كتبنا في هذا المكان منذ قرابة عام مقالا بعنوانفي جدوي الكتابة وكانت له أصداؤه حتي أن الناقد الكبير الأستاذ رجاء النقاش جعل الرد عليه واسم كاتبه عنوانا لمقاله في الأهرام كما تعاقبت ردود الفعل حوله بالتعليقات الإيجابية في مجملها لأنه كان يتعرض لظاهرة تلازم حياتنا وترتبط بنا وأعني بها أن الكلمة المكتوبة لاتصل الي الناس لأسباب عددتها وكانت الأمية من بينها كواحدة من العوامل المانعة لوصول الكتابة لمستقبلها الطبيعي, وظننت أن المسألة مقصورة فقط علي تدني جدوي الكتابة ولكنني اكتشفت بعد ذلك خصوصا عندما ساقني القدر لكي أكون عضوا في البرلمان أن الجانب الآخر للقضية التي طرحتها منذ عام والذي يبدو أكثر اثارة للجدل وأولي بالرعاية هو مايتصل بجدوي الكلام ذاته, والكلام علم وفن وهو أيضا التعبير التلقائي للإنسان عما يريد أن يقوله وهو مرآة شخصيته ومحدد هويته ولقد قال الفيلسوف الإغريقي العظيم تكلم حتي أعرفك, أما الذين قالوا إذا كان الكلام من فضة فاالسكوت من ذهب فهم في ظني انسحابيون سلبيون لأن من الكلام مايعادل الذهب ومن الصمت مالايرقي الي مستوي الفضة, فالمهم دائما هو نوع الكلام ودرجة صدقه ومدي موضوعيته وجدوي قوله.
وأعترف اني اكتشفت أخيرا أن براعة الكلام صفة عربية سائدة وميزة مصرية معروفة ومع ذلك فإن الذي يدعوني دائما الي التساؤل هو الافتراض الوهمي القابع في أذهاننا من أن حلو الكلام وطلي الحديث هما تعبيران عن تميز الشخص وتفوقه بينما الأمر في يقيني أن الحديث مهما يكن رائعا ولكن لايستند الي قاعدة فكرية فانه يبدو كالعملة الورقية بدون غطاء, إنه يبدو كلاما مرسلا مثل الاصدار الجديد للبنكنوت والذي لايقابله حجم مماثل من السلع المعروضة والخدمات المتاحة بالدولة, لذلك فقد أدركت مبكرا أن الارتباط بين القدرة علي الكلام والتفوق الشخصي ليس شرطيا كما أن التلازم ليس حتميا, فما أكثر من يجيدون الكلام بغير عقل يقف وراءه أو فكر يستند اليه, وعندئذ تصبح الحالة كما عبر عنها الفقيه القانوني الدكتورأحمد كمال أبو المجد أشبه بشيك بغير رصيد وأهمية وقيمة مايقوله هذا المفكر الكبير ترتبط به أيضا فهو نفسه واحد من فرسان الكلام حتي أن بعض حساده عندما تولي وزارة الإعلام في السبعينيات أطلقوا عليه اسم كلام أبو المجد, ويجب أن أعترف هنا ويشاركني في ذلك الجميع ربما بغير استثناء أن ذلك الرجل قد جمع بين سلاسة الحديث وعمق الفكرة علي نحو يدعو الي الاحترام بل يتجاوزه أحيانا الي الانبهار اذ أنه قد حشد في رصيده فهما دقيقا للحضارة العربية الإسلامية مع تواصل رصين يربطه أيضا بالفكر الأوروبي المسيحي والعقل الأمريكي المعاصر فأصبحت كل شيكاته معتمدة علي رصيد لاينتهي ومعين لاينضب, انني أردت من هذا المثال الواضح أن أقول أن حديثي حول جدوي الكلام ينصرف إلي الكم الهائل من الأحاديث والخطب والتصريحات التي يطلقها الناس بغير ضابط أو رابط حتي أصبحت تطرح أمامنا إشكالية جدوي الكلام في عصر لايبدو فيه الإسهاب مرغوبا, ولكن يبدو فيه الإيجاز مطلوبا!
ولن يمكن أن نتطرق إلي معالجة هذه القضية دون أن نطرح الملاحظات التالية:
أولا: إن الكلام يرتبط بلغة معينة ولاأقصد هنا بالطبع المعني المجرد للغة ولكنني أعني طبيعة الطرح ونوعية الحوار ومستوي الحديث, فالخطاب الإنساني مرتبط باللغة الأصلية وأسلوب التفكير وترتيب الأولويات مع الإحاطة بالموضوع وعمق التحليل ووفرة المعلومة. لذلك فإن كثيرا مما يقال يبدو أحيانا وكأنه مفردات لفظية لاتستند إلي قاعدة فكرية.
