استبد بي شعور جارف منذ الحادي عشر من سبتمبر2001 يعبر عن حالة من إحساس يمكن تسميته بالاضطهاد القومي والظلم الحضاري لأن هناك من يتحايل علينا, ويسيء إلي تاريخنا ويشوه حاضرنا, وكنت اتساءل دائما: اين هو الرأي العام العالمي وهو بطبيعته عادل وموضوعي أو هكذا يجب أن يكون؟ وأعود بالذاكرة إلي مايزيد علي ثلاثين عاما عندما بدأت عملي الدبلوماسي ودراستي للحصول علي الدكتوراه, حيث عشت في لندن أكثر من ست سنوات آمنت وقتها أن الرأي العام الأوروبي ظاهرة حضارية متوازنة وأن البريطانيين ـ برغم دورهم الذي يقف وراء معظم مشكلات القارتين الآسيوية والافريقية ـ يتميزون باحترام الرأي الآخر وديمقراطية القرار واتساع مساحة الحرية, لذلك ظللت في حوار طويل مع النفس.. أين كل هذا من المشاهد المتعاقبة والتداعيات المتلاحقة في الشهور الأخيرة؟
وهي التي نشرت شعورا باليأس والإحباط وصنعت مسافة واسعة بين أطراف المعادلة الدولية في مواجهة عدو غامض نعرفه بأفعاله ولكن لانستطيع التعامل معه بأفكاره!؟ وقد جاءت زيارتي الأخيرة للعاصمة البريطانية بدعوة من السفير الدكتورمحمد شاكر رئيس المجلس المصري لشئون الخارجية ـ وهو مؤسسة غير حكومية معنية بالشأن الخارجي وقد أثبتت وجودها المتميز برغم حداثة عمرها ـ لإلقاء الكلمة الافتتاحية في المؤتمر المشترك الذي ينظمه المجلس المصري مع المعهد الملكي للشئون الدولية( شتام هاوس) في لندن تحت عنوان النزاع الفلسطيني الإسرائيلي من العملية السلمية إلي التسوية السلمية: ماذا يمكن أن يفعل الآخرون؟
وقد احتشد لهذا المؤتمر جمع من كبار الشخصيات الأجنبية والعربية فكان فيهم من شغلوا مواقع مرموقة وأثروا في القرار السياسي لسنوات من قبل, فمنهم من كان وليا لعهد الأردن ورئيسا لوزراء روسيا الاتحادية, وأمينا عاما لجامعة الدول العربية, ووزيرا لخارجية الأردن, ومديرا لمعهد جيمس بيكر للشئون الدولية, وقاضيا دوليا في محكمة مجرمي الحرب في يوجوسلافيا, مع عدد كبير من قدامي السفراء المصريين في عدد من العواصم المهمة مثل واشنطن وموسكو وأوسلو, إلي جانب مدير إدارة الشرق الأوسط في الخارجية البريطانية, والمساعد الخاص لمكتب الشرق الأوسط في الخارجية الأمريكية, فضلا عن مدير مركز الدراسات السياسية بمؤسسة الأهرام ومعه مفكر سياسي وكاتب صحفي من ذات المؤسسة, ورئيس سابق لأكبر شركة مقاولات عربية وعدد كبير من رجال الجامعات والإعلام والدبلوماسية من مختلف الجنسيات, وقد التقت مجموعة محدودة من الوفد المصري في اليوم التالي مع السيد أوبراين وزير الدولة البريطاني الجديد لشئون الشرق الأوسط, ثم كان اللقاء في اليوم الثالث مع السيد اندرسون رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس العموم البريطاني, لذلك قد يكون من المفيد أن نسجل هنا الملاحظات الرئيسية علي هذا المؤتمر بالغ الأهمية شديد الخصوصية:ـ
أولا: إن الدور البريطاني دور يختلف عن الدور الأوروبي عموما, فالخارجية البريطانية والجامعات في المملكة المتحدة ودوائر الثقافة والإعلام في لندن تملك في مجملها رؤية تاريخية واضحة للشرق الأوسط, فقد عاش البريطانيون فيه وتعايشوا معه حتي ان معظم مانشهده اليوم هو في أصله صناعة بريطانية بل إن الجامعات الكبري الثلاث: كمبردج وأكسفورد ولندن قد أسهمت في حماية تقاليد تلك العلاقة البريطانية الوثيقة بالشرق الأوسط والتي كان أحد رموزها معهد شملان في بيروت الذي كنا نطلق عليه فكاهة وتندرا اسم مدرسة الجواسيس حتي انتهي دوره في منتصف السبعينيات مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية, ومازلت أذكر من سنوات دراستي للدكتوراه كيف أن الكلية التي كنت أنتمي إليها كانت قريبة الارتباط بالخارجية البريطانية, كما أن التواصل بين الباحث الجامعي والدبلوماسي المتخصص والسياسي ذي الاهتمام تجعلهم يمثلون سويا حلقة مترابطة يتشكل من خلالها الموقف البريطاني في عمومه, ولقد أشرت في كلمتي الافتتاحية للمؤتمر والتي قدمت في نهايتها لحديث الأميرالحسن بن طلال إلي شيء من ذلك عندما استعرضت بعض الأسماء التي ترمز إلي تاريخ الوجود البريطاني في الشرق الأوسط خلال القرنين التاسع عشر والعشرين, وقد ذكرت تحديدا أسماء جوردون وكيتشنر وكرومر وجورستواللنبي ولورد كيلرن, كما أشرت إلي اقتراب بريطانيا من الظاهرة الشرق أوسطية بشكل مباشر فكان تعاملهم مثلا مع الهاشميين في أعقاب الثورة العربية الكبري من خلال شخصية لورانس العرب, بل إن الجيش الأردني يرتبط بقائد ذلك الفيلق العربي الجنرال جلوب, كما أن ذاكرتنا لاتزال تذكر أن كيسنجر عندما كان ينتقل بين عواصم الشرق الأوسط وواشنطن في أعقاب حرب1973 كان يتخذ لندن محطته في الذهاب والإياب طلبا للنصيحة, واستطلاعا للرأي.
ثانيا: إن بعض الأفكار في المؤتمر بدت جديدة, ولقد استمعت إلي ادوارد جورجيان الأرمني الأصل وسفير الولايات المتحدة السابق في دمشق, والمدير الحالي لمعهد جيمس بيكر وهو يطرح فكرة التنازل المتعادل من الطرفين كأساس للتسوية حتي ذهب بعيدا عندما قال: إن علي الفلسطينيين أن يقدموا تنازلات في المفاوضات المتصلة بحق العودة, في مقابل تنازل الدولة العبرية هي الأخري عن حلم إسرائيل الكبري, كما أن مسئولا نمساويا رفيعا قد ذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية التي تسعي لتغيير القيادة الفلسطينية يجب ان تسعي وفي نفس الوقت وبذات الحماس لإقصاء الحكومة الإسرائيلية, ولقد لفت نظري بشكل عام أن درجة من التوازن قد أصبحت تسيطر علي الموقف الأوروبي, بل والموقف البريطاني تجاه الأوضاع المأساوية التي تشهدها الأرض الفلسطينية المحتلة في الشهور الأخيرة, وإن كان يؤسفني أن أقول أن جزءا كبيرا من ذلك التوازن لايزال أقرب الي التعاطف الإنساني منه الي الدعم السياسي.
ثالثا: إن الموقف الأمريكي لن يتوقف عند خطاب بوش بل إنني أتصور إنه قابل للتحول, فلقد شعرت من حديث المساعد الخاص لقسم الشرق الأوسط للخارجية الأمريكية أن قرار استبعاد عرفات ليس نهائيا حتي الآن, وأن ردود الفعل الرافضة سوف تدفع واشنطن إلي إعادة النظر في هذا الأمر, ولقد لفت نظري كذلك من خلال بعض الأحاديث والتعليقات أن المملكة العربية السعودية تحاول الاقتراب اكثر من أي وقت مضي من النزاع الفلسطيني الاسرائيلي, وتسعي إلي تعاون وثيق مع الإدارة الامريكية في محاولة لإستعادة مكانتها في واشنطن وهي التي ترعي عملية إعداد دستور الدولة الفلسطينية إسهاما في الإصلاحات المطلوبة من السلطة الفلسطينية!.
رابعا: لقد شعرت بشيء من اليأس المفاجيء عندما وقف أستاذ امريكي ليقرر علنا أنه ينتمي إلي ذلك التيار الذي يسمي بالمسيحية الصهيونية مؤكدا أنه يستحيل علي الرئيس الأمريكي الحالي أن يخرج عن ذلك الإطار الحاكم حيث تتداخل المشاعر الدينية مع المباديء القومية والمصالح الشخصية, كما يجب ألا ننسي أن المزاج الأمريكي في حالة تحول مستمر مع تطورات عقدة الحادي عشر من سبتمبر2001, فالأخبار المرئية والمسموعة والمقروءة تأتينا كل يوم بأنباء جديدة عن انتشار تنظيم القاعدة واتساع دائرة المنتمين إليه علي نحو لم يكن في الحسبان.
