ظلت إيران علامة استفهام كبيرة أمامي علي امتداد الأعوام العشرين الأخيرة منذ قيام الثورة الإسلامية فيها, وكانت المعلومات تتدفق والتحليلات تتوالي عن تلك الدولة الكبري من دول الجوار العربي باعتبارها وريثة حضارة فارس والإسلام معا والتي تربض علي التخوم الفاصلة بين الشرق الأوسط وغرب آسيا, ومع ذلك فقد كنت أتصور دائما أن قدرا كبيرا مما ينشره الإعلام ـ خصوصا الغربي ـ متحامل علي تلك الثورة بحكم تداعيات ميلادها وارتباطها بأزمة الرهائن الذين احتجزهم الحرس الثوري والطلاب في الشهور الأولي من وصول الأمام الخوميني من فرنسا إلي مطار مهراباد لتسقبله الملايين المتلهفة ايذانا بحدوث أكبر نقطة تحول في إيران الحديثة منذ قيام حركة مصدق وسقوطها يومها كتبت مقالا في الأهرام فبراير1979 تحت عنوان.. وتغيرت خريطة الشرق الأوسط أعبر فيه عن تساؤلات كثيرة حول مفهوم الثورة الإسلامية وامكانات استمرارها في السلطة وقدرتها علي أن تحكم تحت عباءة آيات الله وعمائم الملالي.. وظل الهاجس يؤرقني والقراءات تلاحقني وإيران تبدو أمامي علامة استفهام لاتغيب.
وعندما كلفني رئيس مجلس الشعب بأن أمثل البرلمان المصري في ندوة برلمانية دولية دعا إليها مجلس الشوري الإسلامي في طهران وقبلت الدعوة لها خمس وثلاثون دولة وجدتها فرصة لكي أري علي الواقع ما تخيلته كثيرا ولأحسم قضية ظلت عالقة في ذهني لأكثر من عقدين من الزمان, لقد أخذتني الطائرة الإيرانية من مطار الكويت حيث كنت ألبي دعوة لالقاء محاضرة عن الواقع العربي وآفاق المستقبل ـ إلي مطار شيراز المدينة الفارسية العريقة التي خرج منها الشاعران الايرانيان السعدي وحافظ وانتسب إليها سيبويه أسطورة النحو الباقية, وقد استقبلني في مطار شيراز نائب محافظها الذي مكث معي في استراحة المطار ساعة من الوقت حتي لحقت بالطائرة المتجهة إلي طهران وأنا أقلب البصر في خريطة الطائرة بين شيراز وأصفهان وتبريز ومشهد وغيرها من مدن تلك الدولة المركبة التي لايزيد العنصر الفارسي علي نصف سكانها ويكمل النصف الآخر عناصر من أصول تركية وكردية وعربية وغيرها من قوميات غرب آسبا, إلي أن لاحت أمامنا طهران بملايينها الأثني عشر وبدا في أحد ضواحيها قبر الإمام الخوميني متألقا بأضواء المآذن مع ساعات الليل الأولي..
ولعلي أتقدم هنا بعدد من الملاحظات قد تكون مفاتيح للحديث عن إيران الشعب والحضارة:
1 ـ إن مصر تمثل مساحة كبيرة في العقل الإيراني وهذه ليست ميزة خالصة بقدر ما هي أهتمام يتأرجح بين القرب الشديد والتنافس المكتوم, والذي صنع تلك المساحة الواسعة هو تراكم التاريخ بدءا من بناء الأزهر الشريف لكي يكون قلعة للمذهب الشيعي وصولا إلي المصاهرة الملكية التي لم تدم طويلا.
2ـ إن الشعب الإيراني بطبيعته محب للحياة مقبل عليها, والإسلام بالنسبة له مظلة حضارية, ولكنه ليس أسلوب معيشة يومية أو منهج تفكير دائم.
3 ـ لقد كنا نظن دائما أن الشيعة هم ثوار الإسلام ولكننا نضيف إلي ذلك أن استقراء التاريخ القريب سوف يكشف عن محاولة قوية لتطويع الدين الحنيف وخلط أوراقه بالسياسة تحقيقا لأهداف ليست كلها بالضرورة خالصة لوجه الله.
