لا أعرف اذا كان هذا هو الوقت المناسب لكي أطرح بعض الأفكار المتصلة بالشخصية المصرية, في إطار الهوية العربية وتأثير مسألة الخصوصية القطرية عموما علي السياسات المختلفة لدول المنطقة, وتحديد مستوي العلاقات العربية ـ العربية, واذا اتخذنا مصر( نموذجا) للدراسة, فإننا يجب أن نواجه بوضوح وشفافية المقومات الذاتية المصرية التي تميزها عن سواها, نعم... المصريون عرب الثقافة واللسان, أفريقيو الموقع والانتماء, مسلمون ومسيحيون بالعقيدة والدين, لهم ارتباط بحوض البحر المتوسط مثلما لهم من امتداد في حوض نهر النيل, إنني لن أعود الي الصيغة الرائعة والسبيكة الفريدة التي قدمها مؤرخ الجغرافيا الراحل جمال حمدان عن مصر, ولكني أريد أن نذهب الي جوهر المكونات الحقيقية للشخصية المصرية لكي نكتشف الأسباب التي أدت الي فرادة ذلك الموقف المصري وخصوصيته.
فلقد رفع ثوار1919 شعار الأمة المصرية ولكن تصورنا بعد1952 أن ترديد مثل ذلك الشعار في ظل سنوات الزخم القومي والمد العربي أمر لا يليق ويتعارض مع الروح السائدة ويمثل ردة تاريخية لا مبرر لها, بينما ظهر اتجاه آخر يري أنه توجد لنا أسباب للخصوصية ومبررات للتميز, والتميز بالمناسبة لا يعني المفاضلة, فلكل قطر عربي روح متميزة ومذاق خاص في إطار الأمة العربية الواحدة, ولكن مصر بموقعها الجغرافي وتراثها التاريخي وحجمها السكاني, ودورها المحوري ووضعها المركزي, تبدو ذات خصوصية واضحة تندرج في النهاية تحت إطار التعددية القومية والتنوع السياسي والاجتماعي للأمم, فالثقافة العربية واحدة, والانتماء القومي مشترك, ولكن الأدوار مختلفة والتنوع وارد, ومازلت أذكر عندما كنت دبلوماسيا صغيرا في المملكة المتحدة ـ وكانت ملكة بريطانيا ـ وأظنها لاتزال ـ, تقيم حفلتين سنويتين إحداهما شتوية داخل القصر والأخري صيفية في حدائقه ـ كيف أن الأمير فيليب زوج الملكة اليزابيث الثانية كان يسأل السفير المصري ـ ونحن معه ـ عن الاسم الرسمي للدولة المصرية مبديا انزعاجا لاختفاء اسم مصر منه, عندما كانت لاتزال تحمل اسم الجمهورية العربية المتحدة, مؤكدا أن هذا الوضع يجب ألا يستمر وأن اسم مصر ـ أعرق دول الأرض وأم الدنيا ـ يجب أن يعود وأن يطل علي من يعرف قيمة هذا الوطن ومكانته, وقد كنت أتحرج شخصيا ـ بحكم انتماء عربي أعتز به وميول قومية لا أنكرها ـ من التورط في استخدام تعبير الأمة المصرية, رغم إيماني بوجود مقوماتها واستكمال عناصرها, الي أن استمعت الي الرئيس اللبناني أميل لحود في خطاب تنصيبه رئيسا للجمهورية, وهو يتحدث عن الأمة اللبنانية, عندئذ زال الحرج, وقلت في نفسي لقد أصبح من حقنا أن نردد ما قاله سعد زغلول عن الأمة المصرية عندما كانت العروبة مسألة ذات مضمون ثقافي يتصل باللغة العربية, ومفهوم ديني يرتبط بالإسلام دون وعي كامل بمدلول العروبة الحقيقي, ومع ذلك فإنني لست أوافق تماما الذين قالوا إن العروبة السياسية قادم طاريء علي الساحة المصرية, أو زائر عابر وفد الي مصر مع ثورة يوليو1952, أو دفعت به المخاطر الناجمة عن قيام دولة إسرائيل قبل ذلك بسنوات قليلة, فأنا ممن يعتقدون بضرورة التسليم بالعروبة السياسية وأهميتها بالنسبة لمصر, لكنني أري في الوقت ذاته, أن لمصر درجة من الخصوصية القطرية ـ شأن غيرها من دول عربية أخري ـ تعطيها درجة من التميز ونوعا من الفرادة, لذلك فسوف أمضي في هذا السياق متحدثا عن عروبة مصر ثم أشير بعد ذلك الي خصوصية النموذج في محاولة لاستخلاص النتائج السليمة من خلال المقدمات الصحيحة.
