احتفل المسلمون بعيد الفطر المبارك احتفالا يختلف عن سنوات سابقة وأعوام مضت, حيث يمر العالم بفترة تتميز بدرجة عالية من التوتر وقدر كبير من الغموض, فقد تركت أحداث11 سبتمبر2001 حالة من الاحتقان في العلاقات الدولية المعاصرة لانكاد نعرف لها مثيلا من قبل, بل انني لاأريد أن أجازف بالقول إن الخريطة السياسية الدولية ذاتها تبدو غير واضحة المعالم أو محددة الأطر, فقد تذاخلت الأمور وتاهت الرؤي واختلط الحابل بالنابل كما يقولون, اذ إن مبدأ مقاومة الارهاب ومواجهة نتائجه أمر لايختلف عليه أحد ولكن الفهم الفضفاض له هو الذي أدي الي ظهور محاولات واضحة لخلط الأوراق وتفجير المواقف واعادة ترتيب الأوضاع, وفقا لمصالح محددة سلفا وسياسات يجري الترتيب لها منذ زمن بعيد, والذي يعنينا من كل ذلك هو أن نقرر أن تداعيات11 سبتمبر سوف تمارس آثارها علي المجتمع الدولي لعقود قادمة الي الحد الذي ادعي معه ان ماكان ممكنا قبل ذلك الحادث الارهابي الذي تعرضت له الولايات المتحدة الأمريكية لم يعد ممكنا بعده وأن العكس صحيح أيضا فما لم يكن ممكنا قبله أصبح يجد له مبررا الآن, فلقد اختلفت المعايير واختلت التوازنات وأصبحنا أمام تركيبة جديدة تحتاج الي فهم مختلف في ظل التوظيف المحموم لنتائج11 سبتمبر, واذا كان لنا أن نستعرض أهم التحولات التي طرأت فاننا نوجز ذلك في ثلاثة محاور رئيسية:
الحملة ضد الارهاب
عندما فرغت الولايات المتحدة الأمريكية من العمليات العسكرية الأساسية في أفغانستان تاركة لصراع القوميات وصدام القبائل استكمال الباقي فاننا قد تصورنا أنها سوف تراجع بنود الأجندة السياسية التي احتوتها مهمة الحرية الدائمة وكنا نأمل أن يكون ماحدث في أفغانستان هو رد الفعل المباشر والوحيد للعمل الارهابي ضد نيويورك وواشنطن ولكن يبدو لنا الآن أن بنود الأجندة الأمريكية متكاملة وأنها غير قابلة للتجزئة أو الحذف أو الاختصار فقد تطوع رئيس وزراء أثيوبيا بدعوة القوات الأمريكية لضرب ماقيل عنه أنه فرع لتنظيم القاعدة في الصومال, كما أن جماعة أبو سياف فيالفلبين تنتظر التوقيت وثوار كشمير قد يأتي عليهم الدور ومتمردو الشيشان يمكن أن ينالهم من الحملة جانب فضلا عن العراق الذي أصبح ضربه روتينيا أمريكيا في مناسبات مختلفة ولكن الخوف هذه المرة أن تأخذ العمليات العسكرية ضد العراق شكلا جديدا يسمح بتدخلات لقوي مجاورة أبرزها احتمالات الوجود التركي في المناطق الكردية في شمال العراق ليقع المحظور الذي كنا نتخوف منه دائما وهو النيل من وحدة العراق الاقليمية والعبث بخريطته السياسية, لذلك فاننا نشعر بأن كثيرا من التصرفات الدولية القادمة سوف تجد تبريرها تحت مظلة مقاومة الارهاب برغم أية تجاوزات محتملة أو مواقف مصطنعة, واذا كنا لانختلف حول مخاطر الارهاب وتهديده للأمن والاستقرار في كل مكان الا أننا لانري أن الارهاب أمر محدد الملامح واضح الهوية حتي الآن, بل اننا نشعر بأن المسألة تزداد ضبابية كلما اتسعت دائرة الاشتباه وأدرجت القوي الكبري في العالم دولا جديدة في قائمة الارهاب الدولي حيث اختلطت المعايير وضاعت الضوابط ولم يعد متاحا ذلك القدر من الشفافية المطلوبة التي تحول دون ازدواج المعايير وتداخل المؤشرات ويجب أن نعترف بأن محاولة الحوار مع الولايات المتحدة الأمريكية لن تكون مجدية في هذه الظروف حيث يفكر الأمريكيون بمشاعرهم في وقت مازالت فيه الولايات المتحدة تلوك جراحها التي خدشت كبرياءها ونالت من مكانتها بشكل غير مسبوق فأصبحت كالأسد الجريح الذي يحتاج لسنوات قبل أن يشعر بالتئام جراحه واستعادة هيبته, ولايقف الأمر عند حدود الولايات المتحدة فان بعض حلفائها من مجموعة المنتفعين بنتائج11 سبتمبر يمارسون ضغوطهم من أجل توظيف نتائج الحملة لصالحهم وتبدو اسرائيل في المقدمة من كل ذلك.
