لم يشهد التحالف الغربي ـ في سنواته الأخيرة ـ تصدعا مثل الذي يشهده الآن بل ان الانتقاد الأوروبي الظاهر أحيانا والصامت غالبا تجاه بعض سياسات الولايات المتحدةإنما يعبر عن الخلافات المكتومة بين الحلفاء.. وبداية فإنني لست ممن يبالغون في تأكيد أهمية تلك الخلافات التي أري أنها ظاهرة عارضة لايجب تحميلها أكثر مما تحتمل كما لايجب معها الإفراط في التفسير أو الاستغراق في التأويل لأن مظلة الاطلنطي تحتوي الاطراف علي ضفتي المحيط بنفس الدرجة من الحماس والاهتمام الذي يستند إلي تقاليد حضارية ثابتة تقوم علي قواسم مشتركة من الفكر الغربي المسيحي ـ سواء كان أوروبيا أو غربيا ـ وإذا كنا نتذكر جيدا الصراعات الطاحنة بين الدول الأوروبية من نوعية حرب السبعين مثلا بين فرنسا والمانيا, أو التنافس المحموم عبر البحار بين بريطانيا وفرنسا
إلا أننا ندرك أن الولايات المتحدة الأمريكية قد حظيت دائما بحفاوة أوروبية منذ خرجت من عزلتها التقليدية خصوصا عندما بدت وكأنها حامية الحريات وصاحبة المباديء التي أطل بها الرئيس الأمريكي ويلسون غداة انتهاء الحرب العالمية الأولي, صحيح أن زعامة شارل ديجول في فرنسا حددت درجة من استقلالية القرار في مواجهة السياسة الأمريكية رغم اجواء الحرب الباردة حينذاك, وصحيح أيضا أن النظرة الأوروبية لاتتطابق دائما مع النظرة الأمريكية تجاه القضايا الدولية والاقليمية, ولكنهما يلتقيان معا في مجموعة متشابكة من المصالح المشتركة والغايات الثابتة والأهداف الواحدة.
لقد كان التحالف الغربي هو الابن الشرعي لموقف الحلفاء في الحربين العالميتين الأولي والثانية وهو أيضا تعبير عن التماسك في الجبهة الغربية أثناء سنوات الحرب الباردة, ولعلي أشير هنا إلي أهمية التجانس الحضاري والتقارب الثقافي الذي يؤكد أن الأسس التي يقوم عليها التحالف الغربي, انما تنطلق من التاريخ أكثر من اعتمادها علي الجغرافيا, فالأصول متباينة واللغات مختلفة ولكن الغطاء الحضاري واحد والنسيج التاريخي مشترك, ولقد شهدت العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين في فترات مختلفة ما يمكن تسميته بخلاف الأصدقاء بل لعلي أجازف وأقول إنه كان دائما خلافا عابرا كسحب الصيف التي لاتمطر, أو هو اختلاف بين أشقاء تجمعهم رابطة قوية وشعور مشترك, ولقد اتاحت لي ظروف العمل اخيرا أن أزور البرلمان الأوروبي في ستراسبورج وأن ألمس بشكل مباشر حجم الخلاف الصامت بين الأوروبيين والولايات المتحدة الأمريكية, ولقد عدت ولدي يقين مستقر أن الغايات التي تجمعهم واحدة ولكن الوسائل مختلفة كما أن الأساليب متباينة, فالأوروبيون ـ خصوصا الدول صاحبة التاريخ الاستعماري ـ أعرف بالشرق الأوسط سواء كنا نشير بذلك إلي غرب آسيا أو شمال إفريقيا وهم أيضا أكثر فهما لطبيعة الحياة في المناطق المختلفة من العالم لانهم عاشوا فيها وتعاملوا مع شعوبها ولم يكونوا مجرد متابعين عن بعد أو مراقبين من عواصمهم, بل إنهم عاشوا بمنطق الاقتراب من الظاهرة والاحتكاك بجوهر الشعوب فتراكمت لديهم خبرات وتجارب تدور في معظمها حول الجوانب السيكولوجية والعوامل النفسية المرتبطة بالأمم المختلفة والمجتمعات المتعددة وإذا أردنا ان نضع مانقول في إطار أكثر تحديدا فإننا نشير إلي النقاط الآتية:
1 ـ إن التفاوت الغربي في المواقف تجاه الصراع العربي الإسرائيلي من أقصي درجات دعم الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل إلي أشد درجات التعاطف الأوروبي مع الشعب الفلسطيني انما يعكس في مجمله كل ألوان الطيف السياسي نتيجة اختلاف الإدارات احيانا وتفاوت المصالح دائما, فالولايات المتحدة هي التي قالت إن إسرائيل في حالة دفاع عن النفس وان شارون رجل سلام وأقصي نقد وجهته للحكومة الإسرائيلية هو أنها قد أسرفت في استخدام القوة!.. بينما السياسات الأوروبية تركز علي التعاطف الانساني مع الشعب الفلسطيني وان كانت لاتحيل ذلك إلي سياسة معلنة تمثل قوة ضاغطة علي إسرائيل أو حتي تبعث برسالة متشددة لواشنطن التي ورثت دور الداعم الأساسي للدولة العبرية بعد دور كل من لندن وباريس علي امتداد الخمسينيات.