عروبة مصر
إن عروبة مصر ليست قضية جدلية نفتح ملفها من حين لآخر, بل إنها كما قالت وثائق الحكم في مصر منذ ستينيات القرن الماضي قدر ومصير وحياة, ولكنني أظن اليوم أن الظروف قد تجاوزت هذا الموقف الفكري لتعطي مفهوم العروبة مذاقا مختلفا يركز بالدرجة الأولي علي المصالح القومية المشتركة, ويخرج من دائرة العاطفة الحماسية والشعارات الضخمة ليصنع إطارا عصريا لهذا البعد المهم في الهوية المصرية, وبرغم أن مصر هي حافظة التراث القومي وحامية الذاكرة العربية بأزهرها الشريف, وبالارتباط الوثيق بين العروبة والإسلام علي أرضها, فإنها تبدو رغم ذلك خارج السياق التقليدي لمفهوم العروبة اذا ما قورنت بدول عربية أخري, خصوصا دول الشام الكبير, حيث انتقلت العروبة الي تلك الأقطار مع الدولة الإسلامية الأولي واستقرت فيها, وكرس من وجودها ـ خصوصا في العصر الحديث ـ تلك المواجهة بين عرب الشام وسلطة الاحتلال التركي, الذي يشترك مع أهل تلك البلاد في إسلامهم ولكن يختلف معهم في قوميتهم, لذلك كان طبيعيا أن يركز الشوام علي الطرح القومي وأن يكونوا رواد العروبة الفكرية والسياسية, وهو أمر لم تعرفه مصر التي كانت تواجه خصوما يختلفون مع أهلها في الدين, سواء كانوا فرنسيين أو انجليز, لذلك ولدت الحركة الوطنية المصرية في أحضان التوجه الإسلامي, وارتبطت منذ بدايتها بالتيار الديني الذي كان يقوده الأزهر الشريف في القرن التاسع عشر تحديدا, حتي أن عرابي تقهقر عندما خذله السلطان العثماني واعتبره عاصيا, كما أن مصطفي كامل كان يتحرك بمباركة من دولة الخلافة قبيل احتضارها, ومع ذلك يجب ألا ننسي أن المثقفين المصريين منذ بدايات التنوير الذي بدأه رفاعة الطهطاوي أو التغريب الذي شجع عليه الخديو اسماعيل, كانوا في مجملهم يتحدثون عن ارتباط مصر بثقافات البحر المتوسط, وقد روج مفكرون كبار من أمثال أحمد لطفي السيد وطه حسين وسلامة موسي وتوفيق الحكيم لذلك التوجه, حتي أن عميد الأدب العربي قد ربط مستقبل الثقافة في مصر بدول حوض البحر المتوسط, خصوصا بلاد الحضارة الهلنية المتمثلة في دولة اليونان مصدر الفلسفة الديمقراطية في العالم القديم, من هنا فإننا نسلم بأن العروبة السياسية لم تكن ذات أولوية قبل1952, وإن كان ذلك لا يعني انعدام وجودها في تلك الحقبة, وهل كانت جامعة الدول العربية التي وقف وراء قيامها الانجليز في منتصف الأربعينات إلا تدشينا لفكر نعلم تأثيره ومصادره, بل إنني لا أشتط كثيرا لو قلت إن شيئا من النظرة الضبابية قد خالط الفكرة الغربية في مصر, حتي توهم البعض أن العروبة ترتبط بحياة البدو وسكان الصحراء وأطراف الدولة, ولقد وقع الأديب المصري الراحل توفيق الحكيم في شيء من ذلك الخلط, في إحدي مؤلفاته المسرحية الرائعة, ولست أشك في أن هناك عوامل محددة لتأكيد العروبة السياسية في مصر, لعل أولها هو الخطر الصهيوني وقيام الدولة العبرية, بينما يمثل قيام جامعة الدول العربية العامل الثاني الذي جعل القاهرة مركزا للعمل العربي الرسمي المشترك, ومع ذلك كله فإن قيام ثورة يوليو والمد القومي في عصر عبدالناصر هما اللذان يمثلان التدشين الحقيقي للعروبة السياسية في مصر.
