دعاني منذ أيام قليلة الصحفي اللامع وصاحب البرنامج التليفزيوني الشهير عماد الدين أديب إلي المشاركة في حوار مفتوح علي الهواء مباشرة حول مستقبل النزاع العربي الإسرائيلي في ضوء ماحدث في الولايات المتحدة الأمريكية في الحادي عشر من سبتمبر2001, وكان ضيوف البرنامج علي الطرف الآخر بمداخلات منفصلة هم شيمون بيريز وزير خارجية إسرائيل و دنيس روس المبعوث الأمريكي السابق إلي الشرق الأوسط والدكتور صائب عريقات كبير المفاوضين الفلسطينيين, ولقد دار الحوار بيننا لأكثر من ساعة ونصف ساعة تركز جزء منه حول أحداث الثلاثاء الدامي في نيويورك و واشنطن بينما تركز الجزء الأكبر علي الوضع الراهن في الأرض المحتلة بعد اعلان وقف إطلاق النار من الجانبين, تمهيدا للقاءات رفيعة المستوي بين عرفات والمسئولين الإسرائيليين.
ولقد احتدم النقاش لأننا نمثل أطرافا أربعة هي مصروإسرائيلوالولايات المتحدة الأمريكيةو فلسطين ولقد لفت نظري أن المبعوث الأمريكي السابق لإدارة كلينتون كان شديد التحامل علي الفلسطينيين ربما أكثر من وزير خارجية إسرائيل ذاته, ولكن دعني الآن اضع أمام القاريء صورة للخطوط العريضة لذلك الحوار المهم في توقيت شديد الحساسية بالغ التعقيد, فقد تحدث السيد شيمون بيريز إلي مقدم البرنامج في البداية عن الإجراءات التي تمت لإيقاف إطلاق النار بين الإسرائيليين والفلسطينيين بينما كانت وجهة نظر صائب عريقات حول هذه النقطة مختلفة إلي حد كبير حيث كانت معلوماته توحي بغير ماذكره الوزير الإسرائيلي, وعندما وجهت إلي السيد بيريز ملاحظة حول خلو قوائم الاتهام الأمريكي للمشتبه في قيامهم بالهجوم الإرهابي الأخير الذي تعرضت له العاصمة الأمريكية ومعها أشهر مدينة دولية من أسماء الفلسطينيين ـ وذلك بغض النظر عن تقويمنا لمصداقية دائرة الاشتباه المتعجلة التي حددتها السلطات الأمريكية بعد ساعات من وقوع الحادث الأخير ـ وكيف أن ذلك يمثل دلالة واضحة علي أن الفلسطيني يقاوم الاحتلال علي أرضه ولكنه لا يمارس الإرهاب في أي مكان, فكان رد وزير خارجية إسرائيل
أنه يعلم أن الفلسطينيين لم يشاركوا في ذلك العمل الإرهابي, ولكنه يري علي الجانب الآخر ـ وهذه وجهة نظر حكام إسرائيل ـ أن حزب الله والجهاد الإسلامي وحماس وغيرها من المنظمات الفلسطينية تقوم بأعمال إرهابية ضد إسرائيل, وكأنما يضعها بذلك في الدائرة نفسها مع المنظمات الإرهابية الدولية, وهو قول يمثل عدوانا صارخا علي الحقيقة, ويسلب من النضال الفلسطيني والعرب غطاء المشروعية, ومظلة القانون الدولي الذي يؤكد حق الشعوب في مقاومة الاحتلال بجميع الصور والأشكال, يقول السيد بيريز ذلك في الوقت الذي أعلنت فيه إسرائيل صراحة وأكثر من مرة أن مجلس وزرائها المصغر قد اجتمع ليتخذ قرارا باغتيال واحد من القيادات الفلسطينية في نموذج صارخ لإرهارب الدولة الذي لانكاد نجد له نظيرا في السوابق الدولية المعاصرة, وعندما عرضت تصوري حول إمكان أن يتحول رد الفعل الغاضب في الولايات المتحدة الأمريكية وفي كثير من مناطق العالم بعد جريمة الإرهاب علي برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك ومبني البنتاجون في واشنطن إلي قوة دفع إيجابية لعملية السلام يشارك فيها الإسرائيليون والفلسطينيون معا ويباركها العرب واليهود وتدفعها الولايات المتحدة الأمريكية وترعاها خروجا من المأزق الدولي الراهن, وتحسينا للصورة العامة للمجتمع الدولي في هذه الظروف البائسة, لم يعترض وزير خارجية إسرائيل علي ذلك الطرح ولكنه ركز مرة ثانية علي أهمية مكافحة الإرهاب في المنطقة, وكأن النضال الفلسطيني جزء منه!