الاسلام المفتري عليه
انني لاأتحدث هنا عن الاسلام الرسالة.. ولا الاسلام العقيدة.. بل ولا الاسلام الفقه والشريعة.. فتلك كلها لها مكانتها التي لايطاولها الجدل ولكننا نتحدث فقط عن الاسلام ذلك البناء الحضاري والتراث الثقافي والاسهام الانساني, ونري أنه يتعرض لحملة ضارية تقف وراءها دوائر مشبوهة تحاول استدراج الاسلام الي معركة عنصرية لاتتفق مع روح العصر ولاتتسق مع التقاليد الحضارية له وهي تقاليد قامت علي الأخذ والعطاء وعرفت باتساع الأفق ورحابة الفكر, وذلك أمر يدركه من درس صحيح الاسلام, ولايختلف حوله معظم الساسة والمفكرين وقادة الرأي في المجتمعات الغربية ولكن شاء حظ الاسلام أن تختلط مبادئه العظيمة ببعض الممارسات السيئة للمسلمين والفارق بين الاسلام والمسلمين لايحتاج الي ملاحظة ولكن هناك من يطوعون المقدمات لخدمة نتائج محددة سلفا مع استدعاء تحكمي لفترات تاريخية تجسد فقط مراحل المواجهة بين الحضارة العربية الاسلامية والحضارة الغربية المسيحية, ولقد أسعدني كثيرا أن استمع الي وزير الدفاع البريطاني في زيارته الأخيرة للقاهرة, وهو يقول ان دراسته لأوروبا الوسطي قد أثبتت له أن الاسلام هو الذي صدر التسامح لغيره في وقت كانت فيه أوروبا تعاني الانقسام الديني والصراع الطائفي والتعصب بين المذاهب المسيحية. ولقد سبقت هذه الشهادة البريطانية شهادة بريطانية أخري شهيرة تضمنتها محاضرة ولي العهد الأمير تشارلز في جامعة أكسفورد عام1993, بل ان هناك اشارات ايجابية أمريكية في هذا السياق منذ مشاركة الرئيس الأمريكيدوايت ايزنهاور في افتتاح المركز الاسلامي في واشنطن عند نهاية الخمسينات مرورا بكلمة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في تجمع للمسلمين الأمريكيين وصولا الي حديث الرئيس الحالي جورج بوش علي مائدة الافطار الرمضاني الذي دعا اليه أخيرا سفراء الدول الاسلامية في واشنطن فضلا عن اشارات كثيرة لمستشرقين عادلي النظرة ومؤرخين ثقاة وسياسيين موضوعيين أشادوا جميعا بالحضارة الاسلامية التي شارك في بنائها العرب وغيرهم من القوميات عندما انضوي الموالي تحت لواء الاسلام من فرس وفينيقيين وفراعنة بحيث أصبح البناء الحضاري العربي الاسلامي هو نتاج شراكة متصلة بين المسلمين والمسيحيين واليهود في تاريخ الخلافة الاسلامية منذ ظهورها الأول حتي الامبراطورية العثمانية لحظة سقوط آخر خلفائها.
إسرائيل وخلط الأوراق
ان من أخطر تداعيات الحادي عشر من سبتمبر هو ذلك التداخل الذي جري بين العمل الارهابي الاجرامي في جانب والمقاومة الوطنية المشروعة ضد الاحتلال في جانب آخر, واسرائيل من جانبها لم تضيع وقتا في تكريس ذلك التداخل بل والوصول به الي مرحلة خلط الأوراق, فالحكومة الاسرائيلية عبرت بعد ساعات قليلة من وقوع حادث نيويورك وواشنطن عن أن ماحدث هو امتداد للعمليات الانتحارية الفلسطينية ويجب أن نعترف في شجاعة مع الذات وصدق مع النفس بأن قطاعا كبيرا من الرأي العام العالمي عموما والأمريكي خصوصا قد قبل التشبيه الاسرائيلي في غمار الرفض الشديد للارهاب بكل وره وأشكاله وادانة جرائمه وممارساته حتي كادت تضيع الحقيقة في الزحام, بحيث نجد أنفسنا أمام حقائق مقلوبة وتفسيرات مغلوطة, ومن هنا فانني أتطرق الي مسألة جوهرية وهي تتصل بذلك الشعور الذي ينتاب كثيرا من السياسيين والمفكرين العرب, ومؤداه أن الأعمال الاستشهادية البطولية في الأرض الفلسطينية المحتلة يجري حاليا استقبالها سلبيا في مختلف أنحاء العالم, كما أنها بدأت تعطي مردودا سياسيا عكسيا وردود فعل إعلامية لاتميز بين العمل الارهابي والمقاومة الوطنية خصوصا اذا كان أسلوب العمليات في الحالتين واحدا برغم اختلاف الأهداف وتباين الغايات, لقد كان المقصود من العمليات الاستشهادية الفلسطينية هو شد أنظار العالم الي شعب ينتحر فوق أرضه المحتلة ويقاوم في بسالة