خصوصية النموذج
إن الحديث عن خصوصية النموذج المصري ليس مجرد مناقشة نظرية, أو ترفا فكريا, ولكنها قضية ترتبط ارتباطا وثيقا بفكرة قطرية النموذج, واختلاف الأجندة السياسية لكل دولة عربية, فالعرب يتحدثون لغة واحدة في العلن, ولكن لكل عاصمة برنامجا وطنيا مختلفا وإن لم يكن متعارضا بالضرورة مع المصلحة القومية العليا, ولست أنطلق في ذلك من نظرة قطرية ضيقة أو شعور شيفوني متطرف, أو نظرة استعلاء لا مبرر لها, فأنا أظن أن الأشقاء العرب في المشرق والمغرب علي السواء قد وضعوا مصر دائما في إطار خاص, فالمشارقة العرب حسبوها علي المغرب أحيانا أو الوسط دائما, بينما حسبها عرب المغرب علي المشرق والوسط وجعلوها ذات خصوصية منفردة, ربما بحكم حجم سكانها أو عظمة نيلها أو طيبة شعبها, ولعلنا نذكر أن الثورة العربية الكبري في غضون الحرب العالمية الأولي بزعامة الشريف حسين( ملك المغرب) كانت تستثني مصر من مشروعها القومي, ولولا أن المقر الشرق أوسطي لسلطات الامبراطورية البريطانية كان في القاهرة حينذاك, لما ورد ذكر مصر في مراسلات الشريف حسين ـ مكماهون مثلا وغيرها من وثائق الثورة العربية الكبري, ولست أهدف من ذلك الي عزل مصر فكريا عن أمتها أو الانتقاص من هويتها, ولكنني أريد أن أقول إن الاعتراف بخصوصية كل قطر عربي أصبح حقيقة لايجب الدوران حولها, إن عبدالناصر ـ بقيمته القومية الضخمة وقامته العربية العالية ـ قد حافظ قولا وعملا علي خصوصية لبنان, حتي في أكثر سنوات المد القومي وقيام الجمهورية العربية المتحدة, لذلك فإنني أحسب أن التسليم بخصوصيات الأقطار العربية سوف يكون عاملا للتوحد وسببا للتقارب ومصدرا لواقعية العلاقات العربية ـ العربية, والحيلولة دون ازدواج المواقف وتضارب السياسات, أما لماذا أطرح هذا الموضوع الآن وفي ظل ظروف التوتر في المنطقة, وحالة الترقب انتظارا لكل جديد, والقلق أمام كل الاحتمالات؟ فإن السبب ببساطة ووضوح هو أنني شعرت ـ ومعي الملايين ـ أن هناك انتقادات مختلفة قد وجهت الي عدد من الدول العربية أخيرا في إطار أحداث الأرض الفلسطينية المحتلة, مع ارتفاع في سقف التوقعات الجماهيرية والسياسية من بعض الأنظمة العربية, بينما الأمر يتجاوز النظرة العابرة والانطباع العام الي ضرورة التعمق في مكونات الهوية الوطنية والظروف القطرية والعوامل المؤثرة في القرار السياسي الخارجي لكل دولة, والالتزامات الدولية التي تقيده والمحاذير التي تعترضه, إن ما نذهب إليه ليس تبريرا لمواقف أو تفسيرا لسياسات, ولكنه تأكيد لحقيقة واضحة علي الساحة العربية, وهو أمر لا يمثل إشارة الي مصر وحدها, لكنه ينصرف الي غيرها بنفس الدرجة والتأكيد.
إن الأمم لا تتماسك إلا بالاعتراف بالحقائق, ولا تهدأ إلا بالتسليم بالخصوصيات, ولا تمضي نحو أهدافها الكبري ومصالحها العليا إلا بتعريف المسائل بأسمائها الصحيحة, ووضع القضايا في اطارها الحقيقي.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2002/6/4/WRIT1.HTM