ولعله من المناسب أن نتناول شخصية إيران الإسلامية من خلال إطارين رئيسيين يعكسان في مجملهما التوجه الحضاري لذلك البلد الذي يقف علي نقطة التماس بين الشرق الأوسط ووسط آسيا ويلعب دورا مهما في السياسة الاقليمية منذ أن ظهر كتاب الاستاذ هيكل إيران فوق بركان في مطلع الخمسينيات عندما سقط محمد مصدق وقتل وزير خارجيته حسين فاطمي وبدأت توجهات الشاة الاستبدادية تطل من نافذة قصره وهو يلعب دور شرطي الخليج مع علاقات مضطربة مع العراق حول شط العرب وبسبب ذلك ظل الشاه في مواجهة مستمرة مع حكم الرئيس عبدالناصر ومده الثوري في المنطقة عندما استبدل العرب باسم الخليج الفارسي اسم الخليج العربي في وقت كان فيه الشاه ظهيرا لإسرائيل ومعاديا للتوجهات العربية ذات البعد القومي.
التشدد والاصلاح
لايتحدث المرء مع مسئول إيراني دون أن يطلب ذلك المسئول منه أن ينتحل الجميع لهم عذرا بسبب وجود عناصر متشددة تمثل جناحا رئيسيا في الحكم, وفي ظني أن هذه مقولة غير مقبولة لأننا نتعامل مع إيران الدولة وليس إيران الثورة فإذا كان مرشد الثورة هو حجة الإسلام والمسلمين علي خامنئي فان رئيس الدولة هو حجة الإسلام والمسلمين محمد خاتمي والعلاقات الدولية تتم بالتعامل بين الدول يجب ألا تكون ردود أفعال لمواقف نظم, فاذا اخذنا لذلك نموذجا مسألة استئناف العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين مصر وإيران علي مستوي السفراء فسوف يكون مدهشا ومقلقا أن الاسباب المانعة لذلك تكمن في الاشارات المتعارضة دائما بل والمتناقضة احيانا والتي تصدر عن طهران ـ الدولة والثورة ـ في ذات الوقت, ومازلت أذكر حالة الاستغراب التي انتابتني عندما ذكر مرشد الثورة وهو الامام الروحي الأكبر وخليفة الامام الخوميني وهو الذي يمثل المرجعية العليا للثورة والدولة معا, فلقد كانت مفاجأة لي ولغيري أن يتضمن خطابه الافتتاحي لمؤتمر دعم الانتفاضة الفلسطينية في طهران إشارة إلي كامب ديفيد وابعاد الجيش المصري عن شمال سيناء وفقا لاتفاقية السلام ـ علي حد قوله ـ بينما حررت المقاومة جنوب لبنان دون أن تلتزم باتفاقية مع إسرائيل, بل إن الأخيرة هي التي تدعو الجيش اللبناني إلي أخذ مواقعه في الجنوب علي الحدود معها, وهي مقارنة ـ كما هو واضح ـ غير عادلة يحاول بها مرشد الثورة الإيرانية أن يعطي للفلسطينيين الخيار بين نموذجين هما المصري واللبناني في ظل ظروف التوتر القائم في الارض المحتلة مع أن واقع الأمر يقول إن ذلك تحليل تحكمي لايقوم علي أسس صحيحة أو مقدمات منطقية, فالمقارنة ظالمة لأن مصر استردت كامل ترابها الوطني بالمواجهة العسكرية في حرب الاستنزاف الباسلة ثم حرب أكتوبر الظافرة وبينهما مقاومة فدائية جسورة في سيناء وبعدها مفاوضات شاقة مع إسرائيل ثم تحكيم دولي من أجل طابا لذلك فانه من العبث اختزال ذلك كله في مقارنة سطحية مع انسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان وهو أمر قررته إسرائيل منذ سنوات لانه لاتوجد لديها اطماع في تلك المنطقة ولاتحكمها دعاوي تاريخية أو دينية في ذلك, ولقد استلتزمت اشارة مرشد الثورة مني كمندوب للبرلمان المصري في ذلك المؤتمر أن أرد علي هذه المقولة في الجلسة العامة موضحا أن انكار التضحيات المصرية وتشويه اجتهاداتها الدبلوماسية هو أمر لايجوز, كما أن المقاومة لاتنطوي علي تحليل عادل وأوضحت أن شعب مصر قد قدم ويقدم وسوف يقدم كل ما يستطيع من أجل القضية الفلسطينية باعتبارها