شاءت ظروف عملي الدبلوماسي في العاصمة البريطانية مع مطلع السبعينيات أن يكون ملف الشئون الداخلية في المملكة المتحدة واحدا من اختصاصات عملي اليومي بالسفارة وهو الأمر الذي اقتضي ترددي علي مجلس العموم البريطاني لحضور بعض جلساته من شرفة زواره, وقد بهرتني الديمقراطية البريطانية وقتها وأدهشتني حدة المناقشات الحامية بين رئيس الوزراء المحافظ' ادوارد هيث' وعدد من أعضاء حكومة الظل العمالية وتصورت يومها أن الديمقراطية, الغربية هي نهاية المطاف تقاس بها الحريات وتنسب إليها باقي الديمقراطيات وعندما شاءت ظروف أخري بعد ذلك بثلاثين عاما أن أكون عضوا في مجلس الشعب المصري فإنني رفضت من البداية المقارنة بين المجلسين لأنها مقارنة ظالمة, ووطنت نفسي علي قبول الأمر الواقع فتلك هي النظرة العادلة.
ولقد أمضيت دور الانعقاد السابق في المجلس أتابع وأراقب, استمع واتأمل, حتي يكون عندي حصاد تجربة قصيرة ولكنها ثرية محدودة, ولكنها مهمة واستطيع أن اجمل تصوري في تقويم دور الانعقاد الأول من الفصل التشريعي الجديد من خلال عدد من الملاحظات أوجزها فيما يلي:
أولا: إن التجربة البرلمانية الأخيرة التي يمثلها مجلس الشعب الحالي هي كما نردد دائما نقلة نوعية في الحياة النيابية المصرية, إذ يرجع الفضل للقضاء المصري الشامخ الذي اشرف علي تلك الانتخابات البرلمانية فأعطاها مصداقية واكسبها احتراما, والفضل يرجع قبل الجميع الي ولي الأمر الذي احترم القانون وتمسك بما رأته المحكمة الدستورية العليا فوضع وساما علي صدر نظام الحكم.
ثانيا: ان النظام النيابي في مصر عريق يضرب بجذوره الي منتصف القرن التاسع عشر فعندما انعقد' مجلس شوري القوانين' عام1866 فإن ذلك كان إرهاصا مبكرا علي طريق الديمقراطية لم تعرف له دول المنطقة نظيرا, وظل البرلمان المصري منارا مضيئا بينما كانت الدنيا ظلاما حوله! ولسنا ننكر مع ذلك أن مسيرة الحياة النيابية المصرية تعرضت لانتكاسات متكررة وعمليات صعود وهبوط وفقا لطبيعة نظم الحكم ودرجة المشاركة السياسية, والذي يعنينا من هذه النقطة بالذات ضرورة أن ندرك أننا أصحاب تقاليد برلمانية عريقة وقيم دستورية راسخة منذ أن عرفنا' ديوان الشوري' حتي وصلنا إلي' مجلس الشعب'.
ثالثا: إن البرلمان باعتباره المؤسسة الديمقراطية الأم هو انعكاس حي للأوضاع القائمة والظروف المحيطة, فالديمقراطية ليست فقط هي ذلك البنيان المؤسسي ولكنها تحتاج أيضا إلي الإطار الفلسفي, فالعبرة في فهم روح الديمقراطية لدي نظام معين حيث تتحقق بتوافر عناصر المناخ السياسي أكثر منها مجرد مؤسسات قائمة تعبر عن الشكل ولكنها تفتقد الجوهر.
رابعا: ان عام1952 يمثل علامة فارقة في مسيرة الديمقراطية المصرية عندما استبدلت ثورة يوليو بالشرعية الدستورية شرعية ثورية تعتمد علي منطق الثورة وقد لا تستقيم بالضرورة مع نهج الدستور, ولسنا نتباكي الآن علي تلك الفترة ونتائجها لأننا ندرك أن شعوب المنطقة مرت بمراحل, موازية فواقع الأمور يؤكد أن' كاريزما عبد الناصر' مثلت لديه بديلا للاستفتاءات والانتخابات فالهوس بالزعيم والتعلق بالقائد يعمي الأبصار ويستهوي الأفئدة, خصوصا إذا كان الزعيم من طراز ذلك البطل القومي بحجمه في التاريخ وقيمته علي المسرح السياسي ولاشك, أن الفضل يرجع' للسادات' في محاولة بعث الحياة الديمقراطية بعد عقدين من الرقاد لكي تبدأ تجربة المنابر السياسية التي تحولت الي أحزاب رسمية أدي ظهورها الي انفراج في الحياة المصرية العامة, واتساع في مساحة المشاركة السياسية واثراء للديمقراطية.
خامسا: إن أية محاولة لدراسة التجربة البرلمانية في آخر صورها وهو مجلس الشعب الحالي, لابد أن تستوعب مفردات الحياة في مصر وطبيعة العمل السياسي فيها انطلاقا من مستوي التعليم ودرجة الثقافة وقبل ذلك كله مستوي انحسار الأمية ذاتها, وقد يقول قائل إن دولة مثل الهند تعاني اقتصاديا واجتماعيا أكثر مما نعاني نحن هنا في مصر ومع ذلك فقد تحققت لها واحدة من اعظم ديمقراطيات العصر, وسف تكون الاجابة علي الفور صادرة عن طبيعة الشخصية الهندية المختلفة عنا, والتي تتميز بدرجة عالية من الانضباط السياسي والانصياع الوطني.
