إن الذين يتابعون تاريخ الحضارات ويهتمون بالدورات المتعاقبة للأمم والشعوب يدركون أن هناك حضارات سادت ثم بادت وإمبراطوريات سيطرت ثم تراجعت, فالصعود والهبوط في مراكز القوي الدولية والانتشار والانكماش في السياسات الإقليمية أمور معتادة عرفتها الإنسانية عبر مسيرتها الطويلة, وكانت الحقيقة الثابتة دائما تقترب من الحكمة التي تقول' إن دوام الحال من المحال' ولم نعرف دولة ازدهر دورها وتألق اسمها وقوي تأثيرها إلا وجاء عليها يوم أفل فيه نجمها وتواري دورها وسبقتها غيرها, فهل يا تري يظل هذا القياس قائما بالنسبة للكيان الأمريكي أيضا أم أن ما جري للرومان وما انتهي اليه' العثمانيون' لا يمكن أن يمثل قاعدة قابلة للتكرار في كل زمان ومكان؟ لقد سقط الاتحاد السوفيتي السابق, فهل يمكن أن تواجه الولايات المتحدة الأمريكية- حتي في المستقبل البعيد- ظروفا متشابهة ومصيرا مماثلا؟ إن هذا السؤال يمثل لغزا كبيرا ويعبر عن الخلفية التي يدور فيها جزء كبير من هواجس الإنسان المعاصر وأفكاره وانفعالاته.
وأبادر هنا الي ايضاح حقيقة معينة وهي أن القياس المطلق علي السوابق التاريخية لصعود الأمم وسقوطها لا يمكن القياس به علي النموذج الأمريكي, لأن التطور العلمي والتقدم التكنولوجي والتفوق الاقتصادي قد حقق في مجموعه نقلة مذهلة تحتاج الي عقود من الزمان حتي يحسم الأمر لغيرها ويتقدم عليها سواها, وهنا لابد أن نسجل أن التقدم العلمي والثورة الصناعية هي التي نقلت- منذ عدة قرون- مشعل الحضارة من الشرق الي الغرب, من الحضارة العربية الإسلامية والحضارات الشرقية الأخري الي الحضارة المسيحية الأوروبية والحضارات الغربية الأخري. والآن دعنا نتساءل: ماذا نقصد بالأسطورة؟ إننا نريد بها الإشارة الي مجموعة التصورات والمخاوف التي تحيط بكيان معين فتغلفه برؤية تقترب من الوهم عند التفكير في قوة معينة, فالأسطورة لا تعني الأكذوبة ولكنها تشير الي حقيقة استقرت في الذهن ورسخت في الوجدان وغذتها مشاهد وروايات جعلت منها في النهاية تلك' الأسطورة'. التي لا تقبل المساس, ولعلي هنا أؤكد مرة أخري أنني أظن أن الاساطير قصص عابرة حول كيانات مؤقتة, فلم يحدث أن دامت قوة علي الأرض أو استمرت إمبراطورية في الوجود, فالدوام لله وحده, ولكن
قد يكون من المستحسن أن نناقش القوي البديلة علي المسرح السياسي الدولي من خلال الإشارة الي الدول أو التجمعات الدولية التالية:-
أولا: ينظر كثير من الشعوب إلي الصين بحجمها السكاني الضخم ومعدلات النمو العالية فيها باعتبارها الوريث المرشح للدور الأمريكي بل ويذهب البعض إلي تحديد مواقيت لذلك لا تزيد علي عدة عقود قادمة, ولا نستطيع أن ننكر أن الذين يعودون من زيارة للصين يعبرون عن انبهارهم الشديد بقدرة ذلك الشعب العظيم علي إعادة تنظيم مئات الملايين من المواطنين مع التركيز علي الانفتاح الاقتصادي دون الانفتاح السياسي استفادة من مشكلات نجمت عن التجربة العكسية في الاتحاد السوفيتي السابق, وهي التي مازالت آثارها واضحة في روسيا الاتحادية, و' الصين' ليست دولة الكم دون الكيف أو الحجم دون النوعية, فصحيح أن كل تجمع بشري لا يزيد عدده علي خمس أفراد لابد أن يكون فيه صيني واحد أو آسيويان علي الأقل! ومع ذلك تمكنت الصين من الانطلاق الاقتصادي, ولكن ظلت المشكلة الحقيقية- وبصراحة وبوضوح- في أن الدور الصيني يفتقر إلي الإرادة السياسية, فالصينيون يستنكرون تماما أي ترشيح لبلدهم كي تكون الوريث القادم للدور الأمريكي في قيادة العالم لا لأن التكنولوجيا المتقدمة تنقصهم فقط ولكن لأن الرغبة في ممارسة مثل ذلك الدور غير موجودة لديهم, وهم يعتبرون أن
الحديث عن قيادة العالم هو انعكاس لفكر امبريالي وتعبير عن فلسفة الهيمنة التي يرفضها الصينيون عندما يؤكدون دائما أنهم يركزون علي التنمية البشرية لدولتهم الكبيرة, ويسعون إلي رفع مستوي الحياة لشعبها ولا يتطلعون لأكثر من دور إقليمي مؤثر, ولا يأملون في أن يكونوا طرفا فاعلا في السياسة الدولية إذ تكفيهم تماما القارة الآسيوية!