جبروت القهر العسكري الاسرائيلي وجرائم شارون التي تضيف الي سجله التاريخي صفحات جديدة ملوثة بالدماء الفلسطينية والعربية علي امتداد العقود الخمسة الأخيرة, ولكننا يجب أن نعترف بأنه برغم كل هذه الاعتبارات فإن الرسالة الفلسطينية الاستشهادية قد بدأت تضل طريقها الصحيح وتتحول الي مبرر اسرائيلي لمزيد من سحق الأبرياء والتضييق علي السلطة الفلسطينية وضرب مقر قيادتها ووضع قائدها التاريخي الشرعي ياسر عرفات في وضع لا يحسد عليه, إن ذلك يذكرني بممارسات سابقة للجبهة الشعبية الفلسطينية في السبعينيات من القرن الماضي عندما اعتمدت تلك الجبهة ـ بدافع وطني غالبا ـ أسلوب خطف الطائرات وسيلة لتنبيه الرأي العام العالي الي استمرار اسرائيل في احتلال الأراضي العربية, ومازلنا نتذكر أن المردود كان سلبيا وتحول وقتها الي عبء علي القضية أكثر منه دعما لها, وأنا هنا لاأقول جديدا اذ أنحركات المقاومة الشعبية في دول العالم المختلفة قد راجعت أساليبها في مناسبات كثيرة وعندما اكتشفت
النتائج العكسية لأحد الأساليب عدلت عنه وأدركت سوء استخدام الطرف الآخر له, ولعلي أسوق هنا مثالا قريبا عندما كان شارون في الولايات المتحدة الأمريكية وحدث انفجار القدس فصرح رئيس وزراء اسرائيل مخاطبا الرأي العام الأمريكي والدولي بأن ماحدث هو عمل ارهابي لايختلف عن حادث الحادي عشر من سبتمبر, ويؤسفني أن أقرر أن ماذكره شارون قد لقي استجابة لدي قطاعات عريضة من الرأي العام العالمي, وقبولا من دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية وعدد كبير من دول العالم الأخري خصوصا في أوروبا وآسيا الي الحد الذي اعتبرت فيه واشنطن العمليات العسكرية الاسرائيلية ضد المواطنين الفلسطينيين نوعا من الدفاع عن النفس! وهو أمر يدعونا الي القيام بعملية مراجعة أمينة للساحة الفلسطينية واجراء فرز بين مايفيد القضية ومايضرها خصوصا أن الظروف الدولية بعد11 سبتمبر هي ظروف ملتهبة قابلة للاشتعال في أي وقت وفي أي مكان, فالولايات المتحدة الأمريكية تفكر بمشاعرها وتتصرف وفقا للمركب النفسي الذي صنعه حادثنيويورك وواشنطن, بل انني أضيف الي ذلك أن أطرافا كثيرة وفي مقدمتها اسرائيل تحاول توظيف نتائج ذلك العمل الارهابي الضخم من أجل القيام بعملية تشويه للمقاومة الفلسطينية ودمغها بالارهاب ووضع عدد من فصائلها في قائمة الاتهام التي يرددها الادعاء الأمريكي عند محاكمة الارهاب الدولي المعاصر.
ان هذا وقت الصحوة القومية واعمال العقل العربي وليس وقت الانفعالات المرسلة والمشاعر المطلقة, اننا نحتاج الي حسابات دقيقة لأن الظروف معقدة والفارق بين أمر وآخر يبدو كالخيط الرفيع, كما أن شهوة العنف تجتاح العالم, فالاسلام يتعرض لحملة ضارية تستدعي وقفة ذكية وحاسمة من المؤسسة الدينية كما أنها أيصا تستوجب دعوة المسيحيين العرب ـ شركاء الحضارة وأشقاء التاريخ الواحد ـ لكي نوضح معا الصورة السمحاء لذلك الدين الحنيف الذي يجري تشويهه بشكل غير مسبوق, كما أن القضية الفلسطينية علي الجانب الآخر تتعرض لمحاولة تصفية تسعي اسرائيل خلالها الي فرض منطق القوة علي الشعب الفلسطيني وسحق مقاومته الباسلة وانتفاضته المشروعة التي يجب أن تأخذ صورا متجددة من العصيان المدني والتظاهر الشعبي في مواجهة دبابات اسرائيل وطائراتها ولو لفترة محدودة تصل فيها رسالة أخري الي العالم تقول إن الشعب الفلسطيني هو الضحية الذي يقتل اطفاله ويغتال قادته علي أن تتضمن الرسالة الإعلامية الجديدة استنكارا عربيا ورفضا فلسطينيا لسقوط الأبرياء من أي قومية أو ديانة أو جنسية, فهذه هي اللغة التي يجب أن نتحدث بها وذلك هو الخطاب الجديد الذي يجب أن نلح عليه, فالأجواء عاصفة والسماء ملبدة بالغيوم, ويبدو أن الأيام الصعبة لم تبدأ بعد.. ألم أقل منذ البداية مخاطبا تلك المناسبة الاسلامية الغالية بأي حال عدت ياعيد؟
|