أثارت بعض مقالاتنا الأخيرة اهتمام القراء وأعطتني إحساسا متزايدا بجدوي الكتابة وتأثيرها في خلق حوار متصل بعد أن كنت أتشكك في جدواها أحيانا, ولكن يبدو أن حيوية الموضوعات المرتبطة بالتطورات الجارية هي التي تحدد درجة الاستجابة لها خصوصا, وأننا نمر بظروف استثنائية علي الصعيدين الدولي, والاقليمي, فالقلق يفتح شهية الناس للقراءة ويغري بالتأمل ويحرض علي التفكير, ولقد استأثرت مقالاتنا المتصلة بالمرحلة الحالية من النضال الفلسطيني, وتلك التي تتناول تحديث الدولة بالاهتمام الأكبر, لذلك رأيت أن أفسح مجالا في هذا المقال لمقتطفات من تعليقات وتعقيبات وردت إلينا حول ماكتبته في الأهرام خلال الأسابيع الأخيرة, ولقد اخترت نماذج ثلاثة أبدؤها برسالة من السفير الأمريكي بالقاهرة دافيد ويلش يقول فيها:
( لقد استمتعت حقيقة بمقالك في الأهرام12 فبراير2002 بعنوان نحو مرحلة جديدة من النضال الفلسطيني, وبالطبع فإنك لاتتوقع مني أن اتفق معك في تفاصيله بل ربما أصابك الإحباط لو أنني فعلت ذلك! ومع هذا وعموما فإن منطق تسبيب حججك مقنع).
.. أما الرسالة الثانية فقد جاءتني من أستاذ جامعي مرموق هو د.ماهر شفيق فريد أستاذ مساعد الأدب الانجليزي بآداب القاهرة يقول فيها:
( أكتب إليك هذه الرسالة عقب فراغي من قراءة مقالك الشجاع المستنير معركة التحديث في أهرام الثلاثاء26 فبراير, وهو مقال يستحق أن يحتل مكانا طليعيا في كتابات كتيبة التنوير في غمرة مد سلفي لايفتأ يعلو حتي لتكاد تتراجع معه منجزات الفكر التنويري الذي رفع منه القواعد منذ أواخر القرن التاسع عشر أمثال الطهطاوي, ومحمد عبده, وقاسم أمين, وعلي عبدالرازق, وطه حسين, والعقاد, وهيكل, وسلامة موسي, وأمين الخولي, وإسماعيل مظهر, ولويس عوض, ومحمد مندور, وزكي نجيب محمود, وحسين فوزي, وخالد محمد خالد.
أرجو أن تأذن لي بالتعقيب علي عدد من النقاط الواردة في مقالك: التحديث, كما قلت, هو معركة المستقبل التي يرتهن بها تقدمنا, بل وجودنا ذاته في السنوات القليلة المقبلة, والتحديث, كما أراه يعني ـ في المحل الأول ـ إقامة المجتمع المدني الذي يتسع صدره لكافة الاجتهادات, إن الآفة الكبري التي تحول بين مجتمعاتنا العربية والتحديث الحقيقي ـ لا المظهري ـ هي خلطها المستمر بين مجالات العقل من ناحية ومجالات الوجدان من ناحية أخري, إن التعامل مع العالم الخارجي ـ الطبيعة الفيزيقية ومسائل الاجتهاد في إعمار الكون وبناء الحضارات والاكتشاف العلمي ـ لا يكون بالعاطفة وإن كانت العاطفة قوته الدافعة وإنما يكون بالفحص النزيه المجرد من شوائب الهوي للظاهرة المدروسة حتي لو تعارضت مع مشاعرنا الشخصية, لقد جرحت مشاعر الإنسان الغربي, بل أصيب كبرياؤه في مقتل, حين علمه كوبرنيكوس أن الأرض ليست مركز الكون, وحين علمه فرويد أن الإنسان تسيره غرائز الجنس والعدوان, وحين علمه داروين أننا والقردة العليا أبناء عمومة, وحين علمه ماركس أن الأبنية الثقافية الفوقية التي نزهو بها ليست إلا انعكاسا لمصالح طبقية وصراعات اقتصادية, وحين علمه فريزر أن الإنسان البدائي أمس رحما بالإنسان المتمدين مما كنا نظن, ولكنه تغلب ـ بجهد شاق اليم ـ علي هذه الصدمات كلها, وتمثلها جميعا حتي استوت له هذه الحضارة التي هي ـ رغم كل نواقصها ـ أعلي نقطة بلغتها البشرية في تاريخها حتي يومنا هذا.
أحيي شجاعتك إذ تقول إن الحملة الفرنسية ـ ونحن جميعا: أنت وأنا وغيرنا من المصريين ندينها باعتبارها غزوا استعماريا ـ كانت ذات بعد ثقافي وعلمي أدي إلي صحوة حقيقية في مصر.
