ستنعقد في العاصمة اللبنانية القمة العربية الدورية الثانية منذ إقرار آلية انتظامها سنويا وهو أمر يجعل انعقادها سببا للتأثير في الأحداث وليس نتيجة لها لأن انعقادها يأتي وفقا لقاعدة دورية افتقدها العمل العربي المشترك طويلا ثم تحققت له أخيرا.
والذي يغريني بتوجيه رسالة إلي الملوك والرؤساء والأمراء هو خصوصية الظرف القومي العام والوضع الدولي المختلف فالقمة تنعقد في ظل عدوان إسرائيلي متصاعد علي الشعب الفلسطيني وهي أيضا أول قمة عربية بعد الحادي عشر من سبتمبر2001.
ولقد اخترت أسلوب الرسالة المفتوحة لأنه يعطي قدرا أكبر من وضوح الفكرة ومساحة أوسع من حرية العبارة فضلا عن أن رسائل الكاتب الأمريكي اليهودي توماس فريدمان في العامين الأخيرين قد أصبحت تغري بذلك الأسلوب الذي لا يبدو جديدا وإن كان لافتا.
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو
إنكم تتحملون في هذه المرحلة شديدة الحساسية بالغة التعقيد مسئوليات غير تقليدية بطبيعتها في ظروف غير تقليدية بتوقيتها لأن العالم فوجئ في الحادي عشر من سبتمبر من العام الماضي بحادث إرهابي تعرضت له مدينتا واشنطن ونيويورك وتعرض العالم معهما لتغيرات دولية وإقليمية غير مسبوقة حتي أصبح الوطن العربي الذي تحكمونه مستهدفا مرتين مرة بالإرهاب وأخري بالحملة الأمريكية ضده إلي جانب معاناة يومية يودع فيها الفلسطينيون رجلا أو امرأة شابا أو طفلا وكل منهم دعا الله واستشهد علي حد تعبير الشاعر علي محمود طه في غمار حرب فلسطين الأولي من هنا فإن المسئولية كبيرة والعبء ضخم والظروف معقدة والأمر يحتاج في مجمله الي رؤية جديدة وتفكير مختلف وأسبابي في ذلك هي:
أولا: إن المسافة بينكم وبين الشارع العربي قد انكمشت بحكم وعي الجميع ـ حكاما ومحكومين ـ بطبيعة التحول الذي طرأ علي العالم وجعل الولايات المتحدة الأمريكية طرفا مباشرا في كل صغيرة وكبيرة وأتاح لها فرصة جديدة لإعادة ترتيب الأوضاع الإقليمية والدولية طلبا لعالم طيع وسعيا نحو علاقات دولية تحركها واشنطن بأقل قدر من المسئوليات وأدني مستوي من النفقات فالحملة التي تقودها ضد الإرهاب أصبحت مبررا قويا لأن تفعل ما تريد متي تشاء! وليس الأمر مطلقا علي هذا النحو بالطبع ولكنها طبيعة المرحلة الملتهبة التي تبدو فيها الولايات المتحدة الامريكية في حالة احتقان شديد.
ثانيا: إن العرب لا يمكن أن يظلوا ـ والصورة كذلك ـ مجرد رد فعل عاجز يبدو مستقبلا فقط غير قادر علي الارسال ولكن يتعين عليهم أن يصبحوا قوة فاعلة علي الأقل سياسيا في هذه المرحلة تنطلق عنهم الأفكار وتخرج منهم المبادرات بحيث يكون تعاملهم مع الآخر قائما علي الندية الفكرية والقدرة الذاتية مع اكتساب مرونة الحركة الكاملة في إطار الثوابت القومية فلقد حان الوقت الذي ينبغي فيه أن نتعامل بواقعية مدروسة وفهم كامل لأسلوب تفكير الغير في الحاضر وتصورات الآخر حول المستقبل لأن لكل دولة( أجندة) خاصة قد تلتقي مع غيرها في نقاط وتختلف معه في اخري لذلك فإن البحث عن الأرضية المشتركة أمر ضروري في ظل محاولات التعميم والتصنيف والتشويه والإقصاء.
ثالثا: إن المستوي الذي بلغته الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة وذلك السباق بين التصعيد الاسرائيلي الغاشم في ناحية والبسالة الفلسطينية المستميتة في ناحية أخري يضع أمامكم ـ كقادة للأمة العربية ـ تحديا لا يمكن تجاوزه بغير الحزم المحسوب والحكمة المطلوبة لأننا نمشي علي الأشواك ونتحرك في مساحة محددة إذ أن الخيارات في معظمها صعبة ونحن نحتاج الي عملية اختراق حقيقية نخرج بها من الإطار التقليدي للشخصية العربية الي إطار مختلف تقل فيه أخطاؤنا وتسيطر عليه إرادتنا ويعتمد أسلوبا رشيدا لا يقبل المزايدة ولا يتحمس للشطحات ويميل الي محاصرة الطرف الآخر بالسياسات الذكية والأطروحات الواعية دون تفريط في حق أو تنازل عن مبدأ.
