الحوارات تتسع للآراء المتعددة والأفكار المختلفة, بل والمبادرات الجديدة وأبدأ برسالة من الأ ستاذ الدكتور ماهر شفيق فريد أستاذ الأدب الانجليزي بآداب القاهرة الذي يقول في رسالته: أكتب اليك هذه الر سالة عقب انتهائي من قراءة الطبعة الجديدة من كتابك العرب.. الأصل والصورة لكي أحييك في أمور وأخالفك في أمور, أما التحية فعلي هذا الفكر الثاقب الذي يرفد كل ما تكتب في السياسة والاجتماع بل والأدب أيضا, وهذه اللغة الصافية الواضحة التي تطرح بها أفكارك دون اعوجاج ولا غموض, وهذا الرصيد المعرفي الكبير الذي هو ثمرة تجارب حياتية وخبرات سياسية وتحصيل ثقافي دائب وممارسة للعمل العام, وهذه البصيرة النافذة تتجلي بوجه خاص في مقالاتك التي تتنوع موضوعاتها ولكنها تظل محتفظة بوحدة فكرية ومزاجية نابعة من اتساق العقل الذي أطلقها سواء كان الحديث عن علاقة عبد الناصر بحزب البعث وفكره أو صلة العرب بالولايات المتحدة الأمريكية, أو عروبة شمال افريقيا, أو مستقبل الصراع العربي الاسرائيلي في الشرق الأوسط, منطلقك في ذلك كله منطلق مفكر مصري الوطن, عربي الأمة, انساني النزعة, تؤرقه هموم البشر في كل زمان ومكان.
ثم ينتقل الأستاذ الجامعي الأديب إلي قضايا محددة فيقول مثلا انه يوافقني في التسليم بأخطار الكاريزما السياسية لأن الشخصية الكاريزمية تعمي الأبصار وتلهي القلوب وتغفر الخطايا, ويتحدث في رسالته عما كتبه من قبل عن زعيم الحزب القومي السوري ومؤسسه الراحل انطون سعادة الذي عاش فترة من حياته مهاجرا في أمريكا اللاتينية ثم انتهت تلك الحياة بالإعدام في الأراضي اللبنانية, ويذكر الدكتور ماهر شفيق في هذا الشأن ان انطون سعادة كان عميق الأثر في تكوين مبدعين ومفكرين عرب كبار مثل أدونيس والدكتور هشام شرابي وغيرهما, ثم يضيف وأتذكر هنا ما كتبه الأستاذ رجاء النقاش من انتقاد لسعادة وحزبه في كتابه أدب وعروبة وحرية الصادر في عز المد الناصري, فأحمد الله أنه قد جاء أخيرا من بيننا مفكر ينصف ذلك السياسي العربي الفريد, وأتذكر قول أبي العلاء( لا تظلموا الموتي وإن طال المدي.. إني أخاف عليكمو أن تلتقوا) ثم يضيف الدكتور شفيق قائلا وهناك وصفك الدقيق لسياسات رؤساء وزراء إسرائيل في السنوات الأخيرة بعد أن غابت عن الساحة النظرة المستقبلية البعيدة وحل محلها قصر نظر سياسي لا يعتمد إلا القوة المسلحة والعنف الوحشي أسلوبا للحوار بل للإملاء, كذلك فإن هناك رفضك إحلال النظرة الدينية للقدس محل النظرة السياسية واعتبارك ذلك أمرا لا يخدم الأهداف القومية, وهو رفض مستنير يأخذ في اعتباره معطيات العصر ويعلو علي العواطف ـ مهما تكن سامية ـ ليري الأمور في منظورها السياسي الصحيح, وهناك كذلك تسجيلك السخي لدور المسيحيين العرب في إرساء دعائم الوحدة الوطنية والاستنارة الفكرية والإبداع الأدبي والفني والنبوغ العلمي والبطولة العسكرية والكفاح القومي إذ تذكر أسماء مكرم عبيد ونجيب الريحاني وجورج زيدان وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وسلامة موسي وخليل مطران ولويس عوض وغيرهم, وأستأذن أن أضم الي هذه القائمة أسماء: يوسف كرم