لقد سيطرت الأزمة العراقية الحالية علي الساحة العربية في الشهور الأخيرة بينما بقيت القضية الفلسطينية المزمنة هي الهم الأول والهاجس الرئيسي في العقل العربي, لأنها هي القضية الأولي التي ارتبطت بها أجيال ثلاثة علي الأقل في التاريخ المعاصر فضلا عما يحيط بها من طابع يتميز بالتعددية بل والتشابك حيث تتداخل فيها الجوانب السياسية مع التأثيرات الدينية علي نحو يجعل وصولها الي رجل الشارع أمرا يسيرا ومستمرا, ولقد جرت محاولات متعددة وبذلت جهود متتالية لحل الأزمة العراقية في جانب, وللخروج من المأزق الحالي للقضية الفلسطينية في جانب آخر ولكن بقيت الملاحظة الدائمة علي العمل العربي المشترك هي أنه ينطلق غالبا من نظرات جزئية ومواقف تفصيلية تختفي منها الرؤية الشاملة ويغيب عنها التصور المتكامل فضلا عن أنه أصبح ميراثا عربيا معروفا عندما تأتي كلمة نعم متأخرة فتكون الفرصة قد أفلتت والثمن المطلوب لم يعد معروضا.
وهذا القول ينطبق علي الأزمة العراقية مثلما ينطبق علي مسار القضية الفلسطينية أيضا لذلك يهمني في هذه المناسبة أن أضع تصورا اجتهد فيه لتحديد ملامح هذه المنطقة التي نعيش فيها والتي ترتبط بحاضرنا ومستقبل أجيالنا المقبلة وسوف أتطرق في البداية لمعالجة الاشكالية التقليدية بين الدور العربي والنظام الاقليمي وهنا أشير الي ملاحظات رئيسية ثلاث هي:
أولا: إن تعبير الشرق أوسطية قد أصبح سييء السمعة في الذهن العربي وهو الأمر الذي يحتاج الي مراجعة لأن ارتباط الشرق أوسطية بعملية اقحام الدولة العبرية في النظام العربي تحت مظلة اقليمية لم يعد هو التعبير الدقيق عن المفهوم الحقيقي للشرق أوسطية, بل إن التعريف امتد ليشمل قوي أخري في الشرق الأوسط نخص منها دول التخوم مثل تركيا وإيران وربما أيضا أطراف القرن الأفريقي, واذا كنا معنيين بالدرجة الأولي بأن نتعرف علي طبيعة النظام الاقليمي دون الاقتصار فقط علي حدود الدور العربي, فاننا نري أن المسألة العراقية ـ علي سبيل المثال ـ هي قضية قومية كما أنها شأن اقليمي يعني تركيا وإيران في المقام الأول أيضا كما أن القضية الفلسطينية ذاتها ـ رغم أنها ترتبط أساسا بالحق العربي العام ـ إلا أنها تعبر كذلك عن نزاع اقليمي ومشكلة دولية ذات أطراف متعددة بعضها عربي والبعض الآخر غير عربي, فالحدود إذن بين ما هو قومي وما هو اقليمي ليست حدودا جامعة او حادة او واضحة ولكنها تتميز بالتداخل والتقارب والتشابه, كما أن الحديث يشير في النهاية الي رقعة جغرافية معروفة مهما اختلفت المسميات وتباينت التعريفات.
ثانيا: إن وجود دولة إسرائيل هو المسئول الأول عن ذلك الارتباك الذي يحدث بين الحين والآخر في المنطقة ويؤدي الي التناقض بين الواقع الاقليمي والانتماء القومي فنجد من يتحدث عن المنطقة العربية دائما ويشير الي الشرق الأوسط أحيانا فليس من شك في أن تدويل الصراعات يجعل التناول الأجنبي لها أقرب الي الطرح الاقليمي منه الي الدور العربي, وهو أمر يدعونا الي البحث دائما في نقطة التوازن بين الانتماء القومي والالتزام الدولي وهذه كانت ولاتزال وسوف تظل علامة فارقة بين النضوج السياسي والتخلف الفكري فنحن نعيش في عالم لاننفرد به وحدنا كما أن أسوار العزلة قد سقطت وأصبح من المستحيل أن نتعامل مع القضايا من زاوية واحدة لذلك لابد من قراءة جديدة للمواقف علي ضوء هذه المعادلة الحيوية التي تعني أن هناك قدرة قومية علي فهم المتغيرات الدولية والتطورات الاقليمية.
ثالثا: لقد عاني النظام الاقليمي العربي ـ الذي ترمز اليه جامعة الدول العربية منذ انشائها حيث تجسد الحد الأدني للعمل العربي المشترك ـ من السياسات الارتجالية والنزعات الفردية والرؤي القصيرة فضلا عن السقوط فريسة الانفعال الوقتي والحماس المرحلي دون أن تكون هناك قدرة علي اتخاذ مواقف جادة أو اغتنام الفرص الحقيقية مع إقصاء المشاعر العابرة والانفعالات الطارئة لذلك كانت الحصيلة في النهاية هي العجز العربي عن تحقيق نجاح في القضايا القومية والمشكلات الاقليمية علي السواء, والأمر في ظني يرتبط بأمور أخري يقع في مقدمتها ضرورة رفع قدرتنا علي تناول الأمور بحيث تكون أشد واقعية وأكثر جدية.
