تقف الولايات المتحدة الأمريكية موقفا يتسم بالخصوصية تجاه قضايا الثقافة المعاصرة, وقد ثارت هذه القضية في مناسبات عدة خلال العقود الأخيرة كان أبرزها الموقف الأمريكي من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة اليونسكو في ظل إدارة إفريقي متميز حاول ان يسلك بتلك المنظمة المهمة طريقا يتعارض مع سياسات واشنطن التي اتخذت في النهاية قرار انسحابها من تلك المنظمة لكي يكون ذلك إيذانا صريحا بموقف أمريكي خاص تجاه الثقافة العالمية, يبدو لنا الآن أنه كان إرهاصا مبكرا لتيار جديد يحمل فكر العولمة ويؤكد أن النظرة الأمريكية للثقافة لاتستند إلي مفهوم حماية التراث الإنساني بقدر نظرتها لتكريس أسلوب أمريكي جديد للحياة المعاصرة يترك بصماته علي الأجيال المعاصرة, لغة وموسيقي وفنونا بل وطعاما وشرابا وملبسا حتي يدخل الجميع العصر الأمريكي بروح متجددة في ظل شعارات تتحدث عن عالم مختلف وحواجز تسقط وفوارق تذوب, والذي يعنينا في المقام الأول هو ذلك التوظيف الأمريكي الواسع للثقافة اليومية لديها في خدمة أهدافها السياسية وتطلعاتها القومية بعيدا عن أعماق تاريخ تفتقده وآثار تراث تبدو محرومة منه.
ونحن ممن يعتقدون أن فكر العولمة سوف يقدم تغطية عصرية لمركب النقص الأمريكي تجاه البعد التاريخي لعمر الدولة في الولايات المتحدة, فأدوات الثقافة الأمريكية المعاصرة التي تجسدها ـ رمزا شخصية الكاوبوي وتلحق بها مظاهر فرعية بدءا من الجينز مرورا باللبان وصولا إلي الكوكاكولا هي التي تغزو فكر الأجيال الجديدة. منذ ماقبل منتصف القرن العشرين, بل إن نموذج الحياة اليومية في مدن الولايات المتحدة هو عنصر الإبهار الذي شد مئات الملايين, فمنهم من هاجر مكانا وحقق هدفه في الوصول الي أرض الأحلام, ومنهم من هاجر دون انتقال وهو في مكانه وتقمص الشخصية الأمريكية شكلا أو موضوعا بقدر مايستطيع, انه طوفان العصر وتياره الكاسح الذي قدمت له ومهدت لوجوده وعززت بقاءه عوامل يمكن رصدها عبر الملاحظات التالية:
الملاحظة الأولي:
إن تصور أبدية التفوق الأمريكي قضية تحتاج الي مراجعة, فنحن لاننكر ان امريكا تتصدر دول العالم المعاصر بالتفوق الاقتصادي والتقدم التكنولوجي, كما اننا نعترف ان الأمر يختلف الآن بالنسبة للدول التي تقود العالم أو الحضارات التي تسيطر عليه عن كل السوابق في التاريخ البعيد أو القريب لأن مقومات التفوق الآن تعتمد علي ركائز لاتتواري بسهولة ولا تتآكل علي النحو الذي كان حدث لامبراطوريات سادت ثم بادت, فنحن نتذكر العصر الروماني حين سيطرت تلك الامبراطورية علي قلب البحر المتوسط مركز العالم, وامتد تأثيرها علي شاطئيه الشمالي والجنوبي عندما كان الحديث يدور حول السلام الروماني
PAXROMANA
باعتبار شروطه هي الفيصل في تحديد استقرار الدول وثبات الكيانات السياسية, وانسحب الأمر بعد ذلك علي أسبانيا والبرتغال في عصر الكشوف الجغرافية وعلي بريطانيا وفرنسا في عصر ازدهار الظاهرة الاستعمارية وهو الذي يجعلنا نتحدث اليوم عن الولايات المتحدة الأمريكية كقوة تقود العالم تحت مسمي
PAXAMRICANA,