ثانيا: إننا ننتمي إلي واحدة من أكثر أمم الأرض حفاوة باللغة وحماسا لجمال اللفظ وولعا بالمحسنات والتشبيهات وقد يكون ذلك كله مصدرا للمتعة بشرط ألا يأتي ذلك علي حساب الفكرة إذ أن اللغة الرفيعة مع الفكر العميق هما في النهاية مصدر التألق والتميز ولكن إحداهما لاتنهض وحدها بديلا عن الأخري.
ثالثا: إننا شعب مغرم بالكلام, قادر عليه, متميز فيه, ولكن حصيلته تبدو أحيانا أقل بكثير من حجمه, كما أن مضمونه في أحيان أخري يبدو محدودا مقارنا بمساحته وقد يكون هذا عيبا في لغتنا الثرية وإمكاناتها الضخمة ولكنني أظن أنه أيضا عيب في نبرتنا الحماسية, وتناولنا المطلق أحيانا للقضايا بغير وضوح, مع غياب التحديد وافتقاد الدقة في التعبير.
رابعا: لقد اكتشفت في شهور عضويتي لمجلس الشعب أن كل النواب تقريبا قد نجحوا في دوائرهم الانتخابية لأسباب متعددة ولكن القاسم المشترك بينهم هو القدرة علي الحديث والرغبة فيه, وكم سألت نفسي مرارا هل هناك ارتباط بين تميز الشخص وقدرته علي الكلام؟ وهو الأمر الذي قادني إلي أن أطرح هذا التساؤل عن جدوي الكلام في هذا المقال الموجز.
خامسا: إن الكلام في بلد مثل مصر ـ تلتهم الأمية نصف سكانه ـ تبدو خطورته أكبر بكثير من خطورة الكتابة, فالسمع موقف تلقائي بينما القراءة تصرف تعمدي, وقد يسمع الإنسان بغير إرادته ولكنه لايقرأ بدون رغبته, من هنا فإن جدوي الكلام تسبق في ظني جدوي الكتابة في بلد مثل ذلك الذي ننتمي إليه.
..إنني أطرح من خلال هذه القضية مسألة مهمة ترتبط بضرورة وجود قاعدة نظرية رصينة وراء النشاط اللفظي للحديث وإلا أصبحنا أمام لغو لاطائل منه, وثرثرة لامبرر لها, ولقد حصرت شخصيا علي أن أضع لكلامي أفكارا محددة أنتقيها بكل عناية وأبحث فيها بكل إهتمام, لأنني اتهمت نفسي منذ الطفولة بالقدرة علي الحديث والحفاوة بالصياغة نتيجة الحفظ المبكر لأجزاءالقرآن الكريم والسياحة بين كتب التراث في المراحل الأولي من العمر, ومازلت أذكر تجربة تحضرني دائما وتلح علي خاطري كلما فكرت في جدوي الكتابة أوالكلام اذ تقدمت يوما بدراسة في مادة قاعة البحث التي كان يشرف عليها الدكتور بطرس غالي ـ أمين عام الأمم المتحدة السابق ـ في مطلع الستينات بجامعة القاهرة ومازلت أذكر أن البحث كان متعلقا بمادة التنظيم الدولي كما كان عنوانه هو عبد الرحمن الكواكبي والتنظيم الدولي وكنت بذلك أشير إلي كتابه الشهيرأم القري وألقيت البحث أمام زملائي في استحسان واضح من استاذي ورفاق الدراسة ولكن بعضهم عاب علي يومها أن رصانة اللغة قد تستهوي المستمع أحيانا لتشده بعيدا عن جوهر الفكرة فانبري الدكتوربطرس غالي للرد علي هذه الملاحظة قائلا: ان سلامة اللغة إذا أضيفت إلي عمق الفكرة تصبح إضافة إيجابية لأن الشكل جزء من المضمون ذاته حتي أن ملبس الإنسان يبدو إحدي مكونات شخصيته, وضرب الأستاذ الجامعي المرموق يومها أمثلة لنماذج من ثقافته الفرنسية ترتبط بشخصيات معروفة في تاريخ الحضارة اللاتينية تميزت بروعة الأسلوب وجمال اللفظ علي نحو لم ينتقص من قيمتها الفكرية ومكانتها العلمية بل أضاف إليها وزاد منها.
