لقد استقر في الذهن المصري ـ خصوصا في النصف الأخير من القرن الماضي ـ شعور راسخ بأن حجم السكان هو واحد من المقومات الأساسية لتحديد الدور الاقليمي ومكانة الدولة وليس ذلك بالضرورة تفكيرا خاطئا, فالحجم السكاني يشكل عنصرا أساسيا في تحديد قيمة الدولة ووزنها السياسي الإقليمي, ومع ذلك فالأمر لا يؤخذ علي إطلاقه, فالعلاقة بين الكم والكيف هي قضية حاكمة في تحديد مدي نجاح التنمية وتحقيق أهدافها, فالكم الكبير من نوعية هابطة يكون من شأنه ابتلاع معدلات التنمية واستنزاف موارد الدولة والتراجع السريع في وضعها الاقتصادي, وبالتالي في مكانتها السياسية, اما النوعية المتميزة من السكان حتي لو كانت معدلات تزايدها عالية فإنها سوف تكون قادرة علي تحويل الكم العددي الي تفوق نوعي.
وعندئذ تكون الزيادة السكانية نعمة وليست نقمة, والأمر ليس بهذه السهولة علي كل حال ولكنه يحتاج الي خطة قومية شاملة وقدرة علي ضبط ايقاع معدل التزايد السكاني مع معدلات النمو في كل القطاعات. واستقراء التاريخ يؤكد ان المشكلة السكانية هاجس له تأثيره منذ عدة قرون, ولعل نظرية مالتس وهي نظرة متشائمة تحدثت عن الحجم الأمثل للسكان كما قدم دركايم اضافات أخري في هذا النهج قد تميزت في مجملها بالدراسة المتعمقة للمشكلة من منظور عالمي يأخذ السكان في اطار كوني ويربط بين أعدادهم المتزايدة والموارد الثابتة احيانا بل والمتناقصة احيانا اخري.
.. والذي يعنينا في هذا المقال هو البحث في العلاقة بين الحجم السكاني والدور الاقليمي في مصر الحديثة وهنا نقف امام تيارين متعارضين, احدهما معلن والآخر صامت, ومع ذلك فإن هذا التيار الأخير له نفوذ قوي وتأثير عميق, بينما التيار المعلن يتحدث منذ الخمسينيات عن ضرورة تنظيم الأسرة وضبط النسل من اجل الحفاظ علي معدلات النمو وإنجاح خطط التنمية, وقد ظهرت مشروعات كثيرة وآليات مختلفة في هذا النطاق, كما تعددت الكتابات وتنوعت الدراسات حول هذا الموضوع, بينما كان التيار الصامت الذي تعززه رؤية بعض رجال الدين بل وبعض الاقتصاديين من منظور علمي ايضا يقفون في اتجاه مختلف تساعدهم فيه ظروف الأمية ونقص التعليم واحساس الفلاح المصري بأن زيادة العدد في صالحه لانها اضافة له وليست عبئا عليه, وقد يكون من المفيد ان نبحث في تطور التيارين والصراع المكتوم بينهما لكي نجيب علي التساؤل الكبير هل الحجم السكاني لمصر ضرورة لازمة لدورها الاقليمي ومكانتها في هذه المنطقة من العالم؟ أم أن الأمر في نهايته وهم وأن العبرة إنما تكون بدرجة التفوق والقدرة علي التأثير في عالمها وإقليمها؟ دعونا إذن نلخص تطور الرؤيتين من خلال النقاط التالية:
الأولي: لقد سيطرت طويلا النظرية التقليدية حول أهمية الحجم السكاني في تحديد المكانة الدولية والدور الإقليمي, ولا أحسب أن هذه النظرية تقليدية خالصة إذ لايزال لها مؤيدون بل ومتحمسون, ولعلي أعترف أنني واحد منهم, إذ لايجادل أحد في أن حجم الدولة يتحدد بالدرجة الأولي من خلال مساحتها وعدد سكانها ولا يمكن أن نتجاهل هذه الحقيقة وأن نردد بغير وعي أن العبرة بالكيف وحده, وقد يقول قائل إن صادرات سنغافورة أو تايوان الي الخارج تفوق مايصدره العالم العربي, بينما عدد السكان في كل منهما لا يذكر مقارنة بأكثر من مائتي مليون عربي, ومثل هذا التحليل ينطوي علي مغالطة, فالعبرة ليست فقط بالوزن الاقتصادي ولكنها أيضا بالدور السياسي.