وقد يقول قائل إن الفارق بين التفوق الأمريكي وتفوق الدول التي قادت النظام الدولي في عصوره المختلفة يكمن في الجانب الثقافي حيث ان تلك الدول القيادية السابقة كانت تستند الي عوامل حضارية ساعدت علي انتشار تأثيرها ورسوخ مكانتها, أما في حالة الولايات المتحدة الأمريكية فهي تفتقد الي غطاء يأتي من تاريخها الثقافي, واذا كنا نسلم جدلا بهذا الفارق الا اننا نتصور أن التقدم التكنولوجي والتفوق الاقتصادي يسدان هذا الفراغ ويعطيان التفوق الأمريكي عمرا أطول وتأثيرا اشد, ولست أروج بذلك لنظرية تتحدث عن استمرار القيادة المنفردة للولايات المتحدة الأمريكية للعالم المعاصر, ولكني مازلت أكرر ان القوي الصاعدة الآسيوية وفي مقدمتها الصين إنما تنقصها الارادة السياسية للتقدم نحو موقع القيادة ذاتها فهي تسعي فقط لبناء اقتصادي تواجه به مشكلات ضخمة قد تستهلك وجودها وتصرفها عن البحث في ميزة الصدارة الدولية, أما أوروبا الموحدة فالرغبة لديها قائمة ولكن القدرة ليست متوافرة حتي الآن حتي نتحدث عن منافسة أوروبية أمريكية علي زعامة العالم برغم الحساسيات المكتومة التي يشعر بها كل من يتابع الشئون الأوروبية ومواقف الاتحاد الأوروبي من القضايا الدولية المعاصرة, ولاشك ان الجانب الثقافي هو الذي يعطي أوروبا ميزة علي الولايات المتحدة الأمريكية حيث لم تتوقف الأخيرة عن إبداء رغبتها في شراء مظاهر الثقافة الأوروبية بدءا من كوبري لندن الشهير وصولا الي أكشاك التليفونات البريطانية الحمراء العريقة مرورا بالرغبة في اقتناء الآثار الغربية والدفع بمتحف المتروبوليتان الأمريكي لكي يكون رأس حربة في جمع التراث الإنساني, وتصدر متاحف العالم, ان الولايات المتحدة الأمريكية تبدو لي كغني الحرب الذي ملك الثروة وافتقد الثقافة فبدت تصرفاته احيانا متجسدة في شخصية رعاة البقر بقبعاتهم الشهيرة وهم يلوحون بحرابهم في حركات دونكشوتية تملك القوة الظاهرة وتفتقد الجوهر الداخلي بينما تبدو أوروبا علي الجانب الآخر من الأطلنطي تعبيرا حيا عن الأرستقراطية الفكرية التي تشكلت تاريخيا من تزاوج الثروة والثقافة معا.
الملاحظة الثانية:
إن عصر الكمبيوتر قد حسم للقيادة الأمريكية تفوقا طويل المدي, فاللغة الانجليزية هي لغة الكمبيوتر وهي لغة الثقافة الأنجلوسكسونية, والأمريكيون هم الورثة الطبيعيون لتلك الثقافة فكان طبيعيا ان يكون شيوع استخدام الكمبيوتر إضافة ضخمة للتأثير الأمريكي المعاصر لأنه يمثل عنصرا جديدا للتفوق الأمريكي بغض النظر عن محاولات الآخرين واجتهاداتهم ويجب الا ننسي ان الكمبيوتر قد احدث مايمكن تسميته بالثورة الصناعية الثانية التي تملك الولايات المتحدة الأمريكية كل مقوماتها بعد الثورة الصناعية الأولي التي ظهرت في أوروبا منذ أكثر من قرنين, إننا أمام تحولات ضخمة لا يمكن الاستهانة بها أو التقليل من شأنها تحوز الولايات المتحدة الأمريكية فيها القدر الأكبر من كل عوامل التأثير الأخري وفي مقدمتها الكمبيوتر وملحقاته, ولقد حاولت الولايات المتحدة الأمريكية ان تصطنع رموزا للتفوق الثقافي المفتعل حيث يلعب الكمبيوتر ومشتقاته دورا أساسيا في ذلك, ونحن لانستهين هنا بالآخرين ولانقلل من شأن كل من برعوا في استخدامه وتوظيف نتائجه لخدمة التنمية وتقدمها في بلادهم, ولكننا نظل نري ان الولايات المتحدة الأمريكية لاتزال هي صاحبة السبق في هذا المضمار ويجب ألا يكون ذلك مبعثا لليأس أو مصدرا للاحساس بديمومة الدور الأمريكي, ولكننا نقول فقط ان السرعة التي انهارت بها امبراطوريات سبقت ليست هي بالضرورة نفس معدلات اختفاء الزعامة الأمريكية لعالم اليوم فالأمر قد يطول لعقود قادمة تتقدم فيها قوي أخري في منافسة شديدة مع الولايات المتحدة الأمريكية ولعلنا نرشح في مقدمتها تكتلا آسيويا محتملا بين الصين والهند واليابان واتحادا أوروبيا نشيطا يسعي كل منهما للإمساك بدفة سفينة العصر وتوجيه مسارها تحت قيادته ووفقا لمصالحه التي لاتنتهي.