فإذا كانت هذه ملاحظات عامة حول المسار الديمقراطي المصري فإنه يتعين علينا أن نخرج من هذا الإطار النظري الي الواقع التطبيقي الذي يرصد تجربة مجلس الشعب الأخير بدءا من العملية الانتخابية وصولا الي ختام الدورة البرلماينة لكي نكتشف الملامح الرئيسية لذلك المجلس من حيث الرؤية والأداء ويمكن أن نجمل ملاحظاتنا علي النحو التالي:
(1) إن تركيبة المجلس الحالي تضم نسبة لا بأس بها من الشباب وأواسط العمر إذ يقل عمر عدد كبير من أعضائه عن سن الخمسين, وهي تركيبة عمرية مطلوبة في البرلمان ولكنها ليست بالضرورة مؤشرا لاختيار افضل العناصر, بل ان الاصل في فلسفة العملية الانتخابية أنها اختبار للشعبية المسطحة وليست بالضرورة انتقاء للفكر الاعمق او الرؤية الابعد.
2) ان المجلس يضم- فضلا عن تنوع شرائحه العمرية- تنوعا من نوع آخر في التوجهات السياسية والمنطلقات العقائدية, وأبادر فاسجل صراحة ان المجلس كله يقع تحت المظلة الوطنية المصرية والايمان الكامل بقيادة مبارك وزعامته ولم أر علي امتداد دور الانعقاد كله ومن خلال مناقشاته الحامية وأحاديث اعضائه المتستفيضة استثناء واحدا لذلك فقد يختلف البعض مع سياسات الحكومة او ينتقد قرارا لوزير معين, وتلك ظواهر طبيعية للمعارضة والاغلبية معا, ولكن الذي اريد ان أؤكده هو أن كل هذه الخلافات تذوب دائما في بوتقة الانتماء للوطن والولاء للدستور.
(3) ان التيارات السياسية المختلفة داخل البرلمان قد مارست دورا تشريعيا ورقابيا يستحق التقدير باستثناء بعض التجاوزات التي عبرت عن الرغبة احيانا في تحويل القضايا العامة الي مسائل شخصية او الخروج بالامور الشخصية الي اطار عام.
(4) ان وجود عدد من رجال الاعمال داخل البرلمان ليس خطيئة او وضعا استثنائيا بل انني اشهد ان بعضهم قد مارس دوره بموضوعية واقتدار ولكن المقلق فقط هوما نلاحظه من ان وصول البعض منهم قد ارتبط بحجم الانفاق الضخم اثناء العملية الانتخابية وهو ما يجعل سطوة المال سيفا علي رقبة الديمقراطية في مصر.
(5) ان تصدي بعض النواب لبعض الممارسات الحكومية التي يختلفون معها او مظاهر الانحراف التي يتصورونها لم ترتبط بطهارة كاملة من جانبهم او نقاء صفحة سيرتهم الذاتية فبدا الامر مثيرا للدهشة اذ لا يقاوم الفساد من تطولهم شبهته ولن يتحدث عن المديونية للبنوك المصرية من اقترضوا منها وقديما قالت العرب ان فاقد الشئ لا يعطيه.
(6) ان اداء الحكومة- والوزير الذي يمثلها- اتسم بالصبر مع الرغبة في تجاوز المشكلات الي حد الاقلال من اهميتها احيانا مع الابتعاد دائما عن الوصول لنقطة الصدام كما ان نواب الاحزاب وممثلي التيار الاسلامي المعتدل قد تعاملوا بمسئولية وحكمة مع كثير من المواقف وفي معظم المناقشات وكان تقديرهم لمهمتهم واضحا وايمانهم بالقيادة الوطنية مشهودا.
(7) ان الذي بهرني من متابعتي لاعمال هذا المجلس هو ذلك الاداء الرفيع للمنصة, فرئيس المجلس فقيه قانوني لا تعوزه حكمة الاكاديمي ولا يفتقر الي حنكة السياسي, ثم هو قبل ذلك وبعده قادر علي ابداء رأيه دون ان يؤدي ذلك الي خصومة مع من يختلف معه او يفسد للود قضية في علاقته مع اعضاء المجلس من مختلف الاتجاهات الي جانب توازن ذكي في التعامل مع الاغلبية والمعارضة علي حد سواء.
هذه الملاحظات اردت ان اسجلها عن تجربة برلمانية جديدة تتسم بالحيوية الي حد الاثارة, وبالاسهاب الي درجة الاطالة, ولا عجب فهو برلمان يثير وجوده قضايا جديدة بدءا من مسألة ازدواج الجنسية مرورا باستجواب البورصة وقانون ضريبة المبيعات, وصولا الي الجدل المستفيض حول الاتفاقيات الدولية, انه ايضا البرلمان الذي ارتفعت فيه نغمة التساؤل حول جدوي ترشيح الوزراء لعضوية المجالس النيابية اذ ان العكس هو الاكثر منطقية وقبولا في معظم الانظمة البرلمانية المعاصرة حيث يكون اختيار الوزراء من بين اعضاء السلطة التشريعية في كثير من الاحيان وهو ايضا مجلس الشعب الذي اصبحت بعض لجانه في حاجة الي تدعيم حقيقي في العضوية والهياكل والقيادات, انه برلمان يعكس واقع الوطن في مرحلة يستهوي فيها النواب ذلك الصوت المرتفع وتلك النبرة العالية امام عدسات التليفزيون وهم يخاطبون دوائرهم الانتخابية عندما يشيرون الي المشكلات ويفتحون الملفات ويثيرون القضايا ولكن يبقي المهم في النهاية هو ما تصنعه تلك الممارسة النيابية من تقاليد سياسية, وما تقدمه من افكار موضوعية ورؤي مستقبلية, ان حصاد دور الانعقاد الاول ايجابي في مجمله, ولكنه لا يخلو ايضا من ميول استعراضية وثرثرة إنشائية إنها لوازم برلمانية.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2001/7/17/WRIT1.HTM