تواجه الدول أزمات في علاقاتها الخارجية كما تواجه النظم أزمات في شئونها الداخلية ويتحدد الفارق بين دولة وغيرها أو نظام وآخر في اسلوب إدارة الازمة وتوجيه مسارها والحد من اثارها السلبية عليها ولقد واجهت- مصر ربما أكثر من غيرها- ازمات عارضة ظهرت في اطار مشكلات مزمنة وكان أسلوب المواجهة يختلف من وقت لآخر ومن عصر لعصر لأنه يرتبط دائما بعناصر أساسية لكل دولة. ومكونات رئيسية لدي كل نظام سياسي ومصر بلد مستهدف لأنها تقع دائما في المواجهة بحكم ريادة دورها وثقل مكانتها ولمصر جاذبية خاصة للأزمات التي تأتي دائما بغير توقع أو تبدأ أحيانا من فراغ تأكيدا للحكمة العربية القديمة معظم النار من مستصغر الشرر. والأمثلة كثيرة نختار منها ما هو مرتبط بالماضي القريب.
فمنذ أيام قليلة عكرت سماء الوطن سحابة صيف مبكرة جاءت علي غير أوان لكي ندرك معها اننا مستهدفون وان التربص بوحدتنا الوطنية عبث تاريخي لا يتوقف. والذي يهمني هنا هو ان أدعي عن اقتناع بأن الدولة نجحت في تطويق تلك الازمة العابرة بحكمة ورصانة شديدين فرئيس الدولة يملك دائما القدرة علي وضع كل ازمة في حجمها الصحيح بغير تهويل أو تهوين وتلك صفة ارتبطت به واصبحت لصيقة بأسلوبه في ادارة الازمات ومواجهة المشكلات كذلك كان تحرك نقيب الصحفيين واعضاء مجلس النقابة تصرفا إيجابيا مسئولا أحبط مخططات الفتنة كما احبط محاولة كان يجري التدبير لها من أجل الوقيعة بين الكنيسة القبطية والصحافة المصرية ولكن حكمة الرئيس ووطنية البابا والمظهر المتحضر للشرطة المصرية الي جانب الموقف القوي الحاسم لنقيب الصحفيين ومعاونيه كونت في مجموعها سياجا يحمي الوحدة الوطنية ويعصف بمحاولات الفرقة ويدعو كل الاطراف لمراجعة ملف الازمة. ويهمني هنا ان أسرد الملاحظات الاتية:
أولا: مصر تتميز بتأثيرها الاعلامي الواسع الذي يتجاوز حدود الوطن لكي يصبح مادة للإثارة في الصحافة العربية الاقليمية بل ويتجاوز ذلك الي الصعيد العالمي بسبب الاهتمام بمصر والتركيز علي كل ما يجري فيها فقد تحدث كوارث سياسية وانحرافات اخلاقية في بلد صغير فلا يكاد يكترث بها أحد ولكن مظاهرة سلمية صغيرة في احد شوارع القاهرة تصبح بالضرورة خبرا يتصدر نشرات الاخبار في الاذاعات والفضائيات وغيرهما من مصادر الترويج للأخبار مع اضفاء كل مظاهر المبالغة عليها.
ثانيا: انه يجري دائما استثمار الازمة لصالح جماعة من الناس او استخدام قطاع معين من المجتمع المصري فيها ولكن روح الشعب المصري هي القادرة دائما- وقادرة وحدها- علي استيعاب المواقف وامتصاص الازمات وقهر كل المحاولات التي تحاول ضرب وحدته الوطنية وتماسكه الاجتماعي.
ثالثا: ان التعددية في شخصية مصر هي التي جعلت مشكلاتها متعددة وازماتها متنوعة ومسئولياتها كبيرة, فبقدر ما تكون أبعاد الشخصية تكون المداخل كثيرة حيث تتسرب منها عوامل الانقسام واسباب التوتر ومصر بلد تقوم هويته علي ركائز متعددة وتتسم شخصيته الحضارية بالتنوع فهي دولة عربية واسلامية وافريقية وبحر متوسطية وشرق اوسطية, يمثل سكانها تاريخيا مزيجا من كل هذه المصادر الجغرافية بغير استثناء وتوجد فيها أقلية قبطية من حيث العدد فقط ولكنها جزء لا يتجزأ من كيان الشعب المصري حيث الاصول واحدة والثقافة مشتركة والحياة متداخلة ويستحيل التفرقة بين مصري واخر الا بالرجوع الي افكار واسباب لا تتصل بشخصيته الحقيقية.
رابعا: ان الشعب المصري واحد من الشعوب المعروفة بالعاطفة الزائدة والانفعال الفوري امام الأحداث ذات الطابع الجماعي والمصريون مولعون بتداول الاخبار ونشر الاشاعات والمبالغة عند تصوير الاحداث احيانا وإبداء الرأي من خلال النكتة الفكاهية التي تمثل تعبيرا مكتوما يتواري مع اتساع مساحة الحريات العامة وامكانات التعبير المفتوح.
