تعودنا عندما يصدر قانون جديد ينظم العلاقة بين أطراف مختلفة أن نتحدث عن عملية توفيق الأوضاع بعد صدوره, قلنا ذلك في قانون توظيف الأموال ثم قانون العلاقة بين المالك والمستأجر في الأراضي الزراعية ونقوله أيضا في القانون الجديد المنظم لنشاط الجمعيات الأهلية الذي أوشكت لائحته التنفيذية علي الصدور, وغالبا ماتترك تلك القوانين فترة سماح انتقالية تتغير فيها الأوضاع لتتواءم مع الهيكل القانوني الجديد وقد تطول أو تقصر تلك الفترة وفقا لظروف كل حالة, والأمر ينسحب تماما علي الأوضاع الدولية والإقليمية الحالية منذ حادث الحادي عشر من سبتمبر المشئوم في العام الماضي, إذ أننا أصبحنا ـ شئنا أم أبينا ـ أمام تداعيات خطيرة وترتيبات جديدة وظروف مختلفة, والأمر في ظني أن دول العالم المختلفة تسعي حثيثا لتوفيق أوضاعها وفقا للتوجهات الأمريكية الجديدة وربما التوجهات الغربية عموما تجاه المناطق المختلفة من العالم المعاصر, ولا نكاد نستثني من ذلك أحدا, حتي العملاق الكبير بلد البليون وثلاثمائة نسمة الصين تخطب ود واشنطن, و روسيا الاتحادية يسيل لعابها حتي الآن أمام المعونات الأمريكية, كما أن إيران
تسترضي سياسات البيت الأبيض من منافذ كثيرة, لعل آخرها هو تدليل النظام الموالي للولايات المتحدة الأمريكية في كابول الذي جاء بديلا لحكم طالبان في أفغانستان, وباكستان علي الجانب الآخر تحاول أن تفعل المستحيل لتحمي أرضها من ضربات الأسد الجريح في ظل ظروف استثنائية علي امتداد العام الماضي كله حيث جري توظيف تلك الظروف لخدمة أجندات تشكلت لدول مختلفة, كما أن المملكة العربية السعودية هي الآخري تحاور وتجادل في إطار من الرغبة في استبعاد المواجهة, ومصر تحتفظ بهامش من الندية في ظل علاقات طيبة مع الولايات المتحدة الأمريكية في عمومها ولكنها لا تخلو من السحب الموسمية في مجملها, والقضية الفلسطينية تواجه مالم تواجهه علي امتداد النصف الأخير من القرن الماضي, و السودان ـ جار مصر الجنوبي وتوءم نيلها الخالد ـ يتهيأ لرحلة غامضة مع مستقبل مجهول, ألم أقل من البداية أننا أمام رغبة أمريكية محمومة تدعو كل الأطراف الي إعادة ترتيب أوراقها من جديد والسعي نحو توفيق أوضاعها وفقا لعالم مختلف.
.. إن المطلوب منا ـ وبصراحة ـ أن نعيش عصر السلام الأمريكي
Paxa Americana
بكل شروطه وقواعده مثلما كان هناك منذ عشرات القرون ماكان يطلق عليه السلام الروماني
Paxa Romana
لأن سيدة العالم لا تهتم كثيرا بجدوي الحوار ولم تعد في حالة تسمح لها بقياس الرأي العام في المناطق المختلفة بل إنها في غمرة الصدمة التي قد تمتد الي سنوات لم تعد تفرق كثيرا بين الأصدقاء والأعداء, فالكل إرهابيون إلا إذا ثبت غير ذلك, والعالم كله ملتهب يتحاشي جميع أطرافه المواجهة غير المضمونة مع الولايات المتحدة الأمريكية, فهل لنا الآن أن نناقش الأمر برمته من خلال عدد من الأفكار نجملها فيما يلي: ـ
أولا: إن أحداث العام الماضي تشكل في مجموعها أكبر تحول في تاريخ العالم الحديث, إنها تشبه نتائج حرب عالمية ثالثة, نعم.. إن الهياكل القانونية للتنظيم الدولي مازالت علي ماهي عليه.. أمم متحدة.. وكالات متخصصة.. محكمة عدل دولية.. منظمات إقليمية, فالشكل في مجمله ليس مختلفا ولكن الجوهر يتباين بشكل واضح, فلقد سقط الحياء الدولي وانتهي العشم بين القوة الكبري وأصدقائها بل حلفائها وأصبح كل شيء محتملا, فإذا لم نكن أمام عالم جديد من الناحية القانونية فإننا بالتأكيد أمام عالم مختلف من الناحية السياسية وهو أمر يستلزم محاولة ذاتية من كل دولة للتوافق مع الأوضاع الجديدة واستيعاب التطورات التي جرت وفهم الشبكة المعقدة من العلاقات بين الأجندات المختلفة وهي التي تمخضت عن ذلك حادث سبتمبر بتداعياته وآثاره.