2 ـ ان الاختلاف في وجهتي النظر الأمريكية والأوروبية من المسألة العراقية هو واحد من أبرز نماذج تطور العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة, فقد اتخذت المانيا ربما لأسباب داخلية وفرنسا ربما لاسباب أوروبية موقفا معارضا للحرب المتوقعة في العراق وجري تراشق بالتصريحات بين وزير الدفاع الأمريكي والمسئولين في برلين وباريس عندما نعتهم السيد رامسفيلد بعبارة شيوخ أوروبا علي وزن عواجيز الفرح لانهم يختلفون مع واشنطن في الرأي والرؤية, وبعدها بأيام قليلة صدر بيان عن ثماني دول أوروبية أخري منها إيطاليا واسبانيا يعبر عن دعم الموقف الأمريكي في القرارات القادمة, وهكذا عادت تطل علي ساحة الاطلنطي من جديد بعض روح شارل ديجول التي ترفض تبعية الدور الأوروبي للولايات المتحدة الأمريكية بل إن بريطانيا ذاتها وهي الحليف الأوروبي الرئيسي لواشنطن تختلف معها قليلا تجاه ذات المسألة وتطالب بقرار جديد من مجلس الأمن يسوغ قيام العمل العسكري ضد العراق, ولقد أظهرت استطلاعات الرأي العام البريطاني أن77 في المائة من مواطني المملكة المتحدة يرفضون الدخول في حرب ضد العراق بدون قرار جديد من مجلس الأمن, وهنا يجب أن نضع في الاعتبار أن فرنسا قد تستخدم الفيتو ضد القرار المنتظر, كما أن المانيا ـ التي لاتملك حق الفيتو ـ سوف تترأس مجلس الأمن في فبراير2003 في وقت تقف فيه حكومة شرودر ضد العمل العسكري العاجل في العراق.
3 ـ يجب ألا يغيب عن البال ـ والحال كذلك ـ أن65 في المائة من الناخبين الأمريكيين يعترضون أيضا علي ضرب العراق منفردين بدون أية مساعدات دولية, ولانتصور أن يظن الرئيس الأمريكي بوش أن الاعتماد علي بعض الحلفاء المؤيدين مثل إيطاليا واسبانيا وبولندا يكون كافيا لتبرير الدخول في الحرب, ويكفي أن نتذكر هنا أيضا أن استطلاعات الرأي العام في الدولتين الأوروبيتين الرئيسيتين اللتين تعارضان الحرب قد أظهرت أن75 في المائة من الفرنسيين و54 في المائة من الالمان يعتقدون أن للرئيس الأمريكي دوافع أخري غير المعلنة مثل السيطرة علي بترول العراق أو دخول حرب سريعة من أجل تعزيز إعادة انتخابه في عام2004, بل ويتطرف بعض المحللين إلي حد اعتبار أن المضي في هذا الطريق هو نوع من ثأر الابن لإخفاق الأب!
ويزعم البعض أن في العقل الباطن لقطاع كبير من الأوروبيين حساسية تجاه شخصية الرئيس الأمريكي الحالي بوش خصوصا كلماته عن حلف الشر وشعاراته التي تتمسح احيانا بالدين وهم يتساءلون لماذا اختيار العراق دون كوريا الشمالية لتكون هي كبش الفداء؟ إن السبب واضح وقد لايحتاج إلي أكثر من عملية حسابية بسيطة!