فاذا كانت هذه هي الملاحظات المتعلقة باشكالية العلاقة بين المفهوم القومي والمنظور الاقليمي فان التصور المستقبلي للمنطقة سواء أطلقنا عليها تعبير الشرق الأوسط او المنطقة العربية يبقي في النهاية مرتهنا بتجاوز الوضع الراهن والخروج من المأزق الذي تواجهه جميع الأطراف دولية واقليمية وعربية لذلك يمكن أن نطرح تصورنا في هذا الشأن عبر محاور ثلاثة علي النحو التالي:
(أ) أن الأزمة العراقية الحالية تلقي بظلالها علي المنطقة وتطرح نفسها في أولوية غير مسبوقة بسبب تداعياتها الخطيرة وآثارها المباشرة لا علي العراق وحده ولكن علي المنطقة بأسرها لذلك فان الالحاح العربي علي ضرورة نزع أسلحة الدمار الشامل يمكن أن يجعلنا في وضع أفضل بحيث نخطف الشعار ممن يرفعونه لكي يصبح شعارنا نحن وخصوصا وأن رئيس أكبر دولة عربية قد دعا في مبادرة تاريخية منذ عدة سنوات الي إعلان منطقة الشرق الأوسط منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل والاشارة هنا الي الدولة العبرية لاتحتاج الي ايضاح كما أن الأمر يكتسب في هذه الحالة مصداقية أيضا لأنه سوف يلتقي مع الدعاوي الامريكية ـ بغض النظر عن درجة مصداقيتها ـ حول امتلاك العراق لتلك الأسلحة كذلك فإن الربط بين المسألة العراقية وقضية مستقبل الديمقراطية في العالم العربي هو أمر يكسب موقفنا درجة عالية من الرشد والاحترام ويؤكد علي موضوعية الموقف العربي كله في النهاية.
(ب) إن القضية الفلسطينية ـ مهما تقادمت أحداثها ـ هي القضية العربية الأساسية الأولي التي يجب أن نعطيها جل اهتمامنا ونوليها رعايتنا خصوصا وأن العرب وفي مقدمتهم مصر قد قدموا تضحيات غالية في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي ونحن نتوقع الآن أن يمتد الحمق الاسرائيلي ليستثمر ظروف المسألة العراقية واحتمالات الحرب في المنطقة لكي يزداد عبثا بثوابث القضية وتمزيقا لوثائقها واستهانة بمقدساتها وعندئذ لابد أن يجزع العرب كما لم يجزعوا من قبل لأن خبطتين في رأس واحدة لايمكن تحملهما, وقد كنت ولازلت أتصور أن الادارة الامريكية الحالية يجب أن تكون واعية بهذه النقطة خصوصا وأنها هي الادارة التي التزمت بقرار وجود دولتين مستقلتين في الأرض الفلسطينية, من هنا فإن توظيف تداعيات الملف العراقي لخدمة الملف الفلسطيني هي فرصة يجب ألا تغيب عن وعي أصحاب القرار العربي.
(ج) بقيت قضية الاصلاح السياسي والدستوري والاقتصادي والثقافي والاجتماعي في الدول العربية وهي قضية ذات حساسية خاصة لأن طرحها قد جاء مؤخرا من خارج المنطقة وبالتالي ارتفعت نبرة الكبرياء القومي في مواجهتها ولكن ذلك لاينفي في النهاية ان الاصلاح مطلب قومي وضرورة عصرية لتحديث وجه الحياة في هذه المنطقة من العالم فنحن نريد أن نكون كيانا فاعلا في عالم اليوم وألا نكون مجرد اداة للاستجابة دون قدرة علي إحداث الفعل واتخاذ القرار وتوجيه المبادرة فالاصلاح في النهاية قضية عقلية وعملية انسانية يرتبط بها التطور ويقوم عليها التحديث, وهنا لابد أن نؤكد أن الاصلاح لاينطلق من دمار الحروب وويلاتها ولكنه يزدهر في ظل الاستقرار والسلام لذلك فان نجاح الاصلاح مرتهن بالحل السلمي للأزمة العراقية والحل العادل للقضية الفلسطينية.
إن الشرق الأوسط الذي عاني من ويلات الحروب ومزقته الصراعات وكان دائما مصدر جاذبية للقوي الطامعة التي سعت اليه يوما تحت عباءة الاسلام في ظل دولة الخلافة العثمانية فجثمت علي صدره لعدة قرون حتي جاءه الطامعون الأوروبيون من بريطانيا وفرنسا حيث قسمت اتفاقية( سايكس ـ بيكو) مناطق النفوذ الاستعماري بين الدولتين, وعندما لاحت طلائع التحرر الوطني والمد القومي وقفت لها القوي الخارجية الجديدة بالمرصاد, ولعلنا نعترف هنا أن ظهور دولة اسرائيل في النصف الثاني من القرن الماضي قد غير الي حد بعيد شخصية الشرق الأوسط حيث سيطر الصراع العربي ـ العبري علي نوعية الأحداث وطبيعة المواقف فأصبحت الشخصية الاقليمية غير خاصة العروبة, كما تعرض التوجه القومي لضربات قاصمة أجهضته بل كانت تقضي عليه لذلك فإن أية قراءة في مستقبل الشرق الأوسط يجب أن تضع في اعتبارها طبيعة الصراع السياسي بين العرب واسرائيل, وكذلك أيضا نوعية التحول الديمقراطي في المنطقة فضلا عن ضرورة اعلان الحرب الحقيقية علي الفقر والقهر والفساد والتخلف بدلا من اعلانها علي شعب لم يشارك في رسم سياسته او اختيار قيادته لأنه هو المغلوب دائما علي أمره.. تلك بعض الرؤي رأينا أن نطرحها اجتهادا منا في ظروف شديدة العتامة, غير واضحة المعالم, تائهة الرؤية.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2003/3/11/WRIT2.HTM