ثانيا: إن المعايير قد اختلفت, والمكاييل تعددت, فالنغمة التي تعاملت بها الولايات المتحدة الأمريكية ـ سياسة وإعلاما ـ مع قضية مركز ابن خلدون مثلا تختلف الآن عن لهجة البداية منذ عامين تقريبا, فهي الآن أكثر حدة وكأن الولايات المتحدة الأمريكية وجدت سببا للضغط علي مصر في هذه الظروف, والأمر لا ينسحب علينا وحدنا فالمملكة العربية السعودية تتعرض لحملة ضارية حول قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان ودور المرأة في المجتمع وذلك برغم أن المملكة تستعين بشركة أمريكية متخصصة لتحسين الصورة في الإعلام الأمريكي وأمام دوائر الكونجرس فإن الهجوم لايزال مستمرا والانتقاد شديدا.
ثالثا: إن معظم خبراء الولايات المتحدة الأمريكية يرون أن مصر و السعودية وباكستان هي دول مسئولة بالدرجة الأولي عن تنامي ظاهرة العنف الديني, فمن مصر كانت البداية مع حركة الإخوان المسلمين ـ من خلال وجهة نظرهم ـ ومن السعودية جاء الدعم المادي, ومن باكستان جاء الحماس الذي يتصف به المسلمون من غير العرب, ومازالت الدراسات تقف أمام رموز معينة بدءا من معالم علي الطريق لسيد قطب, مرورا بفتاوي الشيخ بن باز, وصولا إلي حاكمية أبي الأعلي المودودي, أي أنهم يقومون بعملية انتقاء تحكمي لوضع الإسلام والعرب في الصورة التي يريدونها, ولقد سمعت معلقا أمريكيا يقول إن عقل الإرهاب مصري, وأمواله سعودية, ومنفذوه من خريجي مدرسة أفغانستان خصوصا بعد أن خلقت باكستان تنظيم طالبان منذ أواخر الثمانينيات.
رابعا: لقد هللنا عندما ضربت الولايات المتحدة الأمريكية وقوات الأطلنطي جحافل الصرب بعد جرائم إبادة الجنس ضد البوسنيين, ثم بعد ذلك أيضا حماية لسكان إقليم كوسوفا وأغلبهم من المسلمين وقلنا يومها إنه الحياد الدولي والموضوعية السياسية التي جعلت الولايات المتحدة الأمريكية تضرب أرثوذكس الصرب بنفس الضراوة التي ضربت بها مسلمي العراق, ولكن يبدو أن الصورة اختلفت الآن, ولم يعد ممكنا التسليم بعدالة المواقف الأمريكية, وبهذه المناسبة فإنني أقول لمن لا يعلم أن ألبانيا الدولة المسلمة الوحيدة بين دول شرق أوروبا المستقلة قد جاءها أخيرا ــ ربما لأول مرة ــ رئيس جمهورية مسيحي ومعه رئيس وزراء مسيحي أيضا! ونحن لانسقط هنا في مستنقع التفرقة الدينية ولا نستسلم لها, ولكن نأخذ من هذا الحدث مؤشرا لعالم جديد وفكر مختلف.
خامسا: إنني أتشكك كثيرا في مصداقية الدعوة الأمريكية إلي قيام نظم ديمقراطية في المنطقة لسبب منطقي وبسيط وهو أن المسافة بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين الشعوب أطول بكثير من تلك المسافة التي تفصل بينها وبين النظم الحاكمة, والولايات المتحدة أول من يدرك أيضا أن إطلاق الحريات العامة علي طريق الديمقراطية الصحيحة سوف يكون كسبا للشعوب العربية, ولكن عائده في الغالب سوف يكون سلبيا علي السياسات الأمريكية في المنطقة, لذلك فإنني أذكر الجميع بأن الولايات المتحدة الأمريكية دعمت تاريخيا بعض الديكتاتوريات إذا كان ذلك في صالحها, وأسقطت بعض الديمقراطيات إذا تعارضت توجهاتها مع تلك المصالح, والنموذج الشيلي الذي تشير أصابع الاتهام فيه إلي الداهية هنري كيسنجر ليس بعيدا عن الأذهان.