4 ـ إن كثيرا من الأوروبيين لم يكونوا سعداء بالسياسة الانسحابية للإدارة الأمريكية الحالية من بعض التزاماتها الدولية حتي قبل الحادي عشر من سبتمبر2001 بدءا من الموقف تجاه معاهدة كيوتو المتصلة بحرارة الأرض مرورا بآرائها المتمسكة بعقوبة الاعدام وصولا إلي سياستها في الشرق الأوسط خصوصا بالنسبة للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني, ويجب هنا الا ينجرف القاريء وراء الاحساس بأن هناك انشقاقا خطيرا في الجبهة الغربية اذ الواقع هو أن هناك حوارا قويا وجادا تحميه التقاليد الثقافية المشتركة وتدفع إليه روح الديمقراطية الغربية.
5 ـ لقد طالعت اخيرا بعض ما أوردته الصحف الأوروبية وهي تتحدث عن أن أعظم ماحدث في تلك القارة علي امتداد الخمسين عاما الماضية هو تطور العلاقة بين فرنسا والمانيا, وامكانية أن يكون دورهما المشترك عنصر توازن في مواجهة الولايات المتحدة وبريطانيا داخل إطار التحالف الغربي خصوصا ان الموقف الروسي ليس قويا بل ويبدو متذبذبا وحتي متراجعا في كثير من المواقف, أما موقف أكبر دولة في العالم وأعني بها الصين فهو ـ رغم دهشتنا ـ أشد المواقف المتحفظة تجاه الحرب اعتدالا وأكثرها سلاسة حتي ان الصين سبقت كلا من روسيا وفرنسا في الموافقة علي قرار مجلس الأمن1441 الخاص بالمسألة العراقية, وهنا يبدو واضحا أننا امام خريطة سياسية جديدة لاتقوم علي التقسيم التقليدي الذي كنا نعتقد فيه عن الحديث عند القوة الجديدة في المستقبل, اذ يبدو لنا أن تحدي أية دولة للولايات المتحدة الأمريكية يتوقف بعد قليل من بداية الطريق, وهو أمر يدعو إلي التساؤل حول مستقبل العلاقات الدولية وشكل النظام العالمي القادم.
.. ان الخلاف في وجهات النظر بين الحلفاء الغربيين تجاه المسألة العراقية أو حتي الصراع العربي ـ الإسرائيلي هو خلاف محكوم بضوابط لايتجاوزها وحدود لايتخطاها لأن الولايات المتحدة الأمريكية هي أقوي دولة في عالم اليوم من الناحيتين التكنولوجية والاقتصادية وبالتالي لديها تفوق عسكري كاسح, بينما مازالت أوروبا تقوم فقط بدور ريادي حضاريا ومؤثر ثقافيا, فضلا عن انها سوف تظل مركز الثقل في الرأي العام العالمي إن لم أجازف بالقول أيضا إنها تمثل حتي الآن وإلي حد كبير ضمير العصر الذي يتصف بقدر لا بأس به من الموضوعية والحياد, انها أوروبا التي تعرف الخريطة السياسية للمناطق المختلفة في القارتين الآسيوية والإفريقية وهي صاحبة الرموز التاريخية في تشكيل خريطة الشرق الأوسط بأسماء من أمثال لورانس العرب أو الجنرال جلوب وغيرهما من عشرات المستعربين الذين رسموا امام دولهم الخرائط الجديدة لسياسات مستقرة في مناطق مختلفة, كذلك فان علاقة الأوروبيين بعامل الوقت وعنصر الزمن تبدو مختلفة هي الآخري, ولقد تجلي ذلك في اتهام وزير الخارجية الفرنسي دومينيك دي فيلبان للولايات المتحدة الأمريكية بعدم الصبر حتي إنه قرر صراحة لانري أي مبرر لعمل عسكري الآن خلاصة القول إذن هي أن الطريق إلي بغداد يمر بخلافات في الرأي واختلافات في الرؤية وانقسام حول النتائج التي قد لاتخلو من مفاجآت غير منتظرة, وأحداث غير متوقعة, كما قد تفتح بابا للعنف والتوتر في الشرق الأوسط لايكون اغلاقه أمرا يسيرا.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2003/2/11/WRIT1.HTM