إن مصر ليست هي مهد الرسالة الإسلامية أو مهبط الوحي الإلهي وإن كانت لها مكانة خاصة لدي الديانات السماوية الثلاث, ففوق ترابها المقدس مشي الأنبياء, وعلي أرضها المباركة وفدت ديانات السماء, وعندما يتجه الحديث نحو الدور الإسلامي لمصر فإن الأمر يقتضي الإلمام بطبيعة الظروف الحالية وما تحمله من مخاطر وماقد تأتي به من أحداث لأن مصر بالنسبة للعالم الإسلامي هي عمود الخيمة بأزهرها, ومركز الثقل بأهل البيت فيها, ورصيدها الكبير بتدين شعبها, وإذ يتعرض الإسلام حاليا لهجمة غير مسبوقة تنبع من قصور النظرة وسوء الفهم وغيبة المعرفة فإن الواجب يلزمنا بأن نراجع الدور المصري الإسلامي, وأن نبحث في أهدافه وادواته ونتائجه, ولذلك سوف نعالج الأمر في محاور ثلاثة يشير الأول منها إلي وسطية الإسلام ويتناول الثاني المقارنة بين الصوفية وكل من السلفية والاصولية بينما يتعرض الثالث لمصر بين المذهبين السني والشيعي ثم نخلص من ذلك إلي دعوة ونداء نري أن هذا هو توقيتهما الأنسب.
مصر ووسطية الإسلام
الإسلام دين أممي بفطرته تتجه دعوته للناس كافة بغير تفرقة أو تمييز ومع ذلك فإنني أدعي أن النموذج الإسلامي يختلف من بلد إلي آخر, فالنموذج التركي يختلف عن النموذج الإيراني وهما معا يختلفان عن النموذج المصري, لأن الشعوب تتزاوج مع العقيدة حتي تصطبغ بشخصيتها وتمتزج بجوهرها, والمصريون متدينون منذ آلاف السنين عندما عرف اخناتون التوحيد قبل نزول الديانات السماوية حتي اكتشف الغزاة والطغاة والولاة أن الطريق إلي قلب المصريين يمر بدياناتهم, وعندما أشرقت شمس الإسلام علي مصر أخذ طابع الاعتدال والوسطية ولم يعرف الغلو والتطرف فكانت مصر دائما بمنأي عن الفرق الإسلامية والتقسيمات المذهبية, فالفلاح المصري يصلي علي ضفاف النهر الخالد في بساطة وخشوع ولايدخل في متاهات التأويل أو تعقيدات التعصب المذهبي لذلك كان طبيعيا أن تمتلك مصر ناصية الدعوة الإسلامية, وأن يكون لأزهرها الشريف دور طبيعي وطليعي في تدريس الفقة بمذاهبه المختلفة وتعليم الشريعة بقواعدها وأركانها, ولقد ظلت سمعة الإسلام في مصر مصدرا للارتياح ومدعاة للقبول لدي الشعوب الإسلامية بل وغير الإسلامية أيضا, ومازلت أذكر أثناء عملي سفيرا لمصر في فيينا أن دولة النمسا قد اختارت الأزهر الشريف لكي يكون هو صاحب الاشراف علي تدريس الدين الإسلامي في كل مدارس النمسا وعلي نفقتها الرسمية من خلال الأكاديمية الإسلامية التي أسهم فيها معنا الامام الأكب,ر ووزير الأوقاف, ورئيس جامعة الأزهر بجهد كبير حتي وقفت علي قدميها برغم المصاعب والمتاعب والمشكلات, كما مازلت اتذكر أيضا أن أحد رؤساء باكستان الراحلين قد استدعي السفير المصري يوما وقال له أريدكم أن تتأكدوا في مصر أن الإسلام بخير. مادامت هي كذلك ولو أن مصر الأزهر أصابها مكروه ـ لاقدر الله ـ فإن الإسلام الحنيف سوف يتأثر كثيرا, وعندما بدأت دعوة الأخوان المسلمين تنطلق علي يد الامام الشهيد حسن البنا عام1928 استبشر المسلمون بها خيرا ولكنها سرعان ما خلطت بين الدعوة الدينية والطموحات السياسية وتحولت إلي مصدر للقلق الاجتماعي والمخاوف الطائفية بدلا من أن تكون مصدرا للدعوة الخالصة والتسامح الإسلامي العظيم, وفي ظني أن كل دعوة فكرية أو دينية تتحول إلي شيء آخر عندما تلوثها السياسة أو تخترقها التطلعات والاطماع, لذلك فإننا نطالب الآن ـ والأسباب لاتخفي علي أحد ـ بعودة النموذج المصري للإسلام المعتدل لكي يندفع إلي عالم اليوم بقوة ووضوح لأن ديننا متهم ظلما وحضارتنا مدموغة بالإرهاب افتراء ولا أري علي الساحتين الدولية والاقليمية أفضل من مصر الأزهر كي يتحمل هذه المسئولية في ظل ظروف مركبة ومعقدة بل وخبيثة.