أجل لقد كانت حملة نابليون القارعة التي وضعتنا علي طريق التحديث انظر دهشة الشيخ عبدالرحمن الجبرتي إزاء التجارب الكيميائية لعلماء الحملة! ولولاها لظللنا نغط في ظلمات الجهل والتخلف قرنا أو قرونا أخري, ولو كان علينا أن نختار بين شرين ـ الاحتلال الفرنسي أو احتلال العثمانيين والمماليك ـ فإني أختار بلا تردد أن يحتلني نابليون سليل الثورة الفرنسية وحركة الأنوار وفولتير, وروسو, ومونتسكيو, وديدرو, وجوته ـ علي أن يحتلني سلطان الآستانة أو مراد بك أو علي بك الكبير أو الألفي بك.
إني اشعر بقلق شديد إذ أري أنه منذ صدور كتاب المؤرخ الدكتور عبدالعزيز الشناوي قبل قرابة ثلاثين سنة تيارا متناميا يدعو إلي إعادة الاعتبار للدولة العثمانية, متجاهلا كل مظالمها وتخلفها وجنايتها علي شعوبنا العربية, وأساتذة مستنيرين كالدكتورة ليلي عنان ـ أستاذة الأدب الفرنسي بآداب القاهرة ـ يكادون ينزعون من الحملة الفرنسية كل مزية, إن حملة نابليون الغازي ـ مع الاعتراف بكل جرائمها ـ هي صاحبة الفضل في اكتشاف حجر رشيد وحل مغاليقه, وتأليف كتاب وصف مصر, وإدخال المطبعة والجرائد, وتحديث نظام الحكم, وتبصير المصريين بمقومات بناء الدولة العصرية.
والأمر كما صاغه أحمد عبدالمعطي حجازي في عبارة هو: نعم لفولتير,( لا) لبونابرت.. لا للغزو الاجنبي ـ فرنسيا كان أو بريطانيا أو غير ذلك ـ ولكن نعم لقيم الاستنارة التي جلبها هذا الغزو معه, نحن جميعا ضد الاحتلال البريطاني لمصر, وقد استشهد أجدادنا وجداتنا في الكفاح ضده, ولكننا لاننكر أنه حقق ايجابيات كثيرة كإلغاء نظام السخرة, ومد خطوط السكك الحديدية, وإقامة أنظمة الري علي النيل, وتنظيم الدواوين الحكومية, وتعليم الفتاة, وفتح نافذة علي نسائم الشمال.
أصبت في دعوتك إلي حد أدني من توحيد الخلفية التعليمية ـ تحقيقا لوحدة الأمة فكريا, ووجدانيا, وحفاظا علي تماسكها الداخلي ـ وهو ماسبق أن نبه إليه طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر, فنحن ـ في طرائق تفكيرنا, وأساليب سلوكنا ـ نكاد نكون أمتين لا أمة واحدة, احداهما متحررة ممعنة في التحرر, والأخري محافظة مغرقة في المحافظة, ولا تكاد تقوم جسور واصلة بين الفريقين لأن التوجه الفكري ونمط التعليم والتربية المنزلية بالغة الاختلاف بين الفريقين, وكلاهما ينظر إلي الاخر بعين الريبة والاتهام والكراهية, قمة انقسام حاد في الشخصية القومية, بل داخل الفرد ذاته.
الدولة العصرية هي غايتنا, والتحديث هدفنا, والصحوة العقلية هي سبيلنا لتحقيق ذلك أجل, ولكن هذا كله, لايتحقق إلا بإعلاء قيم العقل والنقد والحوار, وألا نسمح لمساحات الاستنارة, التي كسبناها بعد جهد جهيد, بالتقلص والانكماش والتراجع إلي مواقع الدفاع يوما بعد يوم.
.. وقد نتفق مع معظم ماجاء في رسالة د.ماهر شفيق, ونختلف أيضا مع قليل منها ولكننا نؤكد علي عمقها وثراء فكرها.
.. وقد جاءت الرسالة الثالثة من الدكتور كمال متولي, وهو كاتب مصري معني بالشأن العام يقول فيها:
قرأت اليوم مقالك معركة التحديث وهي بلاشك الشغل الشاغل للمهمومين بشئون الوطن, اتفق معك في بعض ما جاء مع ما لابسه من غموض قد تتطلبه بعض الحساسيات, واختلط علي الأمر في مواضع أخري, واختلفت في ثالثة, فاسمح لي بطرحها.