خامسا: ان قوي كثيرة- اقليمية ودولية- تنظر الي تماسك شعب الكنانة والوحدة الوطنية المصرية بكثير من الحسد المشوب بالقلق مع الرغبة الدائمة في اختراق جسد مصر وشن حملات اعلامية مكثفة ضده وتحريك تيارات مختلفة للنيل من مكانة مصر دوليا واقليميا. ولعل الدعم الاجنبي لقوي التطرف من كل الاتجاهات للعمل داخل مصر هو تعبير حي عن مخططات مستمرة ومحاولات مستميته لهز أكبر كيان في الشرق الاوسط إذ أنه من خلاله يمكن التحكم في المنطقة كلها. وقديما قال البريطانيون اذا عطست مصر أصيب الشرق الاوسط بالانفلونزا.
هذه الملاحظات مبدئية يجب ان تظل قابعة في خلفية العقل المصري ينطلق منها ويفكر علي اساسها ويستطيع بذلك الرصيد الواعي ان يواجه كل محاولات النيل من وحدته الوطنية أو المساس بسلامته الاقليمية.
واذا عدنا الي نموذج الازمة الاخيرة التي نجمت عن نشر صور فاضحة في صحيفة مصرية احتوت مساسا واستفزازا للسياج الاخلاقي الذي تتمتع به مصر علي نحو أزعج كل المصريين- المسلمين قبل الاقباط- بل انني أقدم شهادة امام الوطن وهي أنني سمعت عن القصة لأول مرة عندما رأيت مجموعة من اعضاء مجلس الشعب يجتمعون حول الصحيفة في اشمئزاز واضح وقلق ظاهر ويعبرون- وكانوا كلهم من الأعضاء المسلمين- عن استيائهم لهذا النشر وضرورة اتخاذ موقف عاجل وحاسم لمعاقبة الصحيفة ورئيس تحريرها واعتبار ذلك كله نتيجة لممارسات صحفية سلبية ظهرت في السنوات الاخيرة رغم محاولات نقابة الصحفيين وجموعهم مواجهتها والحد من آثارها, ثم سرت اخبار تلك الصفحات البذيئة سريان النار في الهشيم, ورغم سخافة ما حدث وخروجه عن الاخلاق والأعراف والاداب الا انني شعرت بشئ من الارتياح لرد الفعل العام عندما رأيت ان المصريين جميعا يقفون موقفا واحدا فيه درجة عالية من الازدراء والرغبة في التشدد عند محاسبة من تسببوا في هذه الازمة وضرورة وضع حد لمثل هذه الممارسات العبثية. وهنا يكون من واجبي ان أحدد مواقع كافة الاطراف من تلك الازمة العابرة والنجاح في تطويقها. وسوف أتحدث اولا عن قيادة مصر ثم اشير بعد ذلك الي موقف الكنيسة القبطية والصحافة المصرية ثم جهاز الشرطة.
أولا: موقف القيادة:
اتسمت معالجة الرئيس مبارك للأزمات الطارئة علي الساحة الوطنية والاقليمية علي امتداد العقدين الاخيرين بقدر غير مسبوق من الحكمة والاتزان والقدرة علي ابعاد روح الانفعال عن طبيعة القرار المطلوب, ولعل ازمة احداث الامن المركزي في منتصف الثمانينات باقية كوسام علي صدره لأن المقصود منها كان انفجارا يهز الوطن فإذا الاحتواء الرصين لها يمتص اثارها ويجهض نتائجها في ساعات قليلة. ولعل موقفه ايضا من أزمة النشر الصحفي الذي أساء الي مشاعر الاقباط والمصريين عموما هو تجسيد لنفس الرؤية والقدرة علي مواجهة الامور بحنكة وحصافة دون اعطائها أكبر مما يجب او اقل مما يستحق فالمعالجة الهادئة لمثل هذه الامور ذات الحساسية اثبتت دائما نجاحها وقدرتها علي وأد المشكلات وامتصاص الازمات لقد تصرف رئيس كل المصريين بحكمة بالغة وتابع بارتياح موقف نقيب الصحفيين ومعاونيه كما أوفد الرئيس من جانبه من استمع الي رأي البابا شنودة في الازمة ونقل اليه رؤية زعيم مصر تجاه ما جري وضرورة ان تقف الامور عند حد معين لأن مصر لا تسمح بالتجاوزات التي تصيب أي طرف من الأمة او تنال من تماسكها وبعدما هدأت العاصفة بأيام قليلة جاءت ترضية الرئيس للجميع في حديث صحفي يؤكد فيه وحدة الشعب المصري ويضع الامور في نصابها من خلال اطار مستقل ورؤية متزنة.