ثانيا: إن الإشارة إلي الاتحاد الأوروبي علي الجانب الآخر لا تبدو مقبولة بدرجة كبيرة لأن الوراثة هنا عكسية, فلقد ورثت الولايات المتحدة الأمريكية التقاليد الأوروبية وليس مطلوبا أن تعود شعلة التقدم التكنولوجي والتفوق الاقتصادي من جديد بتلك السرعة المتوقعة الي القارة الأوروبية الأم, كما أن الأوروبيين يؤكدون دائما أن دورهم مكمل لدور الولايات المتحدة الأمريكية وليس بديلا عنه أو منافسا له, وكلما دعوناهم نحن العرب إلي أن يلعبوا دورا أساسيا في صراع الشرق الأوسط فإنهم يسارعون إلي تقديم الأسباب والحجج التي تحول دون ذلك وفي مقدمتها إيمانهم بأن الولايات المتحدة الأمريكية تملك قوة الضغط الوحيدة علي الأطراف من اجل التسوية, وان الدور الأوروبي لا يتجاوز أن يكون شاهد إثبات أو نفي عند اللزوم برغم أنهم شركاء في الرباعية'Quartet' كما أنهم يمثلون المانح الأول للشعب الفلسطيني من ناحية الدعم المادي والإنساني, ولكنهم لا يفضلون أكثر من ذلك برغم أن للاتحاد الأوروبي سياسة خارجية معلنة ومنسقا عاما لها ومبعوثين يتحدثون باسمها في المنطقة.
ثالثا: لا نجد صعوبة كبيرة في أن نؤكد أيضا أن القوة الصاعدة في آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا لا تنهض هي الأخري لكي تكون بديلا محتملا أو وريثا قادما للدور الأمريكي, فحتي مجموع دول الهند والصين واليابان- كل بخصائصه وميزاته النسبية- لا يشكل قوة مؤهلة لوراثة الدور القيادي في العالم, ذلك ان القيادة مسئولية يتوافر فيها عنصر الارادة وتختفي بين اطرافها عوامل الاختلاف ومظاهر التنافس, فضلا عن ان القيادة ترتبط بالتزامات دولية واعباء مادية تضم سلسلة من المعونات الاقتصادية والمساعدات الفنية بل والتدخلات العسكرية عند اللزوم, كذلك فنحن لا نري في الأفق ايضا ان البرازيل او الارجنتين او هما معا- برغم امكاناتهما الطبيعية الهائلة- تقفان في طابور انتظار الريادة الدولية فلا النمور الاسيوية ولا الفهود اللاتينية ولا الاسود الافريقية قادرة علي ان توفر لنفسها دوافع الارادة التي تحقق حماس القيادة في المستقبل القريب.
وهكذا نجد ان الادوار البديلة غير متوافرة كما ان دولها لا تبدو مؤهلة او حتي راغبة في التقدم لمنافسة الدور الامريكي الذي يظهر حتي الان وكأنه قد احكم قبضته علي مراكز اعصاب العالم المعاصر, لذلك قد يكون من المناسب ان نبحث في تقديم ذلك الدور الامريكي لكي ندرك هل هناك تهويل ام تهوين من شأن ما يراه البعض اسطورة العصر؟ وهل هناك مبالغة في حجم القوة الامريكية وابدية دورها العالمي؟ وهل نحن واهمون عندما نراها القوة العظمي والقطب الاوحد في عالم اليوم؟ وهنا يحسن ان نشير الي محاور ثلاثة:
المحور الاول: ان تاريخ الولايات المتحدة الامريكية يشير الي انها قد أغلقت ابوابها ورفعت اسوارها وظلت قرابة قرنين من الزمان في عزلة حقيقية عن الشئون الدولية, وايامها كانت اوروبا هي' سيدة العالم' سواء بالكشوف الجغرافية او الظاهرة الاستعمارية, وعندما خرجت الولايات المتحدة الامريكية عن عزلتها فإنها فعلت ذلك باستدعاء اوروبي بدأ بحربين عالميتين, انخرطت الولايات المتحدة في الثانية منهما انخراطا كاملا بل هي التي حسمت نهاية الحرب بالقاء قنبلتيها النوويتين علي هيروشيما وناجازاكي بعد مأساة اسطولها الذي اغرقه الانتحاريون اليابانيون في بيرل هاربر, لذلك خرجت الولايات المتحدة الامريكية من تلك الحرب الدامية لتعيد تشكيل سياساتها الدولية والاقليمية وتدخل مرحلة الحرب الباردة في مواجهة الخصم السوفيتي بعد ان حقق مشروع مارشال جزءا كبيرا من اهدافه في النهوض باوروبا التي دهمتها الحرب الكبري, ثم احتاجت الي اعادة البناء غداة ان وضعت تلك الحرب اوزارها, فالولايات المتحدة الامريكية اذن قد اقتحمت السياسة الدولية في ظل ظروف محددة, بل وربما تحت ضغوط معينة ولم تنفتح شهيتها للسيطرة والهيمنة الا عندما تأكدت من قدراتها واصبح لديها فائض ضخم من مجتمع الوفرة تساعد منه عندما تريد وتحارب به عندما تشاء.
