كولين باول مصنف لدي العرب بأنه اقرب إلي جناح الحمائم منه إلي معسكر الصقور في الادارة الامريكية كما أن اصوله الافريقية تخلق لدينا شيئا من الالفة والارتياح, كذلك فإن تاريخه العسكري يضعه في مكانة يشوبها الاحترام وتحوطها الثقة, ولقد القي وزير الخارجية الامريكية أخيرا محاضرة مهمة امام مؤسسة' هيرتيتج'- وهي لا تخلو عدم التعاطف مع الفلسطينططن ولا مع العرب أيضا ـ ايضا- ضمنها افكارا امريكية مثيرة تدور حول الاصلاحات السياسية والدستورية في بعض الدول العربية بل وتطور التعليم والثقافة داخل اقطار الشرق الاوسط كذلك تطرقت مبادرة' باول' إلي الحريات الاقتصادية والسعي نحو رفع مستوي المعيشة وتوفير فرص العمل في المنطقة. ولقد اشاد في هذا السياق برؤية الرئيس' مبارك' حول اهمية التصدير وتأثيره الفاعل في اقتصاديات الدول العربية.
ويهمنا هنا ان نقوم بقراءة هادئة ومراجعة موضوعية وتحليل عادل للافكار التي وردت في المحاضرة المهمة للوزير الامريكي خصوصا في هذا الظرف الدولي الحساس والتي كنا نفضل ان يكون المنبر الذي يختاره لها مؤسسة عربية او تجمعا له صلة بالعالمين العربي والاسلامي او حتي مركزا محايدا للدراسات السياسية او الدولية ولكنه اختار تلك المؤسسة التي اشرنا اليها وكان له ما أراد. ولكن دعنا نقوم بجولة فكرية بين البنود الرئيسية لمبادرة باول وما تنطوي عليه من رؤي جديدة وتصورات مهمة لكي نقول:
أولا: ان العالم قد عرف من قبل مشروعات دولية كبري للاصلاح خصوصا في عقب الحروب العالمية او عند نهاية المواجهات الاقليمية وما زلنا نذكر مشروع' مارشال' لانعاش اوروبا عندما خرجت معظم دولها من الحرب الكونية في منتصف الاربعينات من القرن الماضي وهي مدمرة البنية الاساسية معطلة التنمية مضطربة السياسة, ولذلك فإن الطرح الذي يتقدم به الوزير الامريكي يمكن استقباله في هذا السياق ونحن معه في ان الاصلاح ضروري لا في الشرق الاوسط حاليا وحده ولكنه مطلب انساني ملح في كل مكان وزمان.
ثانيا: ان دولا كثيرة في الشرق الاوسط قد ادركت اهمية هذه المطالب حتي قبل الحادي عشر من سبتمبر2001 فمصر علي سبيل المثال قامت بنقلة نوعية نحو مزيد من الديمقراطية بالاشراف القضائي الكامل علي الانتخابات البرلمانية عام2000, كما ان زعيم المعارضة في المغرب كان قد وصل إلي رئاسة الحكومة في الرباط قبل ذلك, وبدأت البحرين التوجهات الجديدة مع قدوم ملكها الحإلي منذ سنوات كذلك فإن المملكة العربية السعودية قد بدات ارهاصات التحول خصوصا في مجالات التعليم والمرأة في نفس الفترة تقريبا, ناهيك عن نماذج اخري تؤكد كلها ان العرب قد اكتشفوا بانفسهم ان التحديث هو لغة العصر وان توسيع مساحة التمثيل السياسي للقوي المختلفة اصبح ضرورة لا سبيل إلي انكارها بل ان بعض دول الخليج العربي قد مارست دورا ديمقراطيا مبكرا نشير فيه تحديدا إلي المداولات المتقدمة التي عرفها' مجلس الامة الكويتي' بعد الاستقلال بسنوات قليلة ثم دعني اذكر السيد باول بأن' مجلس شوري القوانين' قد بدأ اعماله في العاصمة المصرية عام1866 وربما كان في ذلك سابقا علي بعض دول جنوب اوروبا ذاتها.