قضية العرب والمسلمين بغير استثناء, وأوضحت كذلك أن المقاومة المشروعة في الاراضي المحتلة لاتحول دون استئناف الجهود السياسية من أجل استعادة الهدوء والسعي نحو تسوية عادلة وشاملة تحتفظ بالثوابت ولاتفرط في الحقوق, ولقد لقيت كلمتي استحسانا من معظم الوفود برغم أن تلك الوفود تضم عناصر معروفة بتشدد رؤيتها العربية والإسلامية تجاه النزاع العربي ـ الإسرائيلي, كما أن رئيس الجلسة التي تحدثت فيها وهو واحد من قيادات إيران الدينية والسياسية قد وجه الشكر لي عند الانتهاء منها قائلا:تحية لممثل مصر الإسلام والعروبة والذي يعنيني من ذلك كله هو أنهم مازالوا يعتقدون في إيران ان لكل هدف طريقا واحدا, وأن من يختلف معهم في الأسلوب يجب تجريمه وتشويه صورته وهذا أمر لايرضاه الإسلام, فالنبي صلي الله عليه وسلم حارب وفاوض, واتفق واختلف, وكان نموذجا مبهرا للرؤية السياسية البعيدة, والفهم الصحيح للمتغيرات حوله, ولعل موقفه الرائع يوم فتح مكة هو نموذج حاسم في هذا الشأن, فلم يبدأ يومها حملة انتقامية أو مظاهرة عدائية, والأمر ال
ملحوظ هو أن العلاقات المصرية ـ الإيرانية يجري تناولها في هذا السياق المجرد معزولة عن تضحيات مصر الجسام في الحرب, وجهودها الضخمة في السلم, ودورها الرائد في السعي نحو مستقبل أفضل للشرق الأوسط, بينما هي لم تفرط يوما في حق, ولم تتنازل عن مبدأ, ولم تساوم علي موقف ثابت, وإذا أخذنا قصة الشارع الذي يحمل اسم خالد الاسلامبولي قاتل الرئيس السادات ـ فان الذي حدث هو أن صورة ضخمة للاسلامبولي قد وضعت حديثا وبحجم ضخم في أكبر ميادين طهران وقد كتب فوقها أنا الذي قتلت فرعون مصر ولقد ذهبت بنفسي لاري ذلك التذكار الضخم الذي يتوسط أكبر ميادين العاصمة الايرانية ولا أظن أن مثل ذلك يساعد علي حوار منطقي بين إيران الدولة ومصر, وقد اقترحت علي السفير هادي خسرو شاه رئيس البعثة الإيرانية في مصر وهو أيضا واحد من رجال الدين الشيعة المرموقين, فقد كان ممثلا للامام الخوميني في وزارة الخارجية الإيرانية عندما كان مرشد الثورة الحالي هو الممثل الآخر للامام الخوميني في القوات المسلحة, وعندما جري اختيار خسرو شاه لكي يكون رئيسا للبعثة الإيرانية في القاهرة بعد أن كان سفيرا لبلاده في الفاتيكان فان تلك كانت اشارة واضحة للحجم الكبير الذي تحتله مصر في العقل الإيراني, ولقد تجسد اقتراحي له في ضرورة تغيير اسم شارع الاسلامبولي واللوحة الجديدة وأن يحمل الشارع اسما آخر يسعد به الإيرانيون وليكن اسم الامام الراحل الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق والذي أصدر فتواه الشهيرة بمساواة الشيعة الاثني عشر بطوائف السنة الأخري بل وزدنا علي ذلك أنه يمكن تسميه الشارع أيضا باسم محمد الدرة الشهيد الفلسطيني الطفل أو قد يكون من المناسب أن يحمل الشارع اسم انتقاضة الأقصي فالبدائل كثيرة اذا صدقت النية وخلصت الضمائر, أما المقارنة بين تسمية ذلك الشارع وبين دفن مصر لشاه إيران السابق علي أرضها فهي مقارنة غير متكافئة أبدا لان الشاه كان رئيسا مسلما لدولة إسلامية شقيقة ـ مهما بلغت أخطاؤه وتجاوزاته ـ ومن الطبيعي أن يقبله تراب مصر بعد أن لفظته الدنيا وتنكر له حلفاؤه وظلت طائرته تجوب العواصم طلبا لمأوي تحت وطأة المرض وقرب النهاية, ويجب ألا ينسي الجميع أن تلك تقاليد مصرية عريقة مستمدة من تراثها الحضاري الذي يستقبل اللاجئين إليها والمحتمين بمكانتها وطالبي الاقامة فيها.