مصر بين الصوفية والسلفية
عندما انتشرت الجماعات الصوفية في العالم الإسلامي استأثرت مصر بنصيب كبير منها حيث بدت تلك الفلسفة التي تقوم علي الزهد والتوغل في الاحساس بالذات الإلهية امرا يتفق مع المزاج المصري والتقاليد الموروثة من عصور ماقبل الديانات السماوية, ويكفي للتدليل علي هذه الحقيقة لدي الشخصية المصرية أن أذكر ان المسيحية في مصر هي أول من اكتشف فلسفة الرهبنة وأقام الاديرة قبل أن يعرفها العالم المسيحي كله, ومازلت أذكر من عملي الدبلوماسي في النمسا ان رئيس جمهورية المجر كان شخصيا في استقبال قداسة البابا شنودة الثالث عندما كان هو ضيف الشرف منذ سنوات قليلة في احتفال الدولة المجرية بمرور ألف عام علي أقدم دير مسيحي لديها, وهذا يعني أن المصري صوفي بطبيعته, بسيط بفطرته, يعبد الله في عمق حيث يشغل الدين حيزا كبيرا في أعماق وجدانه, ولا شك أن الحركة الصوفية هي نقيض للتوجهات السلفية والأصولية ذلك لأن الصوفية ايمان عميق يرتبط باللحظة وليست نزعة ماضوية, بينما السلفية اغتراب زمني يأخذ صاحبه نحو كتابات الفقهاء المتشددين ويجد ملاذا في هجرة عصره من خلال الاستغراق فيما يدعو إليه ابن حزم من حق الثورة علي الحاكم الذي لايطبق شرع الله وصولا إلي مايستشرفه من فكر ابن تيمية حول تكفير الجماعة أحيانا, ولايخفي علي أحد أن هذه اجتهادات يقابلها علي الجانب الآخر عشرات بل مئات من تراث الفقهاء الكبار الذين يتجهون في منحي آخر مضيا مع التيار العام للإسلام الحنيف والذي يأخذ بالسماحة مع الغير والحكمة في معالجة الأمور والموعظة الحسنة في الدعوة إلي دين الله, لذلك فإن الفكر المتطرف هو أمر غريب علي مصر الإسلامية ودخيل علي الشخصية المصرية المؤمنة, فالمصري صوفي متأمل منذ فجر التاريخ ولم يكن في جوهره ابدا فظا متجهما غليظ القلب, وقد يقول قائل إن الإسلام دين ودنيا وأرد عليه علي الفور إن الإسلام دين ينظم دور الفرد في الحياة ويتدخل في طقوسها اليومية ولكنه لايتعارض مع تطور النظم السياسية أو تقدم الاكتشافات العلمية أو تحديث العقلية العصرية, وعلي الذين يجادلون في ذلك أن يتذكروا أن التفكير فريضة إسلامية.