سادسا: إن قضيتي حقوق الإنسان وتنمية المجتمع المدني تمثلان معا ضرورة ملحة لشعوب الشرق الأوسط ولكنها لا تتحقق قسرا بل ترتبط بمراحل التطور المختلفة للأمم والشعوب, وليس من شك في أن النضوج الفكري والازدهار الثقافي والانتشار التعليمي هي كلها ركائز ضرورية تستند إليها المجتمعات من أجل الوصول الطبيعي إلي المفهوم العصري لحقوق الإنسان وتنمية ركائز المجتمع المدني.
سابعا: إن مسألة الأقليات تقف وراء كثيرا من مشاكل عالم اليوم, ولن يمكن تجاوزها بغير سماحة مطلوبة, واستيعاب حقيقي لمن يختلف معنا في العقيدة, فلقد أصبح الكشميريون فجأة إرهابيين, ولحقت التهمة نفسها بالشيشان ولم تبتعد كثيرا تلك الادعاءات عن الشعب الفلسطيني ذاته, فما هي المعايير التي يجري تطبيقها؟ وهل يمكن وصف ديانة بالكامل بأنها راعية العنف وحاضنة الإرهاب؟ كما أن العراق مرشح لمأساة حقيقية سوف تصيب المنطقة كلها.
ثامنا: إن ماجري في السودان أخيرا ــ بغض النظر عن تباين الآراء واختلاف الرؤي ــ هو تعبير عن محاولة أمريكية أخري لإعادة ترتيب الأوضاع في منطقة التخوم الفاصلة بين من تعتبرهم هي عربا ومن تراهم هي أيضا أفارقة فقط, وبالمناسبة فنحن لسنا ضد حق تقرير المصير ولا الاستفتاء أيضا بشرط أن تتحقق في الفترة الانتقالية ضمانات علي الأرض تعيد الثقة المفقودة, وتحفظ الوحدة السودانية المطلوبة.
تاسعا: إن الولايات المتحدة الأمريكية ومعها بعض القوي الكبري قد اصبحت تصطنع الذرائع من أجل أن تدس أنفها في الشئون الداخلية للآخرين, ومعها في ذلك سند فكري يبدأ من الجانب السياسي والقانوني للعولمة والذي يعتمد علي مفهوم التدخل الإنساني علي حساب مبدأ سيادة الدولة, كما أن الذرائع دائما جاهزة.. فهي إما تعقب الإرهاب, أو حماية الأقليات, أو الدفاع عن حقوق الإنسان, أو رعاية الديمقراطية, أو حتي صيانة البيئة.
عاشرا: ينبغي ألا نتصور أن الرسالة لم تصل إلي جميع الأطراف. فالكل يسعي حاليا أن يكون الأمر بيده لابيد جورج دبليو بوش, فعلت اليمن ذلك في قتال ضروس مع بعض القبائل اليمنية التي كانت تأوي عناصر إرهابية, والسعودية بتحفظها التقليدي وحدت ــ لأول مرة ــ إدارة تعليم البنات مع وزارة المعارف في المملكة بعد أن كانت إدارة مستقلة, كما أنها وقعت علي الاتفاقية الدولية لمنع التمييز ضد المرأة منذ شهور, ومصر من جانبها تواصل حربا ضارية ضد الفساد الحكومي, بينما تواجه باكستان ذلك الموقف الصعب الذي تتعارض فيه روح التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية في جانب مع مصالحها في إقليم كشمير المتنازع عليه مع الهند في جانب آخر, ثم تبقي المقاومة الفلسطينية الباسلة التي تقف وحيدة من الناحية العملية لتدفع قبل غيرها في زحام هذه الأحداث أعلي ضريبة أمام آلة الحرب الإسرائيلية المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية في وقت لاتتورع فيه إسرائيل أو الإدارة الأمريكية عن تصنيف تلك المقاومة المشروعة بأنها نوع من الإرهاب! وكأن الاحتلال ليس قائما, وكأن الفلسطينيين شغوفون بالموت دون سبب!
.. هذه رؤية نطرحها علي كل من رأي ماجري, وندعو فيها إلي مراجعة أمينة لأوضاعنا, وإعادة ترتيب للبيت العربي والإسلامي من الداخل, والوقوف علي أرضية مشتركة مع الآخر, لأنه ليس من مصلحة أحد أن يواجه الأسد الجريح إلا إذا كان ذلك مفروضا عليه, ولا مناص منه, وتلك قضية أخري.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2002/9/10/WRIT1.HTM