رابعا: إن فتح جسور جديدة وقنوات مختلفة مع دوائر صنع السياسة الامريكية قد أضحي قضية تستحق التركيز والاهتمام فالسياسة الأمريكية لا تصنعها الإدارة وحدها ولكن دور الكونجرس وجماعات الضغط أصبح لا يمكن الإقلال من شأنه وبهذه المناسبة فإن أي حديث عن( لوبي) عربي هو حديث ينبغي أن يخضع لضوابط حتي لا يصبح طحنا في الهواء أو حرثا علي الماء لأن ذلك( اللوبي) يجب أن يكون جزءا لا يتجزأ من المجتمع الأمريكي يتحدث في قضاياه الفرعية مثلما يناقش سياساته الخارجية ويكون له رأي في المسائل التي تهم المواطن الأمريكي العادي بدءا من الضرائب وصولا الي الإجهاض مرورا بالشذوذ! ولا يمكن أن يكون مجرد تجمع من أصول قومية واحدة يصحو في بعض المناسبات ليتحدث عن الحق الفلسطيني ثم يغفو بعدها بصورة سلبية أمام باقي المسائل والمشكلات.
خامسا: إننا ندرك ـ أيها القادة العرب ـ أن الأجندات القطرية مختلفة وأنه إذا كانت تجمعكم قضية عربية واحدة إلا أن لكل منكم ظروفا داخلية خاصة وارتباطات دولية مختلفة والتزامات قانونية مغايرة ولكن هناك حدا أدني من المصلحة المشتركة والمصير الواحد والالتزام القومي الذي يجب أن يلتف حوله الجميع لذلك فإن الحديث عن زعيم معتدل وآخر متشدد يجب أن يكون في دائرة المصلحة القومية. فالإسرائيليون علي الجانب الآخر- صقورا أو حمائم- يتحركون في مربع واحد مهما تبد عليهم مظاهر الاعتدال او علامات التشدد ولكم في شخصية شيمون بيريز وتحولاتها ذلك النموذج الذي يؤكد ما أقول.
سادسا: إن الوضع في العراق يجب أن يكون مبررا لموقف عربي موحد فالأمم العظيمة تتغاضي عن خلافاتها الفرعية من أجل قضاياها الأصلية ونحن لا ندافع عن نظام بعينه ولا نبرر تصرفا بذاته وليس من مسئوليتنا غفران الخطايا كذلك ولكننا نؤمن بأنه قد آن الآوان لكي نفرق بين الثوابت والمتغيرات بحيث نضع أولويات لا تضيع في غمارها القضايا الكبري أو المهام الرئيسية.
سابعا: إن النظرة الشاملة للأمور والرؤية المتكاملة للمواقف يجب أن تحكم العمل العربي بديلا للنظرات الجزئية والرؤي الضيقة فالأحداث التي تجري حولنا تبدو كاشفة للمستقبل وإن لم تكن منشئة له ولابد أن ندرك أن صورتنا لدي الآخر تحدد درجة احترامه لما نفعل وقبوله لما نريد.
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو...
إن بعض الدوائر في الغرب عموما وفي الولايات المتحدة الأمريكية خصوصا تصورنا باعتبارنا منتجين لسلعة رئيسية هي الإرهاب نصدرها لغيرنا ويعاني منها سوانا لذلك فإن هناك كثيرا من الأحاديث تشير إلي ضرورة إجراء تغييرات جذرية في النظم القائمة في بعض الدول العربية والاسلامية بدعوي أنها قد نجحت فقط في تفريخ الإرهاب الذي وجد بيئته الطبيعية في الفساد السياسي والتخلف الاقتصادي إذ أن بعض هذه النظم لم يتمكن من توفير الحد الأدني من المعيشة لطبقاتها الفقيرة فضلا عن غيبة الديمقراطية أو ضعف ممارساتها ولا شك أنها مناسبة تاريخية وفرصة ذهبية للولايات المتحدة الأمريكية تضحي فيها ببعض الأنظمة وترفع دعمها عن بعضها الآخر وتتخلي عن مساندة البعض الثالث ولا شك أن من يروجون لهذه الرؤية ـ التي تتحمس لها إسرائيل كثيرا ـ إنما يتخلصون تلقائيا من ذلك الاتهام الذي يري أن المسئول الأساسي عن الارهاب وضرباته إنما هو سياسة ازدواج المعايير والكيل بمكيالين والانحياز الأمريكي لإسرائيل والذي يتزايد برغم ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من انتهاكات واضحة وممارسات ظالمة.. إننا ننظر ـ يا قادة العرب ـ إلي قمتكم لكي تكون نقطة تحول حقيقية في الفكر العربي وتعبيرا أمنيا عن صحوة جديدة تضعنا علي الطريق الصحيح ونحن ننظر في هذا السياق ومن هذا المنطلق إلي مبادرة ولي عهد المملكة العربية السعودية ـ والتي تستمد قيمتها من صدورها عن المملكة العربية السعودية أكثر دول المنطقة ثباتا في السياسة ومحافظة في المواقف ـ برغم أن مضمونها لا يتجاوز الإعلان عن التطبيع العربي الكامل مع إسرائيل في مقابل التزامها الكامل أيضا بالانسحاب الي حدود الخامس من يونيو عام1967 بما في ذلك القدس العربية وهو مضمون لا يختلف كثيرا عن صيغة مدريد القائمة علي مبدأ الأرض في مقابل السلام وهو المبدأ الذي تجسد عمليا في بنود اتفاقية السلام المصرية/ الاسرائيلية عام1979.