المحور الثاني: اننا لا نضيف جديدا اذا قلنا ان السياسة الخارجية الامريكية لا تحظي بشعبية كبيرة في عالم اليوم, بل هي محل نقد واستهجان في كثير من دول العالم, وترجع اسباب ذلك الي اعتماد الولايات المتحدة الامريكية علي منطق القوة- استخداما او تلويحا- في مواجهة القوي الصغيرة والكبيرة علي حد سواء..فبالنسبة للشرق الاوسط ـ علي سبيل المثال ـ فإن الشعوب العربية تشعر بالألم للدعم الكامل والمطلق من جانب' واشنطن' لدولة اسرائيل وتطبيقها لمعايير متعددة في الصراعات الاقليمية المختلفة بما في ذلك منطقتا غرب اسيا وشمال افريقيا.. وفي ظني انه لا توجد اسباب اخري لرفض السياسة الامريكية لدي العرب باستثناء ذلك الشعور الكامن غالبا والظاهر احيانا بانها تسعي للهمينة والسيطرة بمنطق القوة وحدها, وهو امر ادي الي حساسيات شديدة لدي شعوب العالم المختلفة وانتقص كثيرا من شعبية الولايات المتحدة الامريكية في أركان الدنيا الأزبعة خصوصا عندماتتحدث الإدارة الأمريكية الحالية عن محور الشر وتردد ان اسرائيل في حالة دفاع عن النفس وأن شارون رجل سلامفهذه العبارات تبدو مستفزة ومحبطة لشعوب كثيرة في المنطقة وقد كان الاجدي ان يتحول الدور الامريكي الي زعامة حقيقية تستند الي احترام الشرعية الدولية وتأكيد الخصوصية القومية والحفاظ علي السيادة الاقليمية لأن القيادة هي في النهاية التزام ومسئولية.
المحور الثالث: ويدور حول تأكيد ان الشعب الامريكي ليس مكروها في ذاته كما أن نموذج الحياة الأمريكي يبدو شديد الجاذبية للاجيال الجديدة حيث صنعته للمشاهد المختلفة من بريق الحياة الامريكية بما تقدمه من عناصر مبهرة وامكانات هائلة تتطلع اليها الشعوب النامية وتتعلق بها الاجيال الصاعدة حتي ان الولايات المتحدة الامريكية ظلت لسنوات طويلة تجسد امام عشرات الملايين من البشر الامل في حياة افضل, فهي بالنسبة لهم أرض الاحلام ولكن الحادي عشر من سبتمبر2001 اصبح يمثل للجميع علامة فارقة تكاد تتحول بها دولة الديمقراطية الكبري وبلد الحريات الواسعة نحو مواقف معقدة تقترب بها احيانا من نموذج الدولة البوليسية, وهو امر لا نريده للولايات المتحدة ولا ننتظره منها, فالزعيم يقود دائما ولا يعاقب غالبا, كما انه يحتوي العالم حوله بالمبادئ السامية والافكار الراقية وليس بحاملات الطائرات وجيوش التأديب.
إنني اريد ان اقول ان الولايات المتحدة الامريكية التي كانت هي دولة الحلم والامل يجب ان تعود الي مبادئها الأصيلة وروحها الحقيقية حتي لا تبدو امام الامم والشعوب اسيرة لفكر المغامرة في عصر لا أبدية فيه لقوة واحدة ولا اساطير تعيش معه بغير نهاية.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2003/2/25/WRIT1.HTM