتهم فرنسا غطاء الشرعية الدولية في حربهم غير المبررة وغير العادلة علي العراق, وقد تسعي واشنطن لخلق شرعية غربية محدودة من خلال دول شرق أوروبا التي انضمت أخيرا للاتحاد الأوروبي ثم لحلف الأطلنطي, وفي هذه الحالة لن يزعج الولايات المتحدة الأمريكية( فيتو) آخر رغم محدودية إطار الشرعية الأطلنطية الجديدة وعلي الجانب الآخر فإن الأوروبيين وغيرهم يرون أن الأمم المتحدة تحولت إلي أداة في يد واشنطن ولعل الاتهامات التي وجهتها بغداد أخيرا للأمين العام الحالي كوفي إنان تعكس شيئا من ذلك من هنا فإننا نظن أن الأمم المتحدة لا تحظي برضاء كل الأطراف سواء كانت أمريكية أو أوروبية أو حتي عربية.
.. والآن يصبح من حقنا أن نتساءل هل سوف يتمخض المستقبل القريب في السنوات القادمة عن تغيير جذري في هيكل التنظيم الدولي وهل ستولد منظمة دولية جديدة أكثر وفاء بالتزامات العصر ومواكبة لتطوره إنه الأمر الذي يطرح بحث التساؤل الكبير هل دخلت الأمم المتحدة بالفعل مرحلة بداية النهاية.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2003/4/8/WRIT1.HTM