أصحاب الفخامة والجلالة والسمو..
إن اللغة الجديدة التي يتحدثها عرب اليوم تقوم علي خطاب مختلف تتشكل مكوناته من واقعنا والتطورات التي تجري حولنا دعونا نفكر في بعض الأطروحات التي يمكن ان يستقبلها الآخر باهتمام ـ بغض النظر عن قبوله أو رفضه لها ـ ومن نماذجها
أ ـ رسالة إعلامية إلي الناخب الأمريكي الذي يسهم بالضرائب التي يدفعها في دعم اسرائيل وترسانة أسلحتها وتعويض اقتصادها بحيث توضح مثل هذه الرسالة النتائج السلبية علي السياسة الأمريكية وتأثيرها الضار بمصالحها في الشرق الأوسط طلبا لرضاء دولة واحدة فيه.
ب ـ تذكير الولايات المتحدة الأمريكية بأنها لجأت الي العرب كلما تعرضت مصالحها للخطر في الشرق الأوسط ولقد حدث ذلك مرتين في غضون عشر سنوات تقريبا مرة في حرب الخليج الثانية والأخري في الحملة ضد الإرهاب فالعرب حلفاء تقليديون للولايات المتحدة الأمريكية بغض النظر عن الاختلاف في وجهات النظر كما أن الدول العربية قد أدانت. بغير استثناء ـ حادث11 سبتمبر الإرهابي.
ج ـ إن العرب يقبلون بترتيبات أمنية متكافئة تضمن استقلال وسلامة كل دول الشرق الأوسط بما فيها إسرائيل في حالة تطبيقها الكامل لقرارات الشرعية الدولية وقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس مع تخليها عن ترسانتها النووية وهذا الطرح لا يختلف كثيرا عن مضمون مبادرة ولي عهد السعودية ولا يتعارض معها.
د ـ إن مخاطبة الشعب الاسرائيلي إعلاميا أصبح هو كارت الضغط المقبول علي حكومته والتي تمارس نموذج إرهاب الدولة وتسعي حاليا للقضاء علي الوجود الفلسطيني برمته ـ قيادة ومؤسسات وسلطة وطنية ـ وهو القادر علي التخلص منها بعد أن فشلت في تحقيق الأمن ولم تعمل من أجل السلام ايضا كما نعلن في الوقت ذاته للشعب الاسرائيلي أننا ندين قتل المدنيين في أي مكان ـ عربا أو يهودا ـ لا سيما بعد أن وظفت إسرائيل إعلامها للخلط بين المقاومة الشرعية للاحتلال وبين الارهاب بصورته المخيفة خصوصا بعد11 سبتمبر.2001
هـ ـ أن التعايش المشترك والتعاون الاقليمي أمران مقبولان من الجانب العربي عند تحقيق السلام الشامل والعادل لأن الحضارة العربية الإسلامية احتوت تاريخيا عديدا من الأقليات الدينية والعرقية بلا تفرقة ونحن نذكر العالم بأن إسرائيل في صيف عام2000 كانت تتمتع بعلاقات تجارية مع سبع دول عربية أربع منها تبادلت معها المكاتب دون تمثيل دبلوماسي والثلاث الأخري أقامت معها علاقات دبلوماسية كاملة ووقع اثنان منها اتفاقيتي سلام مع اسرائيل الي جانب حزمة من الاتفاقيات مع السلطة الفلسطينية ولكن إسرائيل التي دأبت دائما علي المطالبة بالقبول الطوعي لها من جانب جيرانها هي التي تراجعت تماما عن ذلك ونكصت علي عقبيها وفضلت سياسة القهر والعدوان علي منطق التعايش السلمي والتعاون الاقليمي.
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو...
ليس هذا وقت الخلافات العربية ولا زمن الميول الاستعراضية ولا مناسبة التنافسات القطرية لأن أمامكم مسئوليات جساما في ظرف قومي حرج وأمتكم تأمل منكم وحدة الفكر ووضوح الرؤية وحكمة العرب.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2002/3/12/WRIT1.HTM