المظهر والجوهر
لقد لفت نظري أيضا أن المرأة الإيرانية تتمتع بقدر واضح من الحرية الرشيدة فبرغم الرداء الإسلامي الذي لايظهر منه إلا وجهها إلا أنها شريكة فاعلة في الحياة ومدعوة دائمة في كل المحافل والمناسبات وهو أمر لابد من الاشادة به ما دمنا نريد تحليلا موضوعيا لما جري في إيران وتقودني هذه النقطة بالذات إلي البعد الواقعي في العقلية الإيرانية فبرغم التوجهات المشددة والأفكار الراسخة إلا أن قدرا من البراجماتية يطفو علي السطح ويعدل المسار أحيانا ويخفف من حدة الثورة أحيانا أخري, إذ يجب ألا ننسي أن إيران دولة آسيوية مهمة تملك من التفكير العملي للتراث الآسيوي رصيدا يسمح لها بالحركة المرنة مهما يبدو التشدد أو تتصاعد الثورة, فالايرانيون يملكون واحدا من انشط برامج تنظيم الأسرة وأكثرها نجاحا في العالم الإسلامي كله, كما أن السينما الايرانية تتصدر نظيرتها في الدول المتشابهة وتكاد تقف ندا قويا للسينما الهندية صاحبة السيطرة الطويلة علي المزاج الشعبي في جنوب وغرب آسيا, والذي أريد أن أقوله أيضا في هذه النقطة هو أن أوضاع المرأة هي مقياس للتطور ومؤشر ينبغي الأخذ به عند تقييم الشعوب وتحديد درجة نهوضها, وليس الوضع الحالي للمرأة الإيرانية غريبا علي شعب احب الحياة ونطقت حضارته القديمة بألوان الرفاهية منذ أن كانت الثقافة الفارسية شاهدا تاريخيا علي ذلك, ولقد ذكرني ذلك بواحد من تلاميذي الذين درسوا إيران لغة وثقافة وسياسة وقدم أطروحة حولها شاركت في مناقشتها منذ سنوات, لقد ذكر لي ذلك الباحث الشاب بعد عودته من اقامة طويلة في إيران أن ذلك الشعب العريق يفهم كيف يعيش, ولاتبدو الثورة الإسلامية بالنسبة له الا غطاء لاينال من شخصيته التاريخية وجوهر معدنه المعروف, بل لقد عملت من بعض الاصدقاء المقيمين في إيران أن دور المرأة في الأسرة الإيرانية دور مؤثر وفاعل كما أنها صاحبة كلمة وقرار, ولها رأي له احترامه في جميع المناسبات.
ويخطيء من يتصور أن إيران هي فقط تلك الشعارات العالية أو الأفكار المعلنة, إن إيران هي أيضا تلك الدولة التي تفتح جسورا للاتصال مع قوي مختلفة بغض النظر عن البعد الإسلامي في ذلك فإيران الدولة تعمل بالسياسة بينما إيران الثورة تضع حدودا بل وقيودا علي ذلك, إن إيران تتصرف وفي خلفيتها التاريخية أمجاد الدولة الصفوية الشيعية التي كانت تقف في منافسة واضحة ـ علي مرمي حجر ـ من الدولة العثمانية السنية في تركيا لذلك لايبدو غريبا أن تفتح إيران ـ في ظل الثورة الإسلامية ـ قنوات للاتصال مع اليونان وأرمينيا وغيرهما من الدول طلبا لتحالفات مطلوبة أو مواقف متوقعة, فالمظهر أمر نعرفه جميعا ولكن الجوهر يحتاج إلي نظرة أعمق وتحليل ادق لأن إيران قوة اقليمية يجب النظر إليها في إطار مقوماتها وآفاق المستقبل أمامها.
هذا طواف سريع بعد رحلة لم تستغرق أكثر من ثلاثة أيام كانت نغمة التشدد فيها عالية ونبرة الرفض فيها مسموعة, لكن صوت العقل كان موجودا أيضا فلقد لفت نظري أن عناصر فلسطينية عديدة ذات دور فاعل في المقاومة الباسلة داخل الارض المحتلة لكنها لاترفض مع ذلك الاساليب الدبلوماسية بل وترحب بكل الأفكار العادلة.
إن إيران الثورة والدولة بدت لي كسجادة عجمية يبدو بريق ألوانها من بعيد فاذا ما اقتربنا منها وأمعنا النظر فيها ظهرت التفاصيل والرتوش لكي تعطي صورة مختلفة ومظهرا جديدا.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2001/5/8/WRIT1.HTM