وعندما جاء دور السيد دينس روس في مداخلته معنا والتي أدارها باقتدار صاحب البرنامج علي الهواء مباشرة بدا لي المبعوث الأمريكي السابق, كما لو كان إسرائيليا متطرفا وكأنه ملكي أكثر من الملك ذاته في ولائه لأشد الأفكار الإسرائيلية تطرفا, فلقد أجريت في بداية حديثي معه مقارنة بين الإدارتين الأمريكيتين السابقة والحالية وسياساتهما حيال الشرق الأوسط وأوضحت أن إدارة كلينتون قد فتحت الملف كاملا طوال مدة وجودها, وأن الرئيس الأمريكي السابق قد زار المنطقة أكثر من سبع مرات ـ وإن كانت اثنتان منهما للمشاركة في جنازتي إسحاق رابين والملك حسين ـ كما أنه هو الرئيس الأمريكي الذي تحدث أمام برلمان السلطة الفلسطينية وذرف الدموع مواسيا للأطفال الفلسطينيين الذين يرزح آباؤهم تحت وطأة السجون الإسرائيلية منذ سنوات طويلة, وقد قلت للسيد روس إن مجرد شعور الأطراف في الشرق الأوسط بأن الرأي الأمريكي يعطي للمنطقة اهتماما يوميا ويحاول دفع عملية السلام ـ برغم انحيازه لإسرائيل ـ كانت في حد ذاتها عملية امتصاص متجددة للتوتر ومبررا لدي الأطراف للإحساس بالأمل في تسوية قادمة, أما غيبة الإدارة الأمريكية الحالية عن الشرق الأوسط وسلبيتها في التعامل مع الأحداث في الأرض المحتلة منذ وصول الرئيس دبليو بوش إلي السلطة فإن ذلك كان ولايزال مدعاة للإحباط الذي يؤدي إلي مزيد من العنف الناجم عن سياسة إسرائيل القهرية ضد الشعب الفلسطيني, وكان رد السيد دينس روس علي ملاحظتي هو أنه لايمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تعطي الاهتمام دون أن تري الأمل بين الأطراف بحيث يدعوها ذلك إلي المشاركة الفاعلة والألقاء بثقلها في نزاع الشرق الأوسط ـ وهذه في ظني فكرة مغلوطة, فالاهتمام هو الذي يصنع الأمل الذي يدفع نحو التسوية السلمية, ولكن أخطر ماقاله السيد روس علي نحو يثيرالاستياء ويدعو إلي الامتعاض هو ما كرره في أثناء حديثه من أن العمليات الانتحارية الفلسطينية تمثل عملا إرهابيا من نفس فصيلة ماجري في الحادي عشر من سبتمبر2001 علي أرض الولايات المتحدة الأمريكية, وهذه في ظني مقولة خطيرة تنطوي علي مغالطة واضحة, فالكفاح الوطني المسلح لا يستوي مع العمل الارهابي العشوائي الذي لايخدم قضية ولا يستند إلي مشروعية, ولاشك أن السيد روس كان متسقا في هذه الملاحظة الظالمة مع تاريخه المعروف بالانحياز لإسرائيل رغم أنه كان يجب أن يكون مبعوثا محايدا لأكبر دولة في العالم إلي أكثر الصراعات الدولية التهابا وأشدها تعقيدا, وعندما جاءت مداخلة الدكتور صائب عريقات بدأ يشرح الممارسات الإسرائيلية الحالية ومواصلتها للانتهاكات المستمرة فوق الأرض المحتلة وضد الشعب الفلسطيني, وكان أهم ما قاله الدكتور عريقات هو تلك الملاحظة الذكية التي أوضح فيها أن إسرائيل مستبعدة تلقائيا من التحالفين الكبيرين اللذين قادتهما الولايات المتحدة الأمريكية, مرة سابقة ضدالعراق وهذه المرة ضد الإرهاب وهذا يعني أن إسرائيل هي ذلك الطفل المدلل الذي لايقدم الدور المساند للسياسة الأمريكية, ولكن الذي يتولي ذلك هو دول عربية وإسلامية, ولقد جاء الوقت لكي يدرك يدرك الأمريكيون أن إسرائيل ليست ركيزة وجودهم في المنطقة أو سندهم الحقيقي فيها, ولقد أعجبتني الملاحظة ووجدت فيها مادة سياسية وإعلامية يخاطب بها العرب العقل الأمريكي في السلطة, والضمير الأمريكي في الرأي العام, ويمكن أن تكون هي الأخري ملاحظة إيجابية في سياق خطاب عربي جديد يعتمد علي عناصر غير تقليدية ليس فيها الطرح المكرر لعناصر الموقف العربي ولكنها تقوم علي بدائل جديدة تستند إلي المنطق الدولي, وتقترب من عقل الآخر, وتداعب مصالحه وتخرق دعمه المطلق لإسرائيل عبر عشرات السنين,
ولعلي أذكرهنا أيضا تلك المداخلات القيمة لصاحب البرنامج علي قناة الأوربت إذ إن السيد عماد الدين أديب قد وجه لشيمون بيريز أكثر من سؤال محكم أو ملاحظة لافتة فعندما سأل السيد بيريز عما أشيع عن تأجيل زيارة شارون للولايات المتحدة قبل الحادث بيومين, نفي السيد بيريز ذلك لأنه أدرك, إن تلك الملاحظة تنطوي علي إشارة غير مباشرة لما تردد حول دور إسرائيل في الحادث الإرهابي الأخير ـ وإن كان ذلك قياسا علي السوابق, وليس انطلاقا من أدلة واضحة ـ ولعلي هنا أسوق عددا من الانطباعات والملاحظات حول ذلك الحوار الذي جمعني عبر الهواء لمن يمثلون إسرائيل والولايات المتحدة والفلسطينيين وفي هذه الظروف الساخنة المحملة بكل التوقعات القابلة لكل الاحتمالات:
أولا: إن إسرائيل ـ ومعها من يناصرونها ـ تسعي إلي الخلط المتعمد بين المقاومة الفلسطينية العادلة والأعمال الإرهابية الأخيرة, وتلك دائما هي إسرائيل ومن يقفون وراءها عندما يحاولون تشوية نضال الشعب الفلسطيني وصرف الأنظار عن الجريمة الحقيقية التي تمارسها إسرائيل ضده منذ سنوات طويلة, وهذه المحاولة الخبيثة تستلزم منا درجة عالية من الوعي فضلاعن جهد إعلامي ذكي يقدم الحقائق الواضحة والأسانيد المؤكدة, ويدفع بالحجج الجديدة التي تخرج عن الخطاب الإعلامي العربي التقليدي الذي يبدو دائما خارج دائرة حوار العصر.
ثانيا: إن الولايات المتحدة الأمريكية تبدو أحيانا أكثر تطرفا في دعمها لبعض المواقف الإسرائيلية من الساسة الإسرائيليين أنفسهم, ولقد آن الأوان لسياسة الكيل بمكيالين وازدواج المعايير أن تتوقف, وأن تتخذ الولايات المتحدة من صدمة الحادث الإرهابي الأخير نقطة انطلاق إيجابي تعيد بها النظر في بنود كثيرة من سياساتها الخارجية, وتبحث عن الأسباب الحقيقية لتدني شعبيتها في بعض مناطق العالم المعاصر.
ثالثا: إنه يتعين علينا أن ندرك أن الوقت ليس هو الوقت الأنسب لتكثيف الانتقادات ضد الولايات المتحدة الأمريكية التي تبدو كالأسد الجريح الذي اعتدي عليه في غفلة قرد خبيث واختفي بسرعة في الظلام, وأصبح من الضروري علي ملك الغابة أن يسترد كبرياءه وأن يستعيد هيبته قبل أن يتقبل أي انتقادات لسلوكه السابق ومواقفه المختلفة, ونحن نحتاج في هذه الظروف إلي خطاب إعلامي متوازن, ولا أظن أن هناك من عبر عن ذلك أفضل من رئيس مصر الذي جعل موقف بلاده شديد العدالة والحكمة, فنحن ندين الإرهاب ولكننا لانؤمن بالضرب العشوائي, ونحن عانينا جرائمه لذلك نريد أن نجتث أسباب وجوده, ونصل إلي جذوره بدلا من المعالجات السطحية للظاهرة والتي لاتقضي عليه, ولكن قد تزيده قوة وشعبية, كما أننا نحترم الرأي العام العربي والإسلامي ونرفض تصوير المواجهة بمنطق صليبي كما ورد في زلة لسان الرئيس الأمريكي منذ أيام, فنحن نؤمن بأن الإرهاب لا دين له, كما أنه لايعتمد علي قومية بذاتها أو دولة محددة.
رابعا: إن التعاطف مع الشعب الأمريكي في هذه الظروف الصعبة أمر ضروري, لأن الشعوب لاتفكر بعقلها في أثناء المحن ولكن العواطف تتقدم والانفعالات تقرر, ونحن نتطلع إلي رد فعل أمريكي يحفظ وحدة العالم لا أن يقسمه ويدعم المسيرة ضد الإرهاب لا أن يزيدها ويوقف تيار التعصب الأعمي ويوجد نوعا من التضامن الإنساني في جبهة صلبة ضد الإرهاب وأوكاره.
خامسا: وهذا اجتهاد أسوقه يتمثل في ضرورة التفكير العربي الجاد لإيجاد صيغة مقبولة لدي الولايات المتحدة الأمريكية في هذه الظروف الصعبة تتم بها مقايضة عادلة بين دعم عربي لواشنطن في حربها ضد الإرهاب بحيث يكون المقابل الفوري هو موقفا امريكيا معتدلا يتسم بحد أدني من العدالة في الطرح العربي الإسرائيلي وهذه ليست مهمة سهلة أو محاولة يسيرة, ولكنها تحتاج إلي رؤية واضحة وجهد دبلوماسي كبير, فنحن نريد أن يتحول رد الفعل السلبي في المنطقة بعد الحادث الإرهابي الذي تعرضت له الولايات المتحدة الأمريكية أخيرا الي قوة دفع إيجابية نحو التسوية السلمية, فالصدمة تكون احيانا نقطة تحول توقظ الضمائر وتعيد الوعي وتفتح ابواب الأمل.
إنني أزعم أن الإنسانية في مفترق الطرق وأن ماحدث في الحادي عشر من سبتمبر2001 هو علامة فاصلة في تاريخ العلاقات الدولية المعاصرة, فإما أن تكون بداية لانقسام ضخم يفتح ابواب الصراعات بغير حدود ويعيد ملفات العصور الوسطي بمنطق المواجهات الدينية والحروب الصليبية أو أن يتغلب العقل وتسود الحكمة وتتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من المحافظة علي وحدة الجنس البشري وتضامن شعوبه, ولا شك أن الرواية لم تتم فصولا, وأن الأيام المقبلة تحمل في ثناياها من المخاطر والتحديات مثلما تحمل من الآمال والتطلعات, ويبقي الإنسان في النهاية هو سيد مصيره وصاحب قراره وصانع مستقبله.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2001/9/25/WRIT1.HTM