الملاحظة الثالثة
لقد برع الأمريكيون اكثر من غيرهم في مسألة صناعة الصورة
IMAGEMAKING
وأصبحت لديهم آلة إعلام لا نظير لها علي الأرض يستطيعون بها تصوير الأفكار والأشخاص بالصورة التي تخدم مصالحهم فهم قادرون علي الرفع والخفض والتحسين والتشويه وفقا لمقتضيات الحال وتحت مظلة ديمقراطية تعتمد علي عنصر المال وتخضع لتأثيرات تلعب فيها أقليات معينة دورا فاعلا وحاكما.
وهنا يجب ألا ننسي دور الإعلام الأمريكي بكل رموزه من هوليود حيث صناعة السينما, الي التليفزيون الأمريكي حيث صناعة الخبر, وصولا الي الصحافة الأمريكية حيث صناعة الخبر, وصولا الي الصحافة الأمريكية حيث صناعة الرأي, والأقمار الصناعية والفضائيات تنقل الي الأجيال الجديدة في أركان الدنيا الأربعة ماتريد الولايات المتحدة الأمريكية ان يصل الي بنائهم الثقافي وتكوينهم الفكري, إنها عملية تعبئة كاملة للتأثير الأمريكي علي مسار التنمية البشرية في الدول المختلفة, وهل ننكر ان الاعجاب بالنموذج الأمريكي لدي الأجيال الجديدة يكاد يكون قاسما مشتركا, فكلنا محاصرون بأدوات الدور الأمريكي سياسيا واقتصاديا وثقافيا, تأتي من بلد تاريخه قصير وتراثه محدود ولكن إمكانياته هائلة وتفوقه غير مسبوق.
ان الولايات المتحدة الأمريكية التي وضعت صاحب أكبر منصب في العالم وهو رئيس تلك الدولة في قفص الاتهام بسبب نزوة شخصية وفتحت أمام العالم كله ملفا يحوي أدق تفاصيل حياته بل وأخص دقائق جسده في محاولة لإبهار العالم بديمقراطية لانظير لها وحرية لاحدود أمامها, هي أيضا الولايات المتحدة الأمريكية التي اكتشفت نموذجا للحرب التليفزيونية وهل ننسي دور محطة الـ
CNN
أثناء العمليات العسكرية لقوات التحالف ضد العراق بعد غزوه للكويت حيث أصبح متاحا لكل مواطن في العالم ان يري مباشرة مسرح العمليات العسكرية ويدرك حجم التفوق الأمريكي الكاسح والسيطرة الإلكترونية المخيفة في محاولة لتجريب أسلحة جديدة. وتأديب دول معينة, وتخويف شعوب أخري.
اننا حين نتحدث عن الثقافة الأمريكية فإنما نشير الي تأثيرات رموزها المعاصرة في حياة المجتمعات الأخري ونعترف بأننا ـ شئنا أو لم نشأ ـ نعيش العصر الأمريكي, بل إنني أعترف من خلال تجربتي الشخصية بأن الأمركة قد غزت انحاء الدنيا كلها بدءا من أوروبا ذاتها, ومازلت أذكر زياراتي للندن وهي العاصمة التي بدأت فيها عملي الدبلوماسي منذ اكثر من ثلاثين عاما حيث أدرك كل مرة بأن خصائص النموذج البريطاني التقليدي في الشخصية والسلوك قد بدأت تختلف وتخضع لتأثيرات وفدت عبر الأطلنطي من الولايات المتحدة الأمريكية, حتي أيقنت في النهاية ان كثيرا من خصائص الحياة الانجليزية التقليدية قد بدأت تذوب في اطار التفوق الأمريكي الكاسح لطقوس الحياة اليومية ورموزها الوافدة, واكتشفت ان الاعجاب الأوروبي بالولايات المتحدة الأمريكية قائم, ولكنه يأخذ شكل الاستيعاب والتجاوب اكثر من شكل الرفض والمقاومة, وذلك كله في اطار غيرة مكتومة لايشعر بها إلا كل من ينقب في تقويم الشخصية الأوروبية الحديثة, ونحن هنا في الشرق الأوسط نعاني اكثر من غيرنا من تأثيرات الحياة الأمريكية اليومية وانعكاسات ذلك علي أحوالنا السياسية والاقتصادية والثقافية, ويجب ان نعترف هنا اننا قد تعرضنا لعملية غزو فكرية وثقافية واسعة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية في العقود الثلاثة الأخيرة وان هذه الحملة قد حققت للسياسة الأمريكية نجاحات لابأس بها علي امتداد خريطة المنطقة, حاولت واشنطن توظيفها لخدمة مصالحها وتحقيق أهدافها وحماية وجودها, بل انني أزعم ان الصراع العربي الاسرائيلي قد تأثر هو الآخر بتداعيات التأثيرات الأمريكية فأنا ممن يظنون ان الثقافة هي التي تحدد سلوك الشعوب في الحرب والسلام وهي التي تعبث بالذاكرة القومية أحيانا وتنجح في خلط الأوراق احيانا اخري ويبدو لي أن شيئا من ذلك قد حدث في هذه المنطقة من العالم خلال السنوات الأخيرة حتي اصبحت الهوية القومية أمام خطر حقيقي, كما تعرضت المكونات الأساسية للشخصية الوطنية لنوع من التداخل امام مؤثرات خارجية يلعب فيها النموذج الأمريكي الدور الفاعل.