الثانية: لو أننا تصورنا مصر بتاريخها العريق, ونهرها الخالد, وأهرامها الشامخة ولكن عدد سكانها يأتي في مؤخرة اعداد السكان في الشرق الأوسط, هل كان دورها هو هذا الذي نراه؟ وهل كانت مكانتها الإقليمية وزعامتها العربية تمضي كما هي؟
إن الامر يختلف في ظني, وهذا يؤكد أن الحجم السكاني عامل لا يمكن تجاهله, ومبرر لا نستطيع تجاوزه عندما نتحدث عن الدول ومكانتها.
الثالثة: ان العلاقة بين طرفي معادلة الكم والكيف لايمكن أخذها بشكل مطلق أو تناولها بغير حذر لأن العلاقة ليست وجوبية, فلا نستطيع القول أن الكيف يفضل دائما الكم حيث إن الأمر يخضع لاعتبارات معقدة وتركيبة متداخلة لا ترقي الي مستوي النظرية, إذ أن الحالة الأفضل هي التي تملك الكم الكبير مقترنا بالكيف المتميز, فالصين مثلا عندما نجحت في أن تجعل من مئات الملايين في شعبها قوة منتجة استطاعت بالتأكيد أن تحتل مكانة وأن تجد وضعا أفضل من دولة صغيرة مهما يكن الكيف فيها متميزا أو كانت النوعية راقية.
الرابعة: إننا نظن ـ وليس كل الظن إثما كما نقول دائما ـ أن جزءا كبيرا من ضعف برامج ضبط النسل وتنظيم الأسرة المصرية لم يصدر فقط عن دوافع دينية أو أسباب اجتماعية ولكن وقفت خلفه مبررات تتصل بأهمية حجم الدولة في تحديد دورها الإقليمي, ومازلت أذكر أن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر قد سخر في إحدي خطبه من إحدي الإذاعات العربية المعادية لسياسته في ذلك الوقت عندما تحدثت عن أن القاهرة قد صحت ذات يوم علي اضطرابات داخلية قائلا: إنهم لا يدركون أن القاهرة مدينة الملايين وأن سكان دولتهم كلها لا يتجاوزون عدد سكان شبرا أحد أحياء العاصمة المصرية, فالتباهي بالحجم السكاني في مصر كان وأظنه لايزال قابعا في اللاوعي يطفو علي السطح كلما جرت مقارنة بين الشقيقة الكبري وغيرها من الدول العربية.
الخامسة: إننا نعترف أن جهود تنظيم الأسرة بدأت في الخمسينيات ونشطت مع مرور الوقت, وتمكنت في النهاية من تثبيت معدل الزيادة السكانية في مصر, ولكنني أزعم في الوقت ذاته أن النتائج لم تكن مرضية للتوقعات أو متماشية مع صالح الاقتصاد القومي, ولكنها مضت في اتجاه دعم السياسة الإقليمية وإظهار الحجم السكاني المصري كعنصر تفوق, ومازلنا نسمع من يردد دائما أن مجموع سكان مصر والسودان يشكل وحده نصف العالم العربي!!
.. هذه ملاحظات أردت بها أن أوضح العلاقة التبادلية بين الحجم السكاني والدور الإقليمي, وهي تعكس في مجملها درجة من الخلاف في الرأي, لأن هناك من يقولون وماهو جدوي الكم السكاني إذا كانت نسبة كبيرة منه تسكن العشوائيات وتعيش وسط المقابر؟ ويكون الرد مباشرا وهو أن مصر لم تستخدم من مساحة أرضها ما يصل إلي عشرة في المائة منها, فالسكان يكتظون في الوادي الضيق والدلتا المحدودة, ولم نتمكن حتي الآن من غزو حقيقي للصحراء واقتحام ناجح لأطراف الدولة, رغم تسليمنا بوجود مشروعات استصلاح الأراضي, والعدد الضخم من المدن الجديدة خصوصا تلك التي تأسست في العقدين الأخيرين, وهنا نطرح رؤية مختلفة لإمكانية توظيف الكم المصري في خدمة الكيف التنموي من خلال العناصر التالية:
(1) إن مقولة أن مصر مجتمع زراعي هي حقيقة تاريخية ولكنها يجب ألا تبقي قيدا مستمرا علي تحديد شكل الاقتصاد المصري وتنظيم موارده وإعادة هيكلة بنيته, فالزراعة لم تعد مصدرا مؤثرا في الدخل القومي, ولكنها تحولت إلي جزء من موارد الاستهلاك المحلي, فلقد انتهي عصر المحصول الواحد, ولم يعد القطن هو أهم الصادرات المصرية, وهذا بالطبع لايقلل من أهمية الصناعات المرتبطة بالزراعة, ومنها كل الصناعات الغذائية وحتي صناعة الغزل والنسيج التي قد تعتمد علي الزراعة في تقديم خام القطن لها.