ثانيا: الكنيسة القبطية:
يحتل البابا شنودة في ظني مكانة خاصة بين باباوات الكنيسة المصرية عبر تاريخها كله, فهو تجاوز حدود الطائفة ليصبح شخصية عامة ذات قبول لدي المصريين- أقباطا ومسلمين- فضلا عن مواقفه القومية الرائعة التي حسمت وبشكل قاطع موقف الاقباط من القضايا العربية التي كانوا متهمين بالبعد عنها والرغبة في عدم الانخراط فيها, وسوف يسجل له التاريخ العربي موقفه من عروبة القدس ودعمه الدائم لنضال الشعب الفلسطيني الباسل لهذه الاسباب مجتمعة فإن رؤيته السياسية التي اكتسبها عبر تاريخه الحافل- وقد كان ضابطا وصحفيا وشاعرا- تعطيه الرصيد الذي يسمح له باتخاذ المواقف العاقلة والخروج الي الناس في أحاديث رصينة واستطيع ان ازعم- وربما اختلف معي بعض الاراء- أن وجود البابا شنودة الثالث في العقدين الاخيرين كان له اسهامه في تحويل الشأن القبطي الي قضية مصرية عامة بحيث اخذت حجمها الطبيعي ونالت حظها من الاهتمام العادل كما اتجهت معظم عناصرها الي الحل الوطني برغم صيحات حمقاء في الخارج واصوات نكراء تبدو بعيدة عن واقع الوطن مدفوعة بضباب الغربة وأوهام المسافة الزمنية والمكانية وعواطف الحنين الي الاهل واشهد انني رأيت من بابا الكنيسة المصرية تعقلا وصبرا برغم مسحة حزن كانت بادية عليه واحساس بالضيق مما حدث لم يحجب التعبير عنه.
ولكن ما دمت أتناول موقف الكنيسة القبطية من الازمة الاخيرة فإنني اضيف الي ذلك ملاحظة يجب ان يتسع صدر رموزها لقبولها وهي أن قضية هذا الراهب المشلوح لفساد اخلاقه وسوء سلوكه كان يجب ان تكون أمرا معلنا يعرفه كل الاقباط ويصدر به بيان من المقر البابوي يصل الي أسماع الجميع مسلمين وأقباطا لأن ذلك لو كان قد حدث لأعفانا جميعا من تبعات هذه الازمة منذ بداياتها.
بقيت كلمة عتاب أوجهها الي جموع الاقباط الذين تجمهروا داخل المقر البابوي وخارجه في انفعال لا انتقدهم فيه ولكن في تجاوز أربأبهم عنه فالازمة في اطارها المحدد هي أزمة نشر غير مسئول لصحيفة لم يراع القائمون عليها حرمة الوطن وقداسة ديانته ولكنها ليست ابدا أزمة بأي حال بين المسلمين والاقباط او بين الكنيسة والدولة.
ثالثا: الصحافة المصرية:
لقد وقف نقيب الصحفيين المصريين موقفا حاسما هادئا كعادته وذهب الي المقر البابوي وتحدث الي جموع الغاضبين في حضور البابا شنودة الثالث واتخذ مع مجلس نقابته مواقف تسجل له ولهم واستطاع- وهو الذي احتوي من قبل أزمة قانون الصحافة منذ سنوات- ان يحتوي هذه الازمة برصانة واقتدار يسجلان للصحافة المصرية التي تبدو في مجموعها سليمة البنيان وطنية التوجه برغم بعض التصرفات الخارجة عن الاطار العام والتي لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات المتقدمة أو المتخلفة علي السواء.
رابعا: الشرطة المصرية:
لقد وقف جهاز الشرطة موقفا تاريخيا يسجل له وتلقي قذائف غضب الثائرين وانفعالاتهم غير المحسوبة بكل صبر وتعقل واصيب من ضباط الشرطة عدد بإاصابات بالغة ولكن كانت التعليمات لديهم هي ضرورة تحمل انفعال اشقائهم مهما كانت الظروف ومهما بلغت التضخمات وتلك هي تقاليد الشرطة المصرية العريقة امام المواقف الصعبة وفي الظروف الحرجة.
هذه رؤية موجزة لأزمة عابرة دخلت علي سماء الوطن في بداية صيف ساخن تريد ان تنال من وحدته أو تؤثر في تماسكه ولكن عبقرية الشعب المصري- التي لا تدرك عمقها قوي دولية واقليمية- استطاعت ان تحتوي الازمة وأن يخرج منها المصريون أكثر تماسكا واشد ارتباطا لأنهم ابناء حضارة عريقة تعاقبت عليها ثقافات متتالية ولكن ظل دائما أريجها فواحا بكل قيم الحق والخير وأسباب الوحدة والاندماج. انها كنانة الله في الارض احتفت بها كل الكتب المقدسة وباركها الانبياء والرسل ولجأ اليها الملوك والزعماء وبقيت شامخة الاف السنين لا يؤثر فيها خدش سطحي ولا يحطم كيانها عدوان خارجي انها مصر التي وقف ازهرها الشريف يخاطب الكنيسة بكل الحب والمودة في ظرف حرج وأمام أزمة عابرة ثم تبقي حكمة القيادة التي لا تفرق بين مصري واخر, ووعي الشعب الذي يدرك حقيقة الامور بفطرته ويتصرف وفقا لطبيعته ويتمسك دائما بوحدته.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2001/7/3/WRIT2.HTM