قبل أن يمضي يوليو من كل عام يتذكر العرب عموما والمصريون خصوصا ذلك الحدث الذي نقترب من نصف قرن علي وقوعه في23 يوليو1952, وعلي الرغم من أن نبش الماضي لايفيد أحيانا الا أن استقراء التاريخ الحديث يفيد دائما, ولست ممن يؤمنون بأن تكريم عبد الناصر كبطل قومي بارز لابد أن يكون علي حساب السادات كرجل دولة من طراز فريد, انني أظن عن يقين أنعبد الناصر كان زعامة استثنائية تأثرت بها المنطقة العربية علي نحو غير مسبوق, ومهما تكن حسابات الكسب والخسارة في النهاية, الا أنه يظل علامة فاصلة في التاريخ العربي الحديث, وقد التقيعبد الناصر في مشروعه القومي معمحمد علي الكبير في مشروعه التوسعي فضلا عن محاولة كل منهما تحييد دور الدين ورجاله في الحياة السياسية,
وقد التقي السادات علي الجانب الآخر مع محمد علي الكبير أيضا في فهمهما المشترك للمتغيرات الدولية والاقليمية مع قدرتهما علي اختراق الحسابات العلوية للقوي الكبري كما تعتبرحركة التصحيح التي قام بها السادات حتي يستتب له الأمر وتستقر له السلطة نسخة عصرية ـ بغير دماء أو ضحايا ـ منمذبحة القلعة التي أطاح فيهامحمد علي الكبير بخصومه من المماليك حتي انفرد بالحكم وتمكن من أن يكون حاكما مركزيا واحدا لمصر وغيرها من الأمصار التي أضافتها فتوحاته في شرق أفريقيا وحول منابع النيل والجزيرة العربية والشام وسواحل جنوب المتوسط وجزره حتي دكت سنابك خيله هضبة الأناضول ذاتها في اشارة تاريخية لاستقلال مصر عن السلطنة العثمانية, لذلك فانني أدعي أن زعامات مصر سلسلة متصلة حاولت كل حلقة منها أن تقدم جديدا بقدر ماأتاحت لها الظروف, كما أنني أزعم أيضا أن العصر الملكي لم يكن فترة مظلمة في تاريخنا كما يتم تصويرها دائما, فأنا أري فيها من الايجابيات مايصل الي قمتها عند كبير الأسرة العلوية الذي يرجع اليه الفضل في قيام الدولة المصرية الحديثة منذ قرنين من الزمان, وأسوق اليوم تجربة ذاتية ترتبط بنهج يوليو الثورة,
وهي تجربة شخصية مباشرة جرت أحداثها في منتصف الستينيات, ففي يوم من أيام فبراير1966 وكان قد بقي علي تخرجي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة ثلاثة أشهر وردت اشارة الي الكلية تطلب حضوري فورا الي مبني الاتحاد الاشتراكي لأن نائب رئيس الجمهورية وأمين عام التنظيم السياسي ـ الواحد وقتذاك علي صبري يريد أن يستقبلني فورا في مكتبه علي كورنيش نيل القاهرة, فتوجهت اليه ـ علي غير سابق معرفة شخصية ـ حيث مكثت معه أكثر من ساعة كاملة تحدث فيها المسئول الكبير بهدوء وثقة زائدين الي شاب في مقتبل العمر ومستهل الحياة باعتباره رئيسا لاتحاد طلاب احدي الكليات ولم يكن الشاب قد تجاوز الحادية والعشرين من عمره بأشهر قليلة, وتحدث علي صبري يومها طويلا عنالاشتراكية العربية وضرورة وجود كوادر قادرة علي النهوض بالتجربة الثورية وحمايتها علي حد تعبيره, ثم انتقل الي الانقلاب العسكري ضد الرئيسنكروما في جمهورية غانا والذي كان حدثا مدويا وقتها ودور القوي المعادية لحركة التحرر الوطني من زعاماته وقادته, وأذكر أنه أشار يومها الي عائلات من جيرانه لاتتحمس للقوانين الاشتراكية ومازلت أتذكر اسم عائلة فواز من صعيد مصر حيث أشار اليهم كنموذج قريب منه عائليا وبعيد عنه فكريا, وقد استمع إلي نائب الرئيس وأمين عام التنظيم السياسي الواحد بكل اهتمام وعناية وأنا أتحدث اليه عن سلبيات العمل السياسي ومشكلات منظمة الشباب التي كان يحاول بناءها بجدية وموضوعية الدكتور حسين كامل بهاء الدين ـ وزير التعليم حاليا ـ ومعه كوكبة متألقة من شباب مصر كانوا يؤمنون بما يفعلون, ولكنهم لايدركون الحسابات العلوية لمراكز القوي التي كانت تحاول استخدام نياتهم الحسنة ووطنيتهم الصادقة في صراع يبدو أن عبد الناصر كان مدركا له وربما راضيا عنه, وأعلمني نائب الرئيس في نهاية اللقاء أنه قد تقرر ضمي لعضوية طليعة الاشتراكيين التنظيم السري داخل الاتحاد الاشتراكي وطلب مني أن أحضر الاجتماعات التي تتم دعوتي لها في حينها, وأعترف بأنه كانت لدي في ذلك الوقت جرأة الشخص غير المسئول الذي لاتوجد لديه مخاوف وليس لديه مايخسره لذلك لايتخذ مواقفه وفقا لحسابات المصلحة الشخصية, انها تذكرني بما رواه لي الصديق محمد بن عيسي وزير خارجية المغرب حاليا عما يسميه شجاعة الجاهل الذي لايدري مايراد به ولامايريد, فهو يتصرف بتلقائية وعفوية قد يدفع ثمنها كما قد يجني ثمارها,