المذهب السني والمزاج الشيعي
لانكاد نعرف في العالم الإسلامي كله دولة لم تمزقها الفرق الدينية أو حركات التشيع المذهبية مثلما هو الأمر بالنسبة لمصر, فمصر كلها تعرف الإسلام من مصدر أصيل هو القرآن الكريم وسنة نبيه العظيم, وعندما يصلي الفلاح المصري المسلم السني وفقا لمذهب ابن مالك أو عندما تعتمد الدولة مذهب أبي حنيفة النعمان مذهبا رسميا في التعاملات الحكومية امتدادا لما أخذت به دولة الخلافة العثمانية لعدة قرون فإن ذلك كله يعكس الحقيقة القائلة بأن مصر هي بحر المذهب السني في العالم الإسلامي ومع ذلك فانها لاتتعصب له ضد أهل الشيعة بل إنني أزعم ـ وأرجو ألا أكون مغاليا ـ ان المصري سني المذهب شيعي المزاج, فالفاطميون بنوا الجامع الأزهر لكي يكون مركز انطلاق لمذهبهم الشيعي إلي أن سقطت دولتهم وبدت مصر فجأة وكأن لم يكن فيها شيعي واحد, ومع فإن مصر تحفل بالمزارات المقدسة فهي البلد الذي استقبل أهل البيت في القرن الأول الهجري عندما طاردهم بنو أمية خصوصا في عهد خلفائهم الأوائل, وها هي قباب القاهرة تغطي أضرحة غالية للسيدة نفسية والسيدة زينب والسيدة عائشة والحسين سيد الشهداء, وقد ينازعنا غيرنا مزارات لأهل البيت تحمل بعض هذه الأسماء ذاتها, ولكن تبقي مصر هي حضانة ذلك السلف الصالح وحامية الإسلام الصحيح وراعية شريعته السمحاء ولغته الثرية, ومازلت أذكر أن السيد رافسنجاني رئيس جمهورية إيران الأسبق قال إن أحد أحلام حياته هي أن يتمشي يوما داخل صحن الأزهر الشريف توقيرا من أهل الشيعة لذلك المركز الإسلامي الأول في الدنيا كلها, فمصر بحق هي بلد المزارات الإسلامية لأهل السنة والشيعة معا تفد إليها الطوائف الإسلامية كلها ساعية إلي بعض مساجدها تتمسح بها وتتدعي الانتماء إليها وتنفق بسخاء عليها وليست طائقة البهرة ببعيدة عن هذا السياق ولعلنا نتذكر في هذه المناسبة ذلك الاجتهاد الرفيع الذي قام به الامام المستنير الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهرالاسبق عندما أصدر فتواه الشهيرة التي تقضي بالمساواة بين أهل السنة وأهل الشيعة الاثني عشرية وهو ما كان انقلابا حقيقا أدي إلي نزع فتيل الجفوة بين أكبر مذهبين إسلاميين وإيجاد حالة من الارتياح المذهبي الذي يعد اضافة إيجابية مطلوبة للأمة الإسلامية, ومنذ ذلك الحين والأزهر الشريف يواصل رسالته في تدريس الفقه والشريعة والدعوة وفقا للمذاهب السنية الأربعة مضافا إليها الفقه الجعفري لأهل الشيعة وهو مايؤكد استنارة الأزهر واعتداله وشخصيته الرحبة التي يسعي إليها المسلمون جميعا وبل تتجاوز ذلك حاليا إلي الحوار البناء مع أهل الكتاب واتباع الديانات السماوية الغراء.
