عندما كتب الطيب صالح رائعته (موسم الهجرة إلى الشمال) استقبلها القراء والنقاد بحفاوة بالغة، وها نحن اليوم نعيد صياغة العنوان ولكن بشكل عكسى فالعلاقات المصرية الإفريقية خضعت فى العقود الأخيرة لموجات صعود وهبوط وفترات انخفاض وابتعاد حتى قيل فى مرحلة معينة إن العلاقات المصرية الإفريقية تبدو موسمية مثل الأمطار التى تنهمر على هضبة الحبشة طوال العام، وواقع الأمر إن علاقات مصر بقارتها الأم تحتاج إلى مراجعة تسمح لنا بفهم طبيعة تلك العلاقة، وبالتالى الخروج بتوصيات من أجل دعمها وتنميتها وإعطائها أولوية على غيرها، وسوف نطرح تطور تلك العلاقة فى المحاور التالية:
أولًا: كانت العلاقات المصرية الإفريقية فى العصر الملكى هى امتداد لسياسات أسرة محمد على تجاه القارة خصوصًا من منابع النيل حيث امتدت الإمبراطورية المصرية جنوبًا وشملت ـــ بالإضافة إلى منابع النيل ــ الساحل الشرقى للبحر الأحمر بما فيها الممالك الصغيرة مثل (سواكن) و(زيلع) بالاضافة إلى الأقاليم الرئيسية للسودان مثل (دارفور) و(كردفان)، وامتدت امبراطورية محمد على لتشمل بعض الأقاليم المجاورة حتى إن ملك أوغندا طالب بعد ذلك بضم مملكته لتكون تحت ولاية وحماية محمد على وجيشه، ولاشك أن روح النظرة الاستعمارية قد سيطرت على السياسات المصرية فى تلك الحقبة ثم بدأت تتبلور بتأكيد الندية بين مصر والسودان ليصبح فاروق الأول هو ملك مصر والسودان ودارفور وكردفان! ولقد دق البريطانيون إسفينًا فى العلاقات المصرية السودانية لا تزال بعض آثاره مترسبة حتى اليوم.
ثانيًا: بعد يوليو 1952 اتجهت الأنظار فى قلق نحو وحدة وادى النيل فقد سقط التاج المشترك وزال العرش الواحد، وأتذكر من زيارة لى لمدينة (ملكال) السودانية منذ عدة سنوات أننى وجدت أن مسجدها الكبير يحمل اسم الملك فاروق الذى أمر ببنائه وذلك يعنى أن الملك كان يحتوى الأقاليم المصرية والسودانية ربما بنفس الدرجة، حيث انصهر الشعبان فى بوتقة واحدة حتى إن (المهدى الكبير) كان ينتوى كما قال هو ذلك ـــ مقايضة (جوردون) قبل اغتياله بعودة (عرابي) من منفاه وذلك تأكيدًا للروح المصرية السودانية التى كانت سائدة، ولكننى أظن أن الصراع على السلطة فى السنوات الأولى من خمسينيات القرن الماضى قد أقلق السودانيين بما فى ذلك غلاة الوحدويين مثل (إسماعيل الأزهري) رئيس الحزب الاتحادى لينصرفوا عن مطلب الوحدة ويتجهوا نحو الاستقلال الذى جرى إعلانه فى أول يناير 1956 وباركته الأحزاب السودانية بما فى ذلك الحزب الاتحادى ذاته، وربما كان تعاطف السودانيين مع (محمد نجيب) واحدًا من أسباب الابتعاد عن القاهرة، وتأرجحت العلاقات بين مصر والسودان فى عهود (عبد الله خليل) و(إبراهيم عبود) حتى استقرت فى عهد (جعفر نميري) الذى أعاد جسور التواصل تحت شعار التكامل الاقتصادى بين البلدين، وكلما ظهرت مشكلة الحدود بين مصر والسودان حول مثلث (شلاتين وحلايب) اتجه الطرفان إلى إخراجه من معادلة العلاقة الأخوية الوثيقة بين القطرين حتى لا يؤثر على التحسن الذى يبدو من فترة إلى أخرى حتى قيل إن علاقات القاهرة والخرطوم هى إما حبايب أو حلايب!
ثالثًا: لخصت العلاقات المصرية السودانية عبر عقود طويلة المدخل الرئيس للقاهرة نحو قارتها الإفريقية دون إغفال لأهمية إثيوبيا المصدر الأكبر لحصة مصر من مياه النهر، فضلًا عن أوغندا المصدر المكمل لتلك الحصة، ولقد خضعت العلاقات المصرية الإثيوبية لحساسيات مبهمة رغم أن عبد الناصر كان قد نجح فى ترويض الامبراطور (هيلا سيلاسي) الذى وضع معه حجر أساس الكاتدرائية المرقسية بحضور البابا الراحل (كيرلس السادس) كما أن الحكومات المصرية المتعاقبة سعت دائمًا إلى فتح صفحات جديدة مع أديس أبابا إلى أن جاء موضوع سد النهضة ليلقى بظلال عابرة على العلاقات بين الدولتين العريقتين فى إفريقيا، ومازال الأمر مطروحًا حيث تتمسك مصر بحقوقها فى مياه النهر ولا تنكر على الشقيقة إثيوبيا حقها فى التنمية، وإن كانت الصحوة المصرية تجاه إفريقيا بعد أحداث يونيو ويوليو 2013 قد ساعدت على تأكيد ارتباط مصر بالقارة الإفريقية، وفى الذاكرة دائمًا إسهامات مصر عبد الناصر فى التحرير والتنوير لقارتنا الأم وجهود رجال من أمثال (محمد فايق) و(بطرس غالي) فضلًا عن (محمد غانم) الذى كان رئيسًا لمجلس إدارة شركة النصر للتصدير والاستيراد وهو الذى فتح أبوابًا كثيرة لمصر فى عدد من دول القارة.
إن الحديث عن الاتجاه جنوبًا هو حديث ذو شجون لأننا لم ندرك فى بعض المراحل التغيرات التى طرأت على المنطقة والتحولات التى شهدتها القارة حتى غابت عن ذاكرتنا أحيانًا أهمية الدائرة الإفريقية كما حددها عبد الناصر فى فلسفة الثورة وأكدها السيسى بزياراته المتعددة للدول الإفريقية فى السنوات الأخيرة، إننا أمام المجال الحيوى الحقيقى للدولة المصرية خصوصًا أن منافسة الدور المصرى واردة من دولة جنوب إفريقيا بحجمها الاقتصادى وتقدمها التكنولوجى ومن نيجيريا بضخامة عدد سكانها فضلًا عن العلاقات المتأرجحة مع دول شمال إفريقيا العربية خصوصًا المغرب والجزائر وتونس، ولاشك أن هناك من يسعى لمحو الصفحة المشرقة للدور المصرى فى القارة، ولعل آخرها تغيير اسم شارع جمال عبد الناصر فى (نواكشوط) التى أقام فيها الرئيس المصرى الراحل مركزًا ثقافيًا ضخمًا غداة حصول موريتانيا على الاستقلال فى ظل رئيسها الأول (مختار ولد داده) .. لقد تغيرت الظروف وتبدلت الأحوال، ولكن يبقى انتماء مصر الإفريقى هو مفتاح الهوية وهو مقدمة التعامل مع دول العالم الأخرى بما فى ذلك الدول الكبرى التى تزاحمت على القارة البكر فى السنوات الأخيرة.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/698887.aspx