لا أظن أن بلدين في هذه المنطقة من العالم تربط بينهما ثوابت الجغرافيا وحقائق التاريخ مثل مصر والسودان, وإذا كانت القضية الفلسطينية هي القضية العربية الأولي, فإن المسألة السودانية لا تقل بالنسبة لمصر أهمية وأولوية, لذلك كان ملف السودان من شواغل السياسة المصرية وجزءا لا يتجزأ من الحركة الوطنية في القرنين التاسع عشر والعشرين, وليس ذلك موقفا من طرف واحد, إذ أن الشأن المصري هو موضع اهتمام سوداني أيضا في ظل كل الأنظمة والحكومات, وبرغم أن للسودان جيرانا مباشرين يقترب عددهم من عشر دول فإن علاقته بمصر ذات خصوصية جعلت للأمن القومي لهما مفهوما مشتركا, إذ تبدأ حدود مصر الاستراتيجية من أعالي النيل, وتمتد حدود السودان الجيوبولوتيكية حتي السواحل المصرية للبحر المتوسط, ولقد فطنت مصر مبكرا للنظرية الواسعة لمعني الأمن القومي منذ تعامل الفراعنة مع الحيثيين والهكسوس, كما أن جيش مصر استقبل المغول والصليبيين في عين جالوت وحطين قبل أن تصل جحافلهم إلي حدوده المباشرة, لذلك يكون من الطبيعي أن نهتم الآن بالشأن السوداني ونضعه في مقدمة أولوياتنا, خصوصا بعد مفاجأة الاتفاق بين الحكومة السودانية في الخرطوم وأكبر حركة
في الجنوب يقودها العقيد جون جارانج, حيث فتح الستار فجأة عن توقيع اتفاق بين الطرفين اختلفت بشأنه الأقوال وتضاربت حوله الآراء وتعددت أمامه التحليلات وإن اتفق الجميع علي الشعور بحالة من القلق لأن الاحتمالات مفتوحة حيث بأن حق تقرير المصير يؤدي غالبا عند تطبيقه إلي عملية تقسيم ليست في مصلحة السودان شماله أو جنوبه, كما أن الأمر يستوجب من مصر وقفة واضحة لأنها توءم السودان ورفيق التاريخ وشريك الجغرافيا.
وأستأذن هنا في أن أبث هواجسي وأن أشير إلي بعض مصادر القلق موجزا لها في عدد من النقاط:
أولا: انها المرة الأولي في ظني التي يتخذ فيها السودان قرارا إقليميا بهذا الحجم دون أن يستشير جيرانه خصوصا مصر, ولعل الأشقاء في جنوب الوادي يتذكرون أن الثورة المصرية تحمست لاستقلال السودان مع استقلال مصر, حتي تقطع الطريق علي بريطانيا عند مرحلة معينة لا تتجاوزها, وعندما أجهض حلم وادي النيل كان العزاء الحقيقي لنا هو أن السودان قد حصل علي استقلاله في توقيت مقارب لحصول مصر عليه, وقد تصورنا أن التاريخ قد أسدل الستار علي مرحلة الحساسيات التي غذتها السياسات البريطانية في ظل الحكم الثنائي واستقرت بها أوهام كامنة في عقلية الطرفين زالت بزوال الوجود البريطاني وانتهت باستقلال شطري الوادي, فكان من الطبيعي والأمر كذلك, ألا يتم هذا الاتفاق المصيري الذي يؤثر علي جيران الشمال والجنوب علي حد سواء بهذا التفرد وتلك السرية, بينما هناك أطراف أخري سودانية وغير سودانية سوف يمس الأمر مصالحها ومع ذلك لم تكن شريكا في المفاوضات أو حتي مراقبا لها أو متابعا لمراحلها.
ثانيا: إنني ممن يظنون ـ وبعض الظن إثم ـ أن خيار التوجه الحضاري الذي تبناه نظام الحكم في الخرطوم كان علي امتداد السنوات الأخيرة أكثر إلحاحا من استمرار وحدة السودان نفسها, ولقد سمعت مسئولا سودانيا رفيع القدر يصرح ذات مرة بأنه يؤكد لمصر استمساكهم في الخرطوم بوحدة السودان كما لو كان هذا الأمر مطلبا مصريا وليس ضرورة سودانية!, وقد كان الخلاف بين المبادرة المصرية ـ الليبية ومبادرة الإيجاد يكمن في مسألة حق تقرير المصير ـ برغم بريقها الإنساني والأخلاقي ـ علي اعتبار أنها خطوة قد تؤدي في الغالب إلي انفصال الجنوب وتقسيم السودان.