وقد عدت من ذلك اللقاء المثير الي صفوف زملائي في كليتي وأنا أشعر بمزيج من القلق والترقب, ومضيت في عملي من خلال رئاستي لاتحاد الطلاب وعضويتي للجنة المركزية لمنظمة الشباب بعد ذلك ثم مسئوليتي عن التثقيف السياسي لشباب القاهرة حتي جاء شهر ديسمبر من نفس العام حيث استدعيت للقاء عاجل في مقر الأمانة العامة للاتحاد الاشتراكي العربي, وتوهمت يومها أنني سوف أتلقي بعض عبارات التقدير علي مقالات متتالية اتسمت بموضوعية التحليل ووضوح الفكرة في صحيفة الشباب الاشتراكي التي كنت واحدا من أسرة تحريرها وكاتبا لمقال أسبوعي فيها يقرأه الشباب داخل مصر والمبعوثون منهم خارجها, ولكنني فوجئت يومها بأنني مقدم لمحاكمة تنظيمية أمام ثلاثة من أعضاء الأمانة العامة للاتحاد الاشتراكي العربي وهم السادة فتحي الديب ومحمد عبد الفتاح أبو الفضل أمين التنظيم والدكتور حسين كامل بهاء الدين وهو قيادتي المباشرة في ذلك الوقت والذي استهل التحقيق معي في هدوء لايخلو من روح التعاطف في محاولة لانتزاع الشعور بالضيق الذي أصابني نتيجة تلك المفاجأة التي لم أكن أنتظرها علي الاطلاق, فبادرني أمين الشباب قائلا بأنه يقدر امكاناتي الحركية في اطار الشباب العربي وأن السيد علي صبري يصفني بالوعي السياسي مما يؤكد أنني علي دراية كاملة بما أفعل, وأن التهمة الموجهة لي هي أنني قد عقدت اجتماعات مع أعداد من الطلاب العرب الوافدين في محاولة لاقامة تنظيم سياسي قومي يضم شبابا من مختلف الأقطار العربية, وأن مثل هذا العمل يعتبر خارجا عن اطار تكليفات طليعة الاشتراكيين ويستوجب المساءلة لذلك, وأعترف الآن أنني شعرت باحباط شديد لأن التهمة لم تكن صحيحة أو هي في أقل تقدير لم تكن دقيقة اذ أنني وبحكم نشاطي الطلابي واهتمامي السياسي كنت شابا متحمسا وله حضور فاعل في الأوساط الطلابية والشبابية ولم يكن لدي تصور محدد لتنظيم معين ولكن كانت لي ملاحظات علي بعض سلبيات تجربة العمل السياسي الأحادي في ذلك الوقت, بل انني أشهد أن أمين اللجنة المركزية للشباب حينذاك كان يستمع الي مانقول بكل موضوعية واهتمام, بل انني أعتقد أنه كان صاحب فكرة تدبير مقابلتي المنفردة ـ وأنا طالب في الجامعة ـ مع نائب رئيس الجمهورية في ذلك الوقت حتي يستمع المسئول الكبير مباشرة الي مايراه الشباب علي الجانب الآخر بكل صدق وتلقائية, وقد انتهي التحقيق معي يومها بقرارفصلي منالتنظيم الطليعي الذي لم أكن قد حضرت اجتماعا واحدا له
وكانت علاقتي الوحيدة به هي ذلك اللقاء الذي تم مععلي صبري بمكتبه في شتاء1966, ويبدو لي الآن أن الفصل والتعيين سمتان تاريخيتان تلازمتا مع مسيرة حياتي الوظيفية!!.. انه القدر الذي يحدد خريطة المستقبل حتي ولو كان التخطيط محكما والتفكير مسبقا.. انني أردت من سرد هذه التجربة أن أوضح أن الحقبة الناصرية كان فيها مالها كما كان فيها ماعليها, فبرغم ضخامة زعامة عبد الناصر الا أن الصراع السياسي المحتدم ومراكز القوي المتعددة كانت تمتص القدر الأكبر من رحيق الثورة وتجهض مسارها القومي, وكان الشباب ـ وقد كنت أحدهم ـ هم وقود ذلك الصراع والأداة التي يجري استخدامها لصالح مجموعة ضد الأخري علي حساب وطن دفع الثمن غاليا في الخامس من يونيو1967, يومها لف الحزن المدائن, وبدا الزعيم شاحب الوجه شارد الفكر, وأصابتنا مشاعر متباينة فيها من الحزن والألم مافيها من العناد والصبر, ومازلت أذكر دائما تلك الأيام الحالكة السواد من تاريخ مصر الحديث, والغريب أن أنور السادات كان في ذلك الوقت يراقب ويتأمل كمن يتربص داخل مزارع القصب السياسي في انتظار لحظة يخفيها القدر, وقد حانت تلك اللحظة يوما عندما رحل البطل القوميعبد الناصر كالأسد الجريح, وجاء رجل الدولةالسادات الي سدة الحكم بقدرات هائلة اكتسبها من سنوات طويلة في كواليس العمل السياسي ودهاليز النضال الوطني, فبينما كان البطل الذي رحل يجسد روح العرب, فان الزعيم الذي خلفه كان يعبر عن عقل مصر.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2001/7/31/WRIT1.HTM