ثالثا انني اقدر موضوعية الوزير الذي كان رئيسا لاركان حرب القوات المسلحة الامريكية عند قيادتها للتحالف الدولي لتحرير الكويت منذ أكثر من عشر سنوات خصوصا حين يقرر صراحة ان التعاون العربي ضد الارهاب الدولي امر يستحق الاشادة ثم يرتب في محاضرته اهتمامات واشنطن في الشرق الاوسط من خلال الملفات الثلاثة وهي الحرب ضد الارهاب ونزع اسلحة العراق ثم التوصل لحل الصراع العربي الاسرائيلي, وهذه مسألة مهمة لان ترتيب ملفات الشرق الاوسط لدي الادارة الامريكية الحالية ليس هو نفس الترتيب الذي يراه العرب عندما يعطون اولوية لحل الصراع العربي الاسرائيلي قبل غيره وأذكر بهذه المناسبة ان لقاءا في القاهرة قد جمعني بالسيد' ساترفيلد' نائب مساعد وزير الخارجية الامريكية اثناء جولته في المنطقة منذ شهور قليلة وأتذكر جيدا انني سمعت منه ذات الاشادة بالتعاون العربي ضد الارهاب بل انني اندهشت يومها عندما اكتشفت ان دولا عربية قد فعلت ذلك بحماس قوي بعيدا عن الاضواء وسعيا نحو التقرب من واشنطن رغم ان سياستها العلنية لا توحي بذلك.
رابعا: ان جوهر الانتقاد الذي نطرحه في موضوعية كاملة تجاه افكار السيد باول انما ينطلق من منهج التفكير ذاته واولويات بنود معالجة اوضاع الشرق الاوسط لان تقديم الفروع علي الاصول والعناية بالجزء دون الكل هي امور يجب التنبه لخطورتها. فنحن لا نجادل في اهمية الاصلاح السياسي والدستوري او قيمة الحريات الاقتصادية والاجتماعية او ضرورة نشر التعليم وتطويره والنهوض بالثقافة والسعي الجاد نحو رفع مستوي المعيشة ومواجهة خطر البطالة, ولكننا نقول في الوقت ذاته ان حل الصراع العربي الاسرائيلي له اولوية تسبق كل ما عداه فهو المتغير المستقل والمتغيرات الاخري قد تكون تابعة له, فلو وصل العرب واسرائيل إلي تسوية عادلة شاملة ونال الفلسطينيون حقوقهم الكاملة فإن جهود الدول العربية سوف تنصرف بالضرورة لتحقيق مطالب السيد باول بدلا من استنزاف موارد المنطقة وتبديد طاقاتها وتهيئة البيئة الحاضنة للعنف فيها وان كنت التقي مع السيد باول في تحليله عندما اقرر ان الحلقة مترابطة وان الاصلاح العربي سوف يسهم هو الاخر في سرعة الوصول إلي التسوية السلمية.
خامسا: ان حديث الوزير الامريكي عن قيام الدولة الفلسطينية مع عام2005 ووضعه لذلك شروطا وضوابط حيث يلزم الفلسطينيين بما يسميه ايجاد قيادة بديلة مع ايقاف العنف الذي يطلق عليه هو صفة الارهاب في اجهاض ظالم للمقاومة الشرعية ضد الاحتلال بينما يطلب من الجانب الاسرائيلي انهاء انشطة الاستيطان فقط في الاراضي الفلسطينية, ان هذا التصور الامريكي لحل النزاع الفلسطيني الاسرائيلي برغم انه يبدو ايجابيا في ظاهره الا انه ما زال يستخدم عنصر الزمن وعامل الوقت ولا يتجاوز الجوانب الفنية المرتبطة بالمسائل الامنية بحيث لا تتخطي مرجعيته' تقرير ميتشيل' مثلا وفي رأيي انه لا جدوي من الحديث عن اصلاح النظم في دول الشرق الاوسط اذا لم يتواكب ذلك وبشكل واضح وحاسم مع موقف امريكي متوازن تجاه اطراف الصراع في المنطقة بصورة تضع حدا لسياسات اسرائيل العدوانية, ولعلي اذكر السيد' باول' هنا ان العمليات الاستشهادية الفلسطينية التي تعتبرها الولايات المتحدة واسرائيل ارهابا قد توقفت فترة وصلت إلي ستة اسابيع ولكن كان حصادها ستون شهيدا فلسطينيا منهم عشرون طفلا.