ثالثا: لقد أتاحت لي ظروف عملي السابق أن يكون ملف السودان واحدا من مسئوليات موقعي وقمت بزيارة الخرطوم علي رأس وفد من مختلف الوزارات والقطاعات للاجتماعات التحضيرية للجنة المشتركة بين البلدين في صيف عام2000, ورأيت المودة الصافية من ذلك الشعب العظيم والرغبة القوية في استعادة إيجابيات الماضي, والابتعاد عن سلبيات فترات معينة, كما أحسست بالتطلع إلي سودان جديد يقوم علي أسس تستمد شرعيتها من مفهوم المواطنة بغض النظر عن اختلاف الأعراق والثقافات والديانات لأن السودان قام أصلا علي التنوع والتعددية وعرف عبر تاريخه عمليات الانصهار المختلفة بين أطراف التركيبة السكانية لذلك البلد مترامي الأطراف, متعدد التخوم, والذي يربض علي ثروات واسعة, فضلا عن مساحات شاسعة من أرض قابلة للزراعة, يمكن أن تجعله بمثابة سلة الغذاء لإفريقيا أو العالم العربي, ولكنه كان دائما قدر السودان في أن يسبق نضوجه السياسي تقدمه الاقتصادي وأن تتطور لديه ديمقراطية متميزة هي التي قدمت للعالم المعاصر نموذجين للتمرد المدني, أحدهما قبيل منتصف الستينيات ضد حكم إبراهيم عبود, والثاني في منتصف الثمانينيات ضد نظام جعفر نميري, ولذلك فإن شعب السودان لا تنقصه الدراية السياسية ولا ثقافة الديمقراطية ولا القدرة علي فهم المواقف وتغيير الأوضاع, من هنا كان اتفاق ماشاكوس من وجهة نظري قفزة علي الواقع ومقاطعة واضحة للتطور الطبيعي لتسوية المسألة السودانية.
رابعا: ان أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001 قد انعكست أيضا علي الوضع في السودان بعدما هرعت حكومة الخرطوم إلي فتح حوار مبكر مع الإدارة الأمريكية وإبداء درجة عالية من التعاون فيما يتصل بالمعلومات المرتبطة بتنظيم القاعدة وقائدها بن لادن, الذي قضي في السودان فترة سعت حكومته أثناءها إلي تسليمه لوطنه الأصلي ـ المملكة العربية السعودية ـ ولكن الأخيرة رفضت بينما نجح السودانيون في تسليم الإرهابي كارلوس لمن يطلبونه للمحاكمة وينتظرونه للمواجهة, ومجمل هذا القول أن النتيجة قد أدت إلي فتح شهية الولايات المتحدة الأمريكية للتدخل السياسي المكثف في المسألة السودانية وهو ما بدا واضحا في الشهور الأخيرة, وكان المبعوث الأمريكي الخاص بالمسألة السودانية الذي عينته الإدارة الجديدة بديلا لمبعوث سابق في هذا الخصوص قد أعد التقرير الذي صدر أخيرا محتويا قدرا من الإيجابية والتفهم الواقعي لطبيعة المشكلة, ولكن الولايات المتحدة الأمريكية التي صرحت دائما بأنها تريد للسودان حلا إفريقيا هي التي فاجأت الجميع بحل مباشر يفسره كل طرف كما يراه وإن كان الانفصال هو منتهاه!! وعلي الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت قد قررت في وقت سابق أن مشاركة مصر كجار من الشمال, وكينيا كجار من الجنوب, سوف يكون من شأنها إحداث التوازن بل وربما التزاوج والاندماج بين المبادرتين المصرية ـ الليبية في جانب, ومبادرة الإيجاد في جانب آخر, إلا أن ما حدث يبدو لي مثل عملية الخروج عن النص الذي يتبعه بعض الفنانين اعتمادا علي عنصر المفاجأة ورغبة في تمييز الدور.
خامسا: ان باقي أطراف المعارضة السودانية الشمالية والجنوبية وهي جزء أساسي من المعادلة برمتها, يشعرون بشيء من الاستبعاد والتهميش, فضلا عن أن الاتفاق الجديد قد جعل عنصر الزمن طرفا في الاتفاق كله عندما قرر مدة ست سنوات كمرحلة انتقالية تثبت فيها الحكومة المركزية في الخرطوم حسن نياتها وتقتسم السلطة والثروة مع أهل الجنوب وتقدم لهم من أسباب الإغراء ما يدعوهم لاستمرار الانضواء تحت مظلة الدولة السودانية بدلا من طلب الانفصال عند ستفتاء علي حق تقرير المصير, وهذه نقطة تبدو غاية في الخطورة لأننا جعلنا تنفيذ الاتفاق مشروطا بمواقف وسياسات لنظام الحكم في الخرطوم تجاه أهل الجنوب وكأننا حكمنا بالحتمية علي خيار الانفصال في الغالب وهو أمر يمثل فصلا جديدا من القلق المشروع ويفتح الملف السوداني علي مصراعيه في هذه المرحلة ويضعه في مقدمة الشواغل المشتركة بين أبناء الشمال وأبناء الجنوب, لا تصرفهم عنها جرائم شارون في الأرض الفلسطينية المحتلة ولا يشدهم عن الإحساس بأهميتها ذلك الإيقاع السريع للتطورات الدولية والمتغيرات الإقليمية لأن السودان قضية مصرية كما أن مصر قضية سودانية.
