فى بداية تسلُّمى العمل بمؤسسة الرئاسة كانت الزيارة الأولى التى أنضم فيها إلى الوفد المُرافق للرئيس الأسبق (مبارك) فى مدينة (نيويورك) الأمريكية لخطابٍ يُلقيه الرئيس المصرى أمام الجمعية العامة لـ(الأمم المتحدة). وكنت قد تسلَّمتُ عملى قبل ذلك بأسابيع قليلة سكرتيرًا للرئيس للمعلومات والمتابعة، وفى أثناء تنقُّلاتنا من الفندق الذى نقيم فيه إلى مبنى (الأمم المتحدة) كان الرئيس يستقلُّ سيارةً فارهةً، وأمامها سيارة مُشابهة تمامًا، وقد قيل لى: بما أنك سكرتير الرئيس للمعلومات فلابُدَّ أن تكون قريبًا منه، لذلك سوف تركب السيارة الشبيهة بسيارة الرئيس، والتى تتقدُّمه مباشرةً.
توهَّمتُ فى سذاجةً أن هناك محاولةً لتكريمى من البداية ووضعى فى إطار وظيفى رفيع، وظللت طوال تنقُّلات الرحلة أُمنِّى النفس بآمالٍ فى المستقبل
وعندما دخلت السيارة وجدتُّ فيها شاشة تلفزيون، وثلاجة صغيرة، وكل وسائل الراحة، التى لم أعرف لها مثيلاً من قبل، وتوهَّمتُ فى سذاجةً أن هناك محاولةً لتكريمى من البداية ووضعى فى إطار وظيفى رفيع، وظللت طوال تنقُّلات الرحلة أُمنِّى النفس بآمالٍ فى المستقبل وأحلامٍ وظيفيةٍ وهميةٍ مادامت هذه هى مكانتى من المؤسسة، وداخَلَنى السرور العارم واستبدَّت بى الثقة المُطلقة.
وقُرب نهاية زيارتنا للمدينة الضخمة همست فى أذن زميلى اللواء شريف عمر، المسئول عن أمن الرئيس، مُعبِّرًا له عن سعادتى بالتكريم الذى ألقاه على امتداد الأيام الثلاثة السابقة، والذى سوف ينتهى فى اليوم التالى بمغادرتنا مطار (نيويورك) ووجدته يضحك فى خُبث، وقال لى: إن السيارة التى تركبها هى سيارة التمويه التى تتقدَّم سيارة الرئيس، والتى قد تستقبل أى محاولة للمساس بحياة الرئيس، فأنت فى هذه الحالة الذى تفتديه بروحك، فالسيارة التى تركبها للتغطية على سيارة الرئيس تتلقى عنها الرصاصات -لا قدَّر الله- وتتعرَّض لأى تفجير بصورة تحمى الرئيس وسيارته، فأنت جهاز إنذار داخل سيارة استطلاع شبيهة تمامًا بالسيارة التى يستقلُّها الرئيس وتسبقه مباشرةً فى الموكب الرئاسى أثناء تحركاته فى المدينة الأمريكية الضخمة! وأدركت أن وضعى فى تلك السيارة تحديدًا لم يكن تكريمًا لشخصى، بل كان تضحية به! أنا قادم جديد إلى مؤسسة الرئاسة لا أعرف تقاليد العمل ولا ترتيب موكب الرئيس، وبالتالى فإن ما حدث كان استغلالاً لهذا الأمر فى إيهامى بالتكريم، بينما أنا كنت أحل مشكلة أمنية دون أن أدرى. ولقد تعلَّمت منذ ذلك اليوم أن الحكمة المأثورة (ليس كل ما يلمع ذهبًا) هى حكمة بليغة تُعلِّم الإنسان ما لم يعلم.
أدركت أن وضعى فى تلك السيارة تحديدًا لم يكن تكريمًا لشخصى، بل كان تضحية به! أنا قادم جديد إلى مؤسسة الرئاسة لا أعرف تقاليد العمل ولا ترتيب موكب الرئيس
وبمناسبة موكب الرئيس فقد هبطنا ذات يوم فى مطار (بوخارست) عاصمة (رومانيا)، وقام الجهاز الإدارى للرئاسة بتوزيعنا على السيارات، وكان من نصيبى أن أستقل منفردًا إحدى السيارات الصغيرة وسط الرِّكاب الرسمى، ولأمرٍ ما انحرف السائق الرومانى قليلاً فابتعدنا عن رتل السيارات، وأصبحنا نمضى فى طريق منفصل ولا ندرك إلى أين اتجهت سيارات الموكب، وبدأت التحدث إلى السائق بالإنجليزية فلا يفهمها ثم يرد علىَّ بالرومانية ولا أعرