تردد كثيرا عبر العقود الخمسة الماضية أن الصراع العربيـ الإسرائيلي الذي استنزف جزءا كبيرا من مقومات تجديد البنية الأساسية المصرية وحال دون بلوغها مرحلة الرفاهية المنشودة أو مستوي المعيشة المطلوب, كان يمكن أن يكون بعيدا عن مصر التي أقحمت نفسها طرفا في القضية الفلسطينية ودفعت في سبيل ذلك أغلي التضحيات من أبنائها وأموالها, ولكن سياق أحداث الشهور الأخيرة قد أصبح يستدعي إعادة النظر في هذه المقولة علي إطلاقها إذ إن واقع الأمر ـ حالياـ أن الحكومة الإسرائيلية ـعلي الرغم من اتفاقية السلام المستقرة مع مصرـ لم تتوقف عن استفزاز الدولة المصرية والعبث بمشاعر شعبها والتطاول علي رموزها بدءا من الأهرامات التي بناها الأجداد وصولا إلي السد العالي بكل ما يحمله من إشارة تاريخية يعتز بها المصريون في كل الظروف.
وأبادر من بداية المقال لكي أقرر أنني ممن يؤمنون بأن مصر دولة مسئولة تحمل من العراقة أغلي ما فيها, ومن الحداثة أنسب ما لها, لذلك فإن العلاقة الوثيقة بين الشعب المصري وفلسفة التعايش المشترك بين الأمم والتعاون الإقليمي بين الشعوب والانسجام البشري بين الجماعات الإنسانية ليست كلها أمورا جديدة علي الإطلاق, فالمصري لا يحمل بطبيعته حقدا يستمر, أو غلا يدوم, ولكنه يتصرف دائما بمنطق مستمد من عمق الحضارة الإنسانية وماضيها الطويل, لذلك فإن مصر التي كانت قائدة في الحروب هي التي أصبحت رائدة في السلام الذي لا يدرك معناه إلا من عرف ويلات القتال ومعاناة المواجهة الدامية. إن الإشارات السلبية في تصريحات المسئولين الإسرائيليين تعبر عن حجم اللاوعي لديهم وتوضح بجلاء أنهم لا يدركون عبقرية مصر التي تستمد الاستقرار من وادي النهر ودلتاه وتدرك معني الاستمرار من تدفق النيل في مجراه, فالشعب المصري بطبيعته ودود صبور لا يبدأ بالعدوان ولكنه أيضا لا يستسلم للهوان. إن التاريخ المصري قد احتضن اليهود مثلما احتضن غيرهم من أصحاب الديانات والثقافات, لذلك فإنه يستحيل اتهامه بمعاداة السامية التي ينتمي إليها بحكم عروبته, كما أنه
شعب طيب يعشق الحياة ويكره الدمار, يحب الاسترخاء الآمن ولا يقبل الغدر الخاطف, لذلك فإن بعض المواقف الإسرائيلية وتصريحات عدد من قادتها تمثل فهما خاطئا لطبيعة مصر وتعبر عن إدراك سطحي لشخصيتها الموروثة, إنني أريد أن أطرح قضية واضحة في هذا المقال فحواها أن الأمن القومي المصري مستهدف بشكل مباشر لأن من مصلحة الطرف الآخر أن يقلل من فعالية من يقدرون علي اتخاذ القرارات المصيرية ونماذج ذلك معروفة في ذاكرة الشرق الأوسط علي امتداد النصف الثاني من القرن الماضي, لذلك فإنني أسجل هنا ملاحظات مبدئية يجب أن تستقر في الوجدان الوطني من أهمها ما يلي:
أولا: أن الحدود الشرقية المصرية هي حدود التواصل العسكري في التاريخ الاستراتيجي لمصر منذ العصر الفرعوني, منها جاءت الغزوات ومنها أيضا خرج الجيش المصري ليواجه أعداءه قبل وصولهم إليه فكانت منطقة الشام ـخصوصا جنوبهـ هي نقطة المواجهة التي تحسم فيها المعارك وتتحدد بها النتائج, فمن الشرق جاء الهكسوس ووفد الفرس والمغول والصليبيون حتي كانت الهجمة الأخيرة منذ قيام الدولة العبرية عام1948.
ثانيا: أن الذين يتصورون وهما أن بمقدور مصر أن تغلق حدودها وأن تعيش بمعزل عن غيرها إنما يتصورون عصرا مضي وزمانا لا وجود له لأن الحياة المعاصرة تقوم علي التفاعل والتواصل وتتحدد فيها موجات المد والجزر عبر الحدود السياسية أحيانا وفي بورصة العلاقات الدولية أحيانا أخري. فمصر لا تستطيع بهذا المنطق أن تتحول إلي جزيرة منعزلة تغلق حدودها حين تريد وتفتحها متي تشاء.
ثالثا: أن الدور المركزي المحوري للكنانة قد ألقي عليها تبعات تاريخية لا مناص منها ومسئوليات قومية لا خروج عنها فقضية الدور الإقليمي تستلزم تحمل حجم كبير من التضحيات وقبول قدر ضخم من المسئوليات.
رابعا: أن مصر التراث والحضارة كانت ولاتزال وسوف تظل مركز جذب لا يقاوم ونقطة عبور لا تتوقف, فهي همزة الوصل بين إفريقيا وآسيا وبين البحرين الأبيض والأحمر, ثم إنها رابضة علي البوابة الشمالية الشرقية لإفريقيا ولكنها ذات هوي آسيوي لا تستطيع إنكاره, لذلك كان تلاحمها مع دول الجوار حربا أو سلما أمرا يسجله تاريخها وتحفظه وثائقه.
خامسا: لست أتصور بأي حال من الأحوال أن الجغرافيا التي حددت مكان مصر أو التاريخ الذي حدد مكانة الكنانة يمكن أن يقبل لهذا الكيان الحيوي الفاعل أن يتحول إلي كم سلبي بدلا من أن يكون قوة إقليمية مسموعة الكلمة مرهوبة الجانب.
.. كانت هذه ملاحظات مبدئية أقرب إلي الإطار النظري في التفكير منها إلي المعالجة الفعلية للأحداث, ونحن إذ نناقش في هذا المقال مسألة العلاقة بين الأمن القومي المصري والصراع العربيـ الإسرائيلي فإننا نتوجه بالضرورة لارتياد عدد من المدارس الفكرية التي شكلت باختلافها التوجهات المصرية الرئيسية تجاه تطورات الصراع العربيـ الإسرائيلي خصوصا علي امتداد الشهور الثلاثة الأخيرة نوجزها في اتجاهات ثلاثة:
(1) اتجاه غالب يري أن ما تفعله إسرائيل في الأرض المحتلة هو نموذج حي للأسلوب الجديد القائم علي سياسة الذراع الطويلة التي تصل إلي الفلسطينيين لتغتال النشطاء وتقوم بعملية إعدام مدبرة للقيادات حتي استنفرت إسرائيل كل القوي العربية والفلسطينية رغم الاختلافات بينها لكي يقف الجميع أمام وضع غير مسبوق يوجد ظرفا تاريخيا خطيرا يكاد يعود بالمنطقة كلها إلي المربع الأول, من هنا فإن التيار المصري العام يشعر بقلق بالغ ولا يري أن الأحداث الجارية في الأرض المحتلة بعيدة عنه بل يعتقد أن الأمن القومي المصري يواجه اختبارا لم يكن متوقعا علي امتداد السنوات الأخيرة, ولكن ذلك التيار المصري العام يتمسك في الوقت نفسه باتفاقية السلام مع إسرائيل ويري أن الاحترام المتبادل والفهم العميق لروحها يجب أن يكونا بمثابة صمام الأمان في هذه الظروف المتفجرة, ويطالب دعاة هذا الاتجاه المصري المسيطر بضرورة مواصلة أقصي الجهود من أجل الخروج من دائرة العنف الذي أعاد المنطقة كلها إلي أجواء التوتر بكل ما تحمله من احتمالات لا يستطيع أحد أن يضع تصورا لنتائجها.
(2) الاتجاه الثاني يركز علي انعكاس ما يجري في الأرض الفلسطينية المحتلة ـأو حتي داخل إسرئيل1948 ـ علي الأوضاع الاقتصادية في المنطقة وما أدت إليه المواجهات بين المقاومة الفلسطينية في جانب والبطش الإسرائيلي في جانب آخر من تدهور في الهياكل القائمة للإنتاج فضلا عن الأضرار التي تصيب الدخل القومي خصوصا من السياحة إذ إن السائح الأجنبي ينظر إلي الشرق الأوسط نظرة واحدة لا يفرق فيها بين بؤر العنف وغيرها, ومازلنا نذكر أن السياحة المصرية قد تأثرت أيام حرب الخليج الثانية رغم أن الفارق يصل إلي ثلاث ساعات طيران بين مصر ومسرح العمليات العسكرية في ذلك الوقت ولكنها رؤية السائح الذي يبتعد دائما عن أي احتمالات توحي له بأن مقصده السياحي يقع في إطار منطقة غير مستقرة, وفي هذه المناسبة فإنني ألفت النظر إلي أن إسرائيل حاليا لا تمارس ما تقوم به وهي في وضع أفضل من غيرها, فالاقتصاد الإسرائيلي رغم عمليات الضخ الخارجي لدعمه يواجه حاليا خسائر يومية متراكمة, كما أن السياحة إلي إسرائيل قد دخلت هي الأخري في خبر كان, ويري أصحاب هذا التيار المصري ومعظمهم من رجال الأعمال بالإضافة إلي بعض المثقفين أن الوضع المتفاقم علي حدودنا يجب ألا يكون مدعاة للتورط سياسيا فضلا عن التورط عسكريا بل يطالبون بنظرة شديدة التعقل لا تسمح أبدا بدخولنا طرفا في الصراع الدائر, ولاشك في أن تلك الرؤية المحايدة لتطورات الصراعهي رؤية قاصرة تتصور ـ وهما ـ أن هناك خطا فاصلا بين المواجهات اليومية التي أوجدتها ظروف النزاعفوق الأرض المحتلة وبين الأمن القومي المصري بمقوماته وأبعاده وعناصره.
(3) ويأتي بين الاثنين اتجاه ثالث يري أن مصر مستهدفة سياسيا ونفسيا في هذه الظروف الحساسة وأن أي موقف متعجل لا يدرك حجم المسئولية قد يؤدي إلي تعقيدات لا تريدها مصر ولا يستفيد منها العرب, فالمحافظة علي ركائز السلام في المنطقة هي الهدف الرئيسي لكل ما نسعي من أجله ونناضل في سبيله, وحصار إسرائيل بالسلام وملاحقتها دوليا وإقليميا بالدعوة إليه هو أسلوب أفضل في هذه الظروف القابلة للانفجار الشامل في أي لحظة, وعلي الرغم من أنني أستبعد قيام عمليات عسكرية شاملة بين إسرائيل وجيرانها إلا أنني أري أيضا أن شارون يتطلع إلي إلغاء التركيبة القائمة بتصفية كل مظاهر الوجود الذي أخلفته اتفاقيات أوسلو بدءا من السلطة الفلسطينية ورموزها البشرية والمكانية من عرفات إلي بيت الشرق وهو يتطلع أيضا إلي قهر الإرادة الفلسطينية حتي يصبح سقف مطالبها في أدني مستوياته مع التلويح المستمر بشراسة العسكرية الإسرائيلية من أجل تخويف المنطقة وجعلها مهيأة لقبول أي عرض إسرائيلي للفلسطينيين أو للدول العربية التي احتلت أراضيها في حرب عام1967, ولاشك في أن تلك كلها هي أوهام القوة الزائفة التي يعتمد عليها الجناح اليميني الديني المتشدد في الدولة العبرية التي ثبت دائما خطؤها لأن إسرائيل لن تعيش في المنطقة إلا بالتفاهم المشترك مع العرب والقبول الطوعي من جانب جيرانها.
فإذا كانت تلك هي الاتجاهات الثلاثة الرئيسية التي يمكن رصدها علي الساحة المصرية في الشهور الأخيرة, فإنني أقرر أن سياسة ضبط النفس والتحكم في التصريحات ووضع الأمور في نصابها والحذر من الخروج بالمواقف المختلفة عن سياقها التاريخي أو إطارها الطبيعي أقول إن تلك السياسة في مجملها لازمة لبلد مستهدف دائما مثل مصر, والذين لا يدركون ذلك إنما يفكرون بالمنطق المطلق ولا يتفهمون أهمية المنطق النسبي فالهدف الذي نسعي إليه حاليا هو أن تخرج المنطقة من وضعها الحالي وأن تهدأ الأوضاع بتوقف إسرائيل عن ممارساتها العدوانية وانتهاكاتها المستمرة للفلسطينيين شعبا وأرضا وسلطة حتي تكون هناك فرصة لإعلاء صوت العقل لأول مرة في منطقة عرفت الحروب ومرت بالصراعات وجاء الوقت لكي يسودها السلام الحقيقي, ولعلي أوضح فكري الآن لكي أقول إن محاولة الفصل بين معطيات الصراع العربيـ الإسرائيلي ومقومات الأمن القومي المصري هي محاولة وهمية تبدو نظرية أكثر منها عملية, وهنا يجب أن نعترف بأن التضحيات المصرية من أجل القضية الفلسطينية علي جميع الأصعدة والاتجاهات لم تكن من أجل أصحاب القضية وحدهم ولكنها كانت مواقف لازمة للدفاع عن الأمن القومي المصري نفسه والوصول إلي ضمان أقصي درجات الأمان والاستقرار لشعب يقترب عدد سكانه حاليا من خمسة وستين مليونا من البشر, ويجب أن يدرك الجميع أن الحرب خيار غير إنساني وحين تكون مفروضة علي شعب معين فإنه يستطيع أن يتصور بداياتها ولكن لا أحد يستطيع أن يحدد نهاياتها. فالشرق الأوسط الذي كان دائما بؤرة للصراع ومركزا للمواجهة لا يستطيع أن يظل في حالة حرب أو شبه حرب بغير انقطاع, فالشعوب تريد السلام والأطفال والشباب من الأجيال الجديدة يتطلعون إلي حياة آمنة مستقرة للجميع, ولن يتحقق ذلك أبدا ما لم تدرك إسرائيل أن ما تفعله الآن يحمل من المخاطر أكثر بكثير مما تتصوره بل يكفي أن يكون واضحا لها أن تصرفاتها تنسف مفهوم التعايش المشترك وتعود بنا إلي الوراء في ظروف لا تحتمل ذلك وأوضاع تختلف تماما عما كانت عليه في الماضي.
إنني أريد أن أقول ـعربياـ إن تفكيرا غير تقليدي يجب أن يسيطر علي السياسة والإعلام القوميين, وقد جاء الوقت لكي نفكر جميعا في خطاب سياسي مختلف وأسلوب إعلامي جديد ويجب استخدام جميع الكروت العربية وتوظيف كل الموارد القومية من أجل المرحلة الحالية بدءا من دور مطلوب لبعض دول الجوار الشرق أوسطية, وأشير تحديدا إلي تركيا بتاريخها الطويل مع العرب وحاضرها وثيق الصلة بإسرائيل وصولا إلي ضرورة القيام بخطوة شجاعة علي صعيد المصالحة العربية بحيث يتغير المناخ السياسي في المنطقة أمام إسرائيل بل والولايات المتحدة الأمريكية علي نحو يقنعهما بأن الظاهرة الصوتية أو الصمتية علي الصعيد العربي لن تستمر طويلا مرورا باستخدام معطيات الواقع العربي الراهن بما فيها كارت تخفيف الحصار العربي علي العراق حتي يدرك الجميع أن التصعيد لن يكون دائما من جانب واحد وأنه لا يوجد سقف لحدود المواجهة, وأن البديل الوحيد هو تهدئة الأوضاع بعد توقف إسرائيل عن ممارسة سياستها العدوانية وعودة الأطراف إلي مائدة المفاوضات التي توقفت منذ قرابة عام كامل, وأضيف هنا عاملا لايجب إغفاله علي الإطلاق هو أن حجم البسالة الفلسطينية والتضحيات غير المسبوقة لذلك الشعب المقهور وقوافل الاستشهاد التي تخرج من صفوفه والشهداء الذين يسقطون علي أرضه قد جعلت إسرائيل أمام خيار صعب لابد أن يلزمها بإعادة التفكير في النهج الاستفزازي الذي تواصله. أما إذا أردنا أن نفكر ـمصرياـ فإنني لا أري فارقا ضخما بين المستويين في التفكير, فمصر جزء من أمتها العربية تبدو مستهدفة أكثر من غيرها ولكنها مطالبة بأن تكون أشد حذرا وأكثر حكمة لأن أي موقف يبدو منه خروج عن النص, بالتعبير المسرحي الشائع, سوف تكون نتائجه بغير حدود وآثاره ممتدة علي شخصية الصراع العربيـ الإسرائيلي كلها وهي التي شاركت فيها مصر دائما بالنصيب الأكبر حربا أو سلما, ويجب ألا يغيب عن الأذهان أن الأحداث الدامية في الأرض المحتلة لا تبدو أبدا مواجهة بعيدة بين بعض الجيران ولكنها تمثل رسالة مباشرة لكل الأطراف في المنطقة وفي مقدمتها من تقع عليهم مسئولية حماية الأمن القومي المصري رغم أننا دعاة استقرار وطلاب حق وحماة سلام.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2001/9/11/WRIT1.HTM