وزكريا ابراهيم ويوسف مراد ورمسيس يونان وشفيق مقار وأميل حبيبي ومجدي وهبة وإدوار الخراط وغالي شكري ويوسف الشاروني ونعيم عطية ومراد وهبة وحبيب الشاروني ونظمي لوقا ومجدي يعقوب وفؤاد عزيز غالي وألفريد فرج وميلاد حنا ورمسيس عوض. ويستطرد الدكتور شفيق قائلا: كما أثني علي ملاحظتك القائلة إن حروب الفرنجة ـ المسماة خطأ بالحروب الصليبة ـ كانت هي الأخري فرصة للحوار الحضاري واكتشاف الآخر حتي ولو كان ذلك علي أسنة الرماح وتحت صليل السيوف وفي كتابات المؤرخ جو انفيل وأيضا أسامة بن منقذ أسطع دليل علي صدق هذه المقولة, كما أوافقكم عندما تقول ان الإرهاب الانتحاري هو أشد أنواع الإرهاب قسوة وخطورة لأن الذي قرر أن يدفع حياته بصورة نهائية ثمنا لتحقيق هدف يسعي اليه لم يفكر بالتالي في حياة غيره لأن مفهوم الحياة كلها قد تضاءل أمامه وأصبحت رؤيته للعالم الآخر هي الأكثر تأثيرا والأشد جاذبية, ثم ينتقل الدكتور شفيق الي النقاط الخلافية قائلا: حسبي هذا ثناء عليك فلست أراك بريئا من كل خطأ أو قصور, إنك تذكر مثلا في مقال الدين والسياسة أن إخناتون عبد إلها واحدا هو رع إله الشمس وربما كان الأدق أن يقال( أتون) لا( رع) مع التسليم بأن هذا الإله الأخير ليس سوي الشمس ذاتها, ثم يضيف قائلا إن عنوان كتابك( العرب.. الأصل والصورة) يثير بمجرد صياغته قضية العلاقة بين المظهر والمخبر بين ما يبدو عليه العرب وما هم فعلا عليه ولقد كان الأدباء هم الأسبق في توجيه النظر إلي هذه الظاهرة توفيق الحكيم في بنك القلق, نجيب محفوظ في رواياته ومجاميعه القصصية من1967, ثروت أباظة في شيء من الخوف, صلاح عبدالصبور في قصائده ومسرحياته, صلاح جاهين شاعر الانتصار ثم الانكسار, أحمد عبدالمعطي ححازي صاحب مرثية العمر الجميل, أمل دنقل في البكاء بين يدي زرقاء اليمامة, روايات جمال الغيطاني وبهاء طاهر وصنع الله ابراهيم ويوسف القعيد وأقاصيصهم, ومحمدإبراهيم أبو سنة القائل في إحدي قصائده( كنا نحن غزاة لمدينتنا) هذه أهم فقرات التعليق المطول الذي أرسله إلينا الأستاذ الجامعي الأديب ماهر شفيق فريد رأينا أن يكون جزءا أساسيا من حوار هذا المقال, وقد وصلتني رسالة ثانية من الأستاذة أنيسة عصام الدين حسونة وهي مثقفة مصرية معنية بالهم العام قائلة كعادتك المتميزة فيما تطرحه من أفكار فانك تثير الرغبة دوما لدي الآخرين في مناقشتك يحدوهم الأمل في أن التحاور القائم علي العقل والمنطق.واحترام الآراء المخالفة مازال هو سمة الثقافة المصرية التي مثلت علي مر العصور الثقل الحقيقي لبلادنا في منطقتنا العربية, ولعلي أشير هنا الي مقالك الجميل حول سعي دول العالم الي توفيق أوضاعها وفقا للتوجهات الأمريكية الجديدة, وهذا لب ما أريد أن أسألك عنه, فقد تساءلت أنت عن مصداقية الدعوة الأمريكية الي قيام النظم الديمقراطية في المنطقة, كما ذكرت في مقالك أيضا أن المسافة بين الولايات المتحدة والشعوب أطول بكثير من تلك التي تفصل بينها وبين النظم الحاكمة, ثم تستطرد صاحبة الرسالة قائلة أنا اتفق مع ذلك تماما ولكني أصدق الدعوة الأمريكية لأسباب أخري تتفق مع مصالحها لأن الدول الصديقة لها في المنطقة لم تحقق لها ماكان متوقعا منها, ثم تضيف قائلة: هل يجدر بنا أن نشكر أمريكا علي ما تريد فرضه علينا؟ ولماذا انتظرنا حتي يأتي فرض الاصلاحات من الخارج وقد بح صوت المطالبين بها من الداخل لسنوات طويلة, وانتقل أخيرا الي الرسالة الثالثة التي وردت الينا من الدكتور حمزة ابراهيم عامر, استاذ الجيولوجيا التطبيقية تعليقا علي مقال لنا بعنوان الحجم السكاني والدور الاقليمي وهو يتساءل في رسالته ما قيمة هذا الكم من الدراسات مع الانفصال الحادث بين الفكر والفعل, بين التخطيط الاستراتيجي والتنفيذ البراجماتي ثم يضيف إن المفكر ابن خلدون كان أول من شرح في مقدمته نحو عام1330 ميلادية الاسباب الداخلية لانهيار الدول, فهل تحاشاها الملوك والسلاطين حتي لا تنهار الدول العربية الإسلامية؟ ويستطرد الدكتور عامر قائلا: لقد كان الهدف الأسمي لعصر النهضة هو تحقيق النمو الكبير والتقدم الهائل علي نموذج الثقافة العربية المندثرة في آخر معاقلها بغرناطة, عام1492 ميلادية, لكن مع مراعاة عدم الوقوع في اخطائها التي أدت الي انتحارها حتي قامت الثورة الصناعية التي غيرت معايير الحياة الاقتصادية من منطق الانتاج بقدر الحاجة الي مفهوم الحجم النمطي الوفير للانتاج حتي ظهرت ضرورة اكتشاف مناجم هائلة لخامات الفحم والحديد وأسواق استهلاك هائلة ايضا في مستعمرات ممتدة عبر آلاف الأميال ثم ينتقل الدكتور عامر ليشير الي أهمية العنصر البشري وأن الانتقال من مرحلة الكم الي مرحلة الكيف يبدو هو الحل المطلوب للمشكلة السكانية فيقول: لقد كان الانسان هو نور عصر النهضة, كما كان نار عصر الصناعة, ثم كان هو أيضا الطائر المحلق في سماء فرنسا يغرد للحرية والاخاء والمساواة حتي أصبح الفرد هو الدولة وأصبح الفكر والعلم والعمل من خصائص المواطن صاحب الدولة بلا انفصام أو انفصال ثم يستطرد في رسالته ليضيف: يقولون عندنا العدد في الليمون كناية عن عدد بلا قيمة كبيرة لأننا جميعا نجلس في راحة وطمأنينة ونترك للمسئولين عنا رعايتنا كما نترك لهم هم التفكير وتوجيه العمل ويختتم رسالته منتقدا السياسات المتعاقبة في معالجة المشكلة السكانية قائلا: يا سيدي من يعلق الجرس في رقبة القط؟ إننا نستحق ما يحدث لأننا قانعون بالكتابة أو الكلام او عد الليمون, ولا شك أن هذه الرسالة الأخيرة تعكس هموم مواطن مصري يتعامل مع الحياة اليومية بطريقة عملية إذ لا تخلو رسالته من روح نقدية.
إن هذه الرسائل الثلاث من شخصيات تملك رصيدا من الوعي الثقافي ونصيبا من التألق الفكري هي ذات أهمية خاصة في عصر يبدو فيه الحوار ضرورة, ويصبح معه الرأي الاخر التزاما لا يمكن تجاهله أو تجاوزه, فلن نتمكن من إصلاح أمورنا ومعالجة أخطائنا والمضي نحو آمالنا بغير محاولات جادة ومبادرات بناءة تستند الي عملية العصف الذهني وتحترم الأساليب المستحدثة للتفكير والطرائق المبتكرة في التعامل مع القضايا والمشكلات, وسوف أظل مدينا للقراء, مثل كل من يكتبون عندما تتغير مواقعهم, فإذا بهم يقرأون, مرحبا بالحوار الذي يحيل السطور الصماء الي أفكار تشع حولها تأثيرا وتضيء الطريق نورا.
|