دعوة ونداء
إنني لا أري أحلك من هذه الظروف القائمة تعتيما علي روح الإسلام الصحيح وتشويها لمبادئه السامية وأكاد أري دورا غائبا للمؤسسات الإسلامية الرسمية وغير الرسمية حيث يندر وجود الداعية الذي يخاطب الغرب بلغاته ويتحدث إلي الغير وفقا لعقليته, بل إنني أكاد ألمح حالة من الاستسلام للتفسير التآمري ضد الإسلام والارتكان إلي فقه الصيرورة بينما المطلوب هو السعي نحو فقه الضرورة لأن ديننا مستهدف في جوهره, مشوه في صورته, مطارد بغير سبب, وهذا هو وقت الحاجة للداعية الديني المستنير الذي يتحدث لغة أجنبية واحدة علي الأقل ويطل علي نوافذ مختلفة للفكر الذي لايعتنقه, ويري من منافذ المعرفة فلسفات الغير ورؤاه وأفكاره, ولايعيش حبيس قوالب جامدة أو نظم عتيقة بشرط ألا يفرط في ثوابت دينه أو مباديء عقيدته, لو أن الغرب الذي يتهجم علي الإسلام ويتهمه بالتعصب والعزلة يستمع إلي ترجمة بالألمانية من الدكتور محمود زقزوق وزير الأوقاف الحالي وهو يشير إلي حادثة ذات دلالة قاطعة في تاريخنا الإسلامي عندما مرت جنازة أمام النبي محمد ـ صلي الله عليه وسلم ـ فانتصب الرسول واقفا فقال له صحابته ولم ذلك يارسول الله ان الميت يهودي!؟ فقال في سماحة تسجل لديننا أليست لنفس بشرية؟ كما أن الخليفة عمر بن الخطاب قد أجري جعلا ثابتا من بين مال المسلمين ليهودي عجوز, وهو أيضا الإسلام الذي يضع المسيحية في مكانها اللائق ويذكر السيدة مريم والسيد المسيح بكل عبارات التوقير والاحترام بنص القرآن الكريم, فلماذا تغيب هذه الحقائق عن غيرنا؟ ولماذا لاتصل هذه الأطروحات إلي المتطاولين علينا؟
.. انها فرصة طيبة أن يكون لدينا إمام أكبر يحمل ذلك القدر من سماحة النفس وبشاشة الوجه, وأن يكون لدينا وزير للأوقاف هو استاذ دولي رفيع القدر في الفلسفة الإسلامية, وان يكون لدينا من يقوم علي الافتاء باستنارة وشجاعة واجتهاد, وأن يكون لدينا علي قمة جامعة الأزهر استاذ مرموق في علم الحديث له مكانته علي الساحتين العربية والإسلامية, كيف يكون لدينا هذه الرموز ودورنا غائب ودعوتنا محدودة؟ إننا يجب أن نأخذ بأسلوب المبادرة والتقدم نحو الآخر وانتهاج منطق المبادءة لتوضيح الحقائق وكشف الاراجيف بدلا من أن نظل قعودا نمارس لعبة ردود الفعل وهي علي مايبدو هواية عربية يبرأ منها الإسلام, لقد حان وقت الصحوة وظهور النماذج الأزهرية المبهرة التي تجسدها جهود الأمام محمد عبده رائد حركة التجديد والاصلاح, كما حان وقت العودة إلي ابتعاث الأزهريين إلي الجامعات الأجنبية للاطلاع علي الثقافات الأخري والمعارف المختلفة, ولتعد بعثاتنا الإسلامية إلي العواصم الغربية, ولتنتشر مراكز الأزهر الشريف وليذهب دعاته إلي كل بقاع الدنيا, انها لحظة حاسمة نقف فيها أمام مفترق الطرق ولا يمكن ان يكون دورنا انكماشيا أو تكون حركتنا انسحابية, فهذا وقت الاتجاه نحو الدعوة الصحيحة وتحمل المسئولية الغائبة, انه وقت الدور الإسلامي المطلوب من مصر وهو دور يرحب به العالم كله, وعلي الذين لايدركون ذلك أن يتذكروا أن كل المراكز الإسلامية في العواصم الأمريكية والأوروبية انما اقامتها مصر بأزهرها الشامخ علي امتداد القرن العشرين كله, ولا يتصور البعض أن ذلك أمر يبعدنا عن الظروف السياسية الراهنة والعلاقات الدولية القائمة بل إنني أظن ـ وبحق ـ أن ذلك الدور المطلوب سوف يكون سندا لنا, ودعما لأمتنا, وتأكيدا لمكانتنا.
|