وإذا كان العرب قد أعطوا عناية في الفكر الإسلاميلعلم الكلام فإن الغرب في ظل الحضارة الأوروبية قد أعطي أهميةلفن الكلام وعكست الحضارتان معا أهمية الكلام في حياة الشعوب وتراث الأمم لأن التخطاب يرتبط بالإنسان من بدايته وحتي نهايته, حتي أن أساتذة الدراسات السيكولوجية وعلماء النفس يؤكدون أنه إذا عاش عربي ـ علي سبيل المثال ـ في الولايات المتحدة الأمريكية أربعين عاما لايتحدث لغته الأصلية افتراضا, فإن الكلمات الأولي التي سينطق بها بعد إفاقته من عملية جراحية كبري سوف تكون بلغته العربية حيث يرتد الذهن إلي المصادر الأولي للمعرفة والتي تشكلت منذ الشهور الأولي في حياته فتكون نداءات المريض أو شكوي الألم بعد الخروج من غيبوبة المخدر منطوقة بلغته الأم قبل أي لغة أخري مهما يطل العهد بها أو تتوالي السنون للحديث بواسطتها, وتلك دلالة إنسانية علي الارتباط بين الكائن ولغته التي تمثل قرينا يعيش معه ويقبع في أعماق وجدانه, ولعلي أسجل هنا عددا آخر من النتائج المرتبطة بقضية جدوي الكلام وأرصد منها:
1 ـ إننا أمة تعودت في كثير من المناسبات أن تقول مالاتفعل ثم تفعل مالاتقول!! وسلبت تلك الفجوة بين القول والفعل درجة المصداقية ومساحة الاقتناع لدي الآخر الذي يستقبل القول أو الغير الذي يتابع الفعل, وفي ظني أن هذه الازدواجية هي جزء كبير من جوهر مشكلة القيمة الحقيقية للكلام في بلادنا.
2 ـ إن الكلام بالعبارات النمطية والأكليشيهات اللفظية قد سلب الحديث جزءا كبيرا من جدواه وجعله مكررا وباهتا لأنه حديث معادلايخرج عن دائرة الظاهرة الصوتية ولايقترب من جوهر الفكرة العقلية.
3 ـإن الذين لايضيفون جديدا قد لايقولون أيضا صحيحا, وصدق من تهكم علي حديث لرفيق له يوما قائلاإن كل جديد فيما يذكره ليس صحيحا كما أن كل صحيح فيه ليس جديدا!, أو هي أقرب إلي عبارة هجاء ذكي سمعتها من بعض خصوم كاتب اشتغل بالتأليف والترجمة اذ قالوا عنه إنه أذا إلف ترجم وإذا ترجم ألف,وهذه برغم أنها عبارة هجاء قاسية قد لاتنطبق علي ذلك الكاتب الراحل إلا أنها مؤشر لشيء مافي الشخصية المصرية مازلنا نعاني منه, ولانستطيع الخلاص من آثاره.
4 ـ إن الذاتية التي تصبغ جزءا كبيرا مما نقول وتنعكس علي الأغلب الأعم من كلامنا قد حرمت الحديث درجة الموضوعية ومستوي المصداقية فالتجرد عن الهوي هو الذي يسمح بالصدق مع النفس والوضوح مع الذات ولايمكن أن يكون هناك فكر عميق مرتبطا بادعاء شخصي أو غرام مطلق بالذات, فالأصل في الحديث السليم أنه صادق ومباشر وأمين.
5 ـ إن الكلام ليس أداة للفكر فحسب ولكنه أيضا مؤشر لما يقف وراءه لنوعية العقل, ودرجة الثقافة, ومستوي فهم الآخر, فما عرفت متحدثا رفيع القدر إلا إذا كان مدركا لحقيقة من يتجه إليهم بخطابه أو يقصدهم بحديثه, فليس المهم فقط التحكم في جهاز الإرسال وحده ولكن أيضا هناك ضرورة ضبط الإيقاع لكي يكون نفس موجة جهاز الاستقبال لأن جدوي الكلام مسألة نسبية ترتبط بمن تصدر عنه ومن تصل إليه.
إنني حين أتطرق إلي هذا الموضوع فإنني أريد أن أقول إن الكلام وسيلة الإنسان للتعامل مع غيره, كما أن الصمت لايخفي دائما عبقرية كامنة أو عمقا حقيقيا, إذ يكشف الكلام بالضرورة عن نوعية صاحبه وإمكاناته الحقيقية لذلك فأنني أزعم أن تلازم الفكر مع القول هو جوهر قضية الحرية في كل العصور ومختلف الأزمنة إذ أن حرية التعبير تتلازم مع حرية التفكير ولايوجد بينهما نصف طريق, وهي في النهاية غاية يصل إليها البشر بالالتزام الفكري والإطار الأخلاقي مهما يكن الهدف بعيدا أو تكن الرؤية ضبابية أو تكن المخاوف مسيطرة, وجدوي الكلام يحددها ذلك الرصيد الذي يقف وراءه ويمده بالأفكارالرصينة والرؤي الواضحة, ويرتب أولويات القضايا ويأتي بأمهات المسائل قبل صغائر الأمور, ويضع صاحبه في النهاية أمام مسئولية الحديث وشرف الفكرة وصدق العبارة حتي يكون هنا كجدوي للكلام.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2001/6/5/WRIT1.HTM