وأود ان أؤكد هنا أنني لا أتخذ موقفا عدائيا من التأثيرات الأمريكية في الشخصية العالمية المعاصرة ولكنني أرصد فقط الظاهرة, وأنبه الي مخاطرها وأعترف بأننا قد اقتربنا مما يمكن تسميته بالعصر الأمريكي بما يحمله من ايجابيات وسلبيات خصوصا وأننا في عصر يتميز بازدواجية المعايير والكيل بمكيالين, فالولايات المتحدة الأمريكية تتبني شعار الديمقراطية ولكنها قد تشجع غيابها في دولة معينة إذا كان ذلك يخدم مصالحها, كما ان الولايات المتحدة الأمريكية تتحدث عن حقوق الانسان ولكنها تفرق في ذلك بين انسان في بلد معين ونظيره في بلد آخر وفقا للمصالح والأهواء, كما ان الولايات المتحدة الأمريكية هي التي دعمت ظاهرة الإسلام السياسي حين كان ذلك يخدم مصالحها ضمن الحزام الدولي ضد النظم الشيوعية وهي التي حاربت نفس الظاهرة عندما تعارضت مع مصالحها المباشرة, ان واشنطن هي المسئولة عن مدرسة الأفغان لتربية الكوادر المتطرفة باسم الاسلام منذ سنوات الغزو السوفيتي السابق, وهي أيضا الولايات المتحدة الأمريكية التي واجهت المد الاسلامي في ايران بعد ان سمحت بسقوط الشاه ثم اكتشفت فجأة ان الثورة الاسلامية في طهران قد استهلت وصولها الي السلطة بقضية الرهائن الشهيرة في السفارة الأمريكية هناك.
ان الولايات المتحدة الأمريكية تتصرف وفقا لرغبتها في إعادة ترتيب الأوضاع في العالم بما يحقق الحد الأقصي من مصالحها وهذا أمر لاغبار عليه إلا أنها نجحت أيضا في توظيف الأمم المتحدة ومنظماتها الدولية في ذلك نجاحا واضحا فالعقوبات الدولية وحصار الشعوب وغيرها من الممارسات الجديدة في هذا العصر تخرج كلها من تحت قبعة مجلس الأمن في تكييف قانوني ظاهري لتنفيذ قرارات امريكية حقيقية, وهي أيضا الولايات المتحدة الأمريكية التي تتعامل مع الظواهر السياسية المختلفة بحسابات شبه إلكترونية تسقط منها العامل البشري مثلما حدث كثيرا بدءا من لبنان والصومال وصولا الي انفلات السيطرة علي حركة طالبان, بينما يمكن ان نتذكر ان الأوروبيين حين جاءوا الي المنطقة العربية في القرنين الماضيين قد تصرفوا وفي ذهنهم عناصر الظاهرة البشرية للمجتمعات الاسلامية في هذه المنطقة ويكفي ان نتذكر كيف كان البريطانيون يتعاملون في مصر والشرق العربي, وكيف تعاملت فرنسا مع دول الشمال الأفريقي لكي نكتشف غيبة حساب العامل البشري في السياسات الأمريكية حاليا إذ أن واشنطن لاتعمل بمنطق الاقتراب من الظاهرة ولكنها تتصرف فقط بأسلوب تحقيق المصلحة المباشرة لسبب بسيط وهو: أن الغطاء الثقافي لايبدو كافيا لاستيعاب عناصر الظاهرة البشرية في تحديد السياسة الخارجية.
اننا نرصد هنا مظاهر مختلفة لتأثير مايمكن تسميته بالثقافة الأمريكية التي تنحصر في أسلوب الحياة وصنع الشخصية وتقديم النموذج, ولكنها لاتتغلغل إلي الأعماق, ولا تسبر الأغوار, لأن التاريخ قصير والتراث محدود, بينما القوة ضخمة والإمكانات هائلة والزعامة تبدو بلا حدود.
|