(2) إن جوهر فلسفة التنمية المستديمة التي تركز علي العنصر البشري تؤكد بما لايدع مجالا للشك أن الصناعة هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق معدلات عالية من النمو وإحداث نقلة نوعية في المجتمع والارتقاء به اقتصاديا بل وإنضاجه سياسيا, فالثورة الصناعية في أوروبا هي التي خلقت أوروبا عصرالنهضة وصنعت الأرضية الفكرية لكل المذاهب والتيارات السياسية التي انطلقت منها, والذين يتحدثون عن الميزة النسبية لمصر في قطاع الزراعة إنما يتجاهلون حقيقة عصرية تقول إن الزراعة قد تصنع مجتمعا مستقرا ولكنها لاتنهض وحدها لكي تدفع بلدا متقدما.
(3) إن الذين يتحدثون بأسي عن المشكلة السكانية المصرية يجب أن يستوعبوا جيدا أن الأمر ليس بهذه السطحية ولا بتلك البساطة, ولكنه يقوم علي ركائز حقيقية تضع توصيفا دقيقا لحجم المشكلة وتبحث في المزايا مثلما تبحث في العيوب, وتناقش الجوانب الإيجابية مثلما تتعرض للآثار السلبية, فليست كل زيادة سكانية نقمة كما أننا لانعتبر كل انكماش سكاني نعمة.
.. إننا نحتاج في مصر إلي إعادة النظر في مسألة السكان وإعطائها أولوية جادة لاتقف عند حدود تنظيم الأسرة وضبط النسل عندالحجم الأمثل لها, ولكن لابد من رؤية شاملة تناقش القضية بكل أبعادها بدءا من مستوي التعليم والتدريب, مرورا بالتوزيع الديموغرافي, وصولا إلي تنظيم الاقتصاد القومي, فالتشغيل سلاح ذو حدين هو نقطة ضعف عند البطالة ولكنه نقطة قوة عند تحقيق الاستيعاب الأمثل للقوي البشرية وتوظيفها في خدمة عملية التنمية, وأحسب أننا لم ننجح حتي الآن في تحقيق أمرين أساسيين, أولهما الوصول إلي أفضل استخدام للحجم السكاني يحقق خدمة التنمية, ولكن الذي حدث هو أن الكم المتزايد تحول إلي عبء يبتلع كل معدلات النمو ويلتهم كل عائد الخطة القومية, مع الأخذ في الاعتبار أهمية دراسة نقطة شائكة في هذا الشأن وهي أن الزيادة السكانية في مصر لاتعني فقط الزيادة العددية ولكنها تقترن أيضا بالانخفاض في النوعية, فزيادة الكم كانت علي حساب الكيف, لأن الأسر التي ضبطت نسلها وحددت حجمها هي في الغالب الأسر القادرة ماديا والمتميزة تعليميا, بينما جاءت الزيادة السكانية من القطاع الضخم للأسر الأكثر عددا والأشد فقرا والتي لم تستجب غالبا لم
شروعات تنظيم النسل وتحجيم الأسرة, ولذلك فإن قمة المشكلة المصرية هي أن الزيادة السكانية السنوية تأتي من القطاعات التي تعاني تدهور الكيف وتخلف النوعية, وثانيهما أن نظرية الحجم الأمثل للسكان ليست نظرية مقدسة ذات مفهوم ثابت, ولكنها ترتبط بالسياسة الخارجية قدر ارتباطها بالاقتصاد القومي, ولايمكن أن نتجاهل الحقيقية ونكرر بأسلوب ببغاوي أن العبرة بالكيف ولا يهم الكم, فالأمر يختلف بالنسبة للحالة المصرية, حيث يبدو الدور الإقليمي أمرا حيويا له عائده السياسي والاقتصادي أيضا.
.. إن خلاصة ما أريد أن أقوله في وضوح هو أننا يجب ألا نتوقف عند التعامل مع المسألة السكانية في مصر من منظور الحجم وحده, بل لابد من التركيز علي الارتقاء بالنوعية أولا واستخلاص حلول غير تقليدية في ظل سياسات جديدة تدرك أهمية العنصر البشري المؤهل والمدرب في خدمة قضية التنمية ولاتتجاهل في الوقت ذاته أهمية الحجم السكاني الكبير في خدمة الدور الاقليمي المؤثر, وفي رأيي أن هذه قضية محورية أدعو المفكرين والمثقفين والخبراء المصريين إلي الخوض فيها, بل وأدعو الأحزاب السياسية إلي طرحها للمناقشة خصوصا في أوساط الشباب وهم المسئولون قبل غيرهم عن تحديد ملامح المستقبل الذي سوف يعيشونه وتشكيل شخصية مصر التي يريدونها, فالدولة ـــ أي دولة ــ هي الماضي والحاضر والمستقبل, أي هي الزمان والمكان والسكان.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2002/10/22/WRIT1.HTM