خامسا: إن موقف وزير الدولة البريطاني لشئون الشرق الأوسط أوبراين يستحق التسجيل والتقدير في وقت واحد, فلقد استقبل عددا محدودا من أعضاء وفد المجلس المصري للشئون الخارجية في أجمل وأعرق بهو تاريخي بالخارجية البريطانية, وتحدث معنا في موضوعية وصراحة, خصوصا أنه كان عائدا من زيارة لإسرائيل حرص فيها علي لقاء الزعيم الفلسطيني عرفات كإشارة بريطانية لرفض الشرط الأمريكي الذي يصر علي استبعاد عرفات رغم أنه الرئيس المنتخب بإرادة حرة من شعبه, وقد تحدث وزير الدولة عن المخاوف التي يشعر بها الإسرائيليون من عمليات التفجيرات الاستشهادية, وانتقد حماس بعض أجهزة الإعلام العربي لتلك العمليات التي لا يوافق علي استمرارها.
سادسا: كان اللقاء الأخير في اليوم التالي هو اجتماع في قلعة الديمقراطية الغربية حيث استقبل رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس العموم البريطاني السيد اندرسون مجموعة محدودة من الوفد, وقد شاركت في هذا اللقاء باعتباري عضوا في المجلس المصري للشئون الخارجية دون أي صفة تمثيلية لمجلس الشعب المصري الذي اتشرف برئاسة لجنة علاقاته الخارجية, وقد تحدث السيد اندرسون حديثا متوازنا يعكس تفهمهم لمأساة الشعب الفلسطيني وبدت خبرته الواضحة ودرايته الكاملة بمجريات الأمور في الشرق الأوسط شأنه شأن غيره من كبار المسئولين البريطانيين سواء في الحكومة أو البرلمان, ولقد ذكر السيد اندرسون انه يأسف أن لجنة العلاقات الخارجية في مجلس العموم البريطاني ليست لها تلك الصلاحيات الواسعة التي تتمتع بها لجنة العلاقات الخارجية في الكونجرس الأمريكي, وعندما سألته عن الموقف البريطاني في حالة إعادة انتخاب عرفات أجاب أنهم سوف يتعاملون معه بالتأكيد..
لقد كان المؤتمر فرصة لحوارات يمكن أن تتشكل بها نظرة مشتركة تجيب عن التساؤل الرئيسي والذي يدور حول مايمكن أن نفعله جميعا لمساعدة الفلسطينيين والإسرائيليين للوصول إلي بداية طريق التسوية لصراع طويل طالت مدته وتشابكت عناصره لذلك كان استبعاد الإسرائيليين والفلسطينيين من ذلك المؤتمر المشترك امرا مقصودا وهنا يتعين ان نشيد بالمجلس المصري للشئون الخارجية لأنه تمكن من الترتيب الجيد والإعداد الممتاز والتنظيم الذكي لمثل هذه الندوة المشتركة مع واحد من اعرق معاهد البحث في العلاقات الدولية لا في بريطانيا وأوروبا وحدهما ولكن ربما في العالم كله.
.. لن أختتم مقالي دون الإشارة إلي لقاء له أهميته برجل الدين المستنير والداعية الشهير الدكتور زكي بدوي وهو مدير سابق للمركز الإسلامي في لندن ومدير حالي لكلية الدراسات الإسلامية هناك, فضلا عن أن الغرب كله ينظر إليه باحترام ويري فيه مصدرا يستقي منه صحيح الإسلام, كما أن الدكتور زكي بدوي قد أسهم في إعداد الخطاب الشهير لولي العهد البريطاني الأمير تشارلز الذي القاه في جامعة أكسفورد عام1993 والذي نعتبره حتي الآن نقطة تحول إيجابية في فهم الغرب للإسلام الحقيقي, ولقد حدثني الدكتور بدوي حديثا ذا شجون تبدو منه رؤيته الواضحة لعالم مابعد الحادي عشر من سبتمبر2001, حيث وجدت نفسي أمام رجل دين إسلامي عصري يتحدث الإنجليزية كأهلها, ويخاطب العقل الغربي بوعي واستنارة وأيضا بوضوح وجسارة, كما يتمتع برصيد كبير من التقدير والاحترام في الأوساط الغربية عموما والبريطانية خصوصا.. لقد كانت زيارة لندن في مجملها رحلة ثقافية ومهمة فكرية وحوارا متصلا هو تجديد للفكر, وتصحيح للصورة, وصحوة للعقل.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2002/7/16/WRIT1.HTM