إن العلاقات المصرية ـ السودانية قد ظلت دائما مثل الأمطار الموسمية تحكمها مواقيت متفاوتة وظروف مختلفة ولم توجد لها سياسة مستقرة مستمرة بين البلدين لأسباب عديدة ليس هذا مجال الخوض فيها, ولكن ما حدث أخيرا من اتفاق بين الحكومة المركزية في الخرطوم وحركة جون جارانج في الجنوب, إنما يمثل خطوة غير واضحة المعالم متداخلة الدلالات يفسرها كل علي هواه, ولا يمكن أن تقف مصر أو ليبيا باعتبارهما نموذجين لجيرة الشمال موقف المراقب من بعيد والمتأمل بغير وعي برغم أن القائد الليبي قد ذكر أننا لن نكون سودانيين أكثر من السودانيين أنفسهم, وهذا صحيح ولكن المسئولية في النهاية لا تقف عند حدود السودان وحده, وليست هذه دعوة للتدخل في شأن داخلي سوداني لأن الأمر عندما يصل إلي احتمالات التقسيم فإنه يبدو مختلفا تماما ولا يصبح شأنا داخليا بقدر ما هو شأن إقليمي وقضية تمس أطرافا غير سودانية أيضا, وإذا كانت شخصية جارانج تحتوي علي كل ألوان الطيف السياسي وهو الذي رفع شعار الوحدة بينما تدل كل جهوده ومساعيه إلي السعي نحو الانفصال, فإن تساؤلات كثيرة تحيط بما جري ومخاوف واردة تلف الأمر برمته, ومن حقنا أن يعلم الأشقاء في السودان شماله وجنو
به أن وحدة التراب الوطني لذلك البلد الشقيق هي أمر يهم مصر بالدرجة الأولي لا لأسباب تتصل بمنابع النيل ـ ومصر تعرف كيف تحمي حقوقها فيها ـ ولا لأسباب تتصل بمخاوف من احتمال وجود إسرائيلي في الجنوب أو قيام دولة دينية في الشمال, وإنما لسبب آخر أساسي هو أنه لايمكن لدولة أن تصحو فجأة ذات صباح لتجد أن الدولة الجارة قد انقسمت إلي دولتين, وأن الجغرافيا السياسية قد تغيرت والحدود قد اختلفت, وأن عليها أن تعيد حساباتها بعد تعاملات ثابتة امتدت لقرون طويلة خصوصا أن مصر ترتبط بالسودان ارتباطا لا يقف عند حدود العاطفة وهي عميقة, ولكنه يتجاوزها إلي إطار المصلحة وهي قوية, فمصر لا تنسي ذلك الشعب صاحب الحس السياسي الرفيع الذي أزاح عن كاهل عبدالناصر العبء النفسي للهزيمة في أثناء قمة الخرطوم العربية في أغسطس1967 والذي استقبل طلاب الكليات العسكرية المصرية في جيل الأولياء مع الأشهر الأولي بعد النكسة, والذي رفضت قيادته أن تمضي مع المظاهرة السياسية العربية ضد مصر, واستمرت محتفظة بالعلاقات الدبلوماسية مع القاهرة بعد توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل, تأكيدا لخصوصية العلاقة بين البلدين, ورفضا للمزايدة علي جارة الشمال, فالسودان هو في ظني واحد من أكبر ديمقراطيات العالم الثالث لأنه يعبر عن شعب من أكثر الشعوب ثقافة, وأشدها إحساسا بالحرية, وأسرعها فهما للتطورات التي تجري والأحداث التي تدور, وأعمقها ادراكا لمحاولات التطويق التي نتعرض لها, والظروف المعقدة التي تحيط بنا والمخططات التي تستهدف استقرارنا, وسوف نظل نرقب من قريب الفصل الجديد من الشأن السوداني ذي الأهمية الخاصة للسودانيين والمصريين علي السواء, مؤكدين أننا نرحب بإيقاف العمليات العسكرية في أقرب وقت ونتطلع إلي نهاية سريعة لنزيف الدماء السودانية في الجنوب لأننا نؤمن بسودان ديمقراطي موحد ينمي قدراته وينعم بخيراته ويكون همزة وصل بين العرب وإفريقيا كما كان عبر كل العصور علي مدي تاريخه الطويل.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2002/8/3/OPIN2.HTM