فاذا كانت هذه ملاحظاتنا العامة علي نهج تفكير السيد باول في مبادرته المهمة فإننا ننتقل الان إلي بعض المسائل التي نري انها ذات طابع تفصيلي وربما فني فيما يتعلق بالعناصر الاساسية في محاضرة الوزير الامريكي امام مؤسسة' هيرتيتج' في واشنطن ولعلنا نوجز ذلك ايضا في بعض الملاحظات واهمه:
1 ـ يقرر السيد باول مبدأ ربط المعونات الامريكية والمساعدات الاقتصادية لدول المنطقة بالمضي في برنامجه للاصلاحات المختلفة مستثنيا اسرائيل وحدها من ذلك الربط, وهو أمر يتمشي مع المنطق الأمريكي الذي يميز اسرائيل علي حساب المنطقة بأسرها متناسيا ان الدولة العبرية تعاني من عنصرية بغيضة تفوق في نتائجها الظالمة بعض سلبيات النظم اللا ديمقراطية في العالم العربي كما ان ربطه بين توجيه الاموال المخصصة لبعض الدول العربية وبين تحقيق الاهداف المحددة في مبادرته بما تضمنته من تطوير للتعليم خاصة بين النساء انما ينطوي هو الآخر علي إغفال كامل لطبيعة العملية التنموية التي تقوم علي التعبئة الشاملة للموارد المختلفة ولا تكون ابدا استجابة لشرط اجنبي او ضغط خارجي.
2 ـ ان مبادرة' كولين باول' قد اعتمدت فيما يبدو علي تقرير التنمية البشرية الذي اصدرته الامم المتحدة هذا العام من خلال عدد من الباحثين العرب المرموقين وهو التقرير الذي يقرر ان الدخل الذي يحققه260 مليون عربي يقل عن الدخل الذي يحققه40 مليون اسباني فضلا عن ما جاء في ذلك التقرير حول الاوضاع المتدنية للمرأة العربية في بعض اقطارها. وبرغم ان ذلك التقرير قد حظي باهتمام عام بل وحفاوة بالغة الا أن هناك من ابدي عليه ملاحظات جادة بل وانتقادات موضوعية ولذلك فإنه لا ينهض وحده لكي يكون مرجعية يستند اليها السيد' باول' في محاضرته التي ترتبط بالديمقراطية والتنمية معا في منطقة الشرق الاوسط.
3 ـ ان الخصوصية الحضارية المرتبطة بالثقافة العربية الاسلامية تحتاج إلي نهج خاص عند المعالجة ولا تستجيب لإملاء الشروط وتصدير الأفكار إنما تأتي بالتجاوب الطوعي والتعاون المشترك والا سقطنا في بحيرة الحساسيات التاريخية ووقعنا أسري للعناد القومي, فالخصوصية قضية جوهرية لا يمكن تجاهلها حتي عندما نتفق في الامور فقد نختلف في المسميات اذ أن ما نسميه ديمقراطية قد يفضل بعض العرب تسميته بالشوري انطلاقا من مخزون ثقافي او تراث ديني.
4 ـ ان اشادة' باول' في محاضرته ببعض تجارب الديمقراطية العربية انما تمثل اعترافا ضمنيا بالمضي علي الطريق الصحيح وان كنت اذكر الوزير الامريكي بأن العبرة ليست فقط بالوسائل والاجراءات ولكنها ايضا بالمناخ العام وما يوفره من وجود رأي عام مستنير مع سيادة للقانون واحترام لحقوق الانسان وهي أمور لا تخفي علي كل المعنيين بالنظم السياسية الحديثة.
5 ـ ان وسائل الاعلام العربي لا تعد وحدها معيارا لقياس مدي التطور ودرجة الديمقراطية اذ انها تبدو احيانا كالجزر المعزولة التي تتحدث عما يهتم به الناس ولكنها لا تقدم لهم اسلوبا للتغيير ولا تؤدي إلي تراكم حقيقي في التجربة السياسية حتي ان بعض الفضائيات العربية التي تبدو منفتحة ومؤثرة تنطلق من دول لا تبتعد كثيرا عن التخلف السياسي بل والشرود القومي!.
بقي ان اذكر الوزير الامريكي المتزن بأن التحديث لا يعني دائما التغريب
ModernizationisnotalwaysWesternization
فالخصوصية الثقافية والحساسية الدينية والتراث الحضاري والمزاج القومي امور لا يمكن اسقاطها من حسابات تطور الامم ونهوض الشعوب كما انني اود ان أقول لاصدقائنا في الولايات المتحدة الامريكية من خلال وزير خارجيتها ان تسوية الصراع لا ينبغي ان تتأخر بسبب المضي في الاصلاح بل انها قد تسبقه لتضئ الطريق امامه وتفتح له ابواب الامل نحو شرق اوسط جديد.
|