.. أتفق معك في أن صحوة التحديث ترتكز علي الإنسان, لكن ليس بالضرورة أنه ابن حضارته المتأثرة بتراكم القيم والمفاهيم والمبادئ, خاصة إذا كان خاضعا لقوة قاهرة تمنعه من الافصاح عن قناعته.. من هنا كان ضرورة الاهتمام ببناء الشخصية المستقلة للمصري في بيته ومراحل تعليمه, قد تكون تناولتها علي عجالة عندما تكلمت عن تكوين ضمير الجماعة وتشكيل هويتها بالمشاركة, وقد سبق لك الكلام بوضوح أكثر خاصة في مقال مأزق عربي في العام الماضي.. أما بالنسبة للأمير عبدالله ولي عهد السعودية ومبادرته الفكرية, فقد اختلط علي الأمر بين المنامة, ومسقط, حيث أن خطابه الأول عام2000 لا جبهة عسكرية موحدة في غياب سياسة موحدة ورؤية مشتركة وموقف موحد للتعامل مع مايحيط بنا وهي قمة الخطاب الانتقادي من مسئول, أما مسقط عام2001 فقد كانت حول إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل.. وأرجو التصحيح إن كانت الذاكرة قد خانتني.. أما غياب المؤسسة الدينية فأسبابه معروفة منذ غير قانون الأزهر, واختيار شيخه, وقد كان اختياره من هيئة كبار العلماء التي لاينضم إليها إلا من ساهم في إثراء الفقه الإسلامي بأعمال منشورة, وكان علي الهيئة أن تسمي ثلاثة
باختيارها الحر يختار الملك احدهم, وحتي اليوم يختار المجمع المقدس بابا الكنيسة الأرثوذكسية اختيارا حرا ليصدر بتعيينه قرار جمهوري.. ولم يقتصر الأمر علي هذا بل اقفل باب الاجتهاد تماما بتقييد أي فكر لايتسق مع قرار سياسي, وعلاجها أن يوسد الأمر إلي أهله فيقطع الطريق علي أدعياء التدين, وهم بالضرورة ذوو طموحات سياسية لم يتجاوزوها إلي تراكم فقهي وأساءوا إلي الإسلام بأقوالهم, وأفعالهم غير المسئولة.. الشعب المصري شعب متدين عبر التاريخ واهتمامه بالحياة الأخري منذ الفراعين, ومقابرهم خير شاهد علي تأصل الروحانيات في هذا الشعب, وهو أمر لايعيبه ان أحسن توظيفه ايجابيا, فالإنسان مكلف بأن يحسن العمل الذي سيحاسب عليه, وما التفريط القائم إلا ثمرة تراجع المضمون وطغيان الشكليات, ليته يحسن فهم الدين, أي دين, ويعمل بصحيحه.. سبق أن تناولت الإنفاق الديني في مصر علي ما أتذكر العام قبل الماضي, وفي أشهر الصيف, وكان يجاور مقالك علي صفحات الجريدة ترويج شركات السياحة للسفر إلي أوروبا وأمريكا بأسعار أقل من المحلية!! تناولت حوار الحضارات وحوار الأديان مرجحا التراث العربي الضارب في الأعماق بما يفهم منه عدم ارتياحك له حوار الحضارات والأديان, وقد سبق أن تناولته في مقال لك عام2001 علي ماأذكر وقلت إن صراع الحضارات مدخل العولمة التي هي الباب الخلفي لاستعمار هذا الزمان واتفق معك في ذلك واسمح لي أن أضيف تصوري أن ما يقال عن صراع الحضارات فرية تحمل نقيضها في تعريفها لان الحضارة نمو وبناء وما حضارات الشعوب إلا تكامل لبناء حضاري لشعوب أخري ومن ثم فإن المفترض مناقشته هو تنمية عناصر تكامل الحضارات.. أما حوار الأديان فإني اتفق مع البابا شنودة الذي رفض حضور اجتماع الإسكندرية لحوار الأديان, فليس بينها حوار.. الذي بينها تعايش لمن فهم صحيحها والتزم به.
هذه نماذج من رسائل ثلاث نستخرج منها الملاحظات الآتية:
1 ـ إن المفكرين والمثقفين والمسئولين هم جميعا في حالة اهتمام بالقضايا العامة والمسائل القومية بدرجة متزايدة إذا اشتدت العواصف وتكاثفت السحب وبدأت الأعاصير والأنواء.
2 ـ إن هناك اتفاقا عاما مؤداه أن معركة التحديث هي التحدي الحقيقي الذي يجب أن نواجهه حتي لايخترق قطار الموت ربوع الوادي مرة أخري في دراما إنسانية حزينة تؤكد أن الإهمال صنو حقيقي للإرهاب.
3 ـ إنه مهما اختلفت اجتهادات أبناء الوطن ومشارب المنتمين إلي قوميته الواحدة وتراثه الحضاري المشترك إلا أن الأمر الذي لاخلاف حوله هو أن الدولة العصرية هي التي تعيش روح العصر وتتفاعل مع تطوراته كما أنها هي الباقية في النهاية.
.. وسوف تظل قضية التحديث شغلنا الشاغل, وهمنا الدائم, خصوصا وأن أجراس الإنذار تدق بشدة, ولكننا لاننتبه لها غالبا, أو نستهين بها أحيانا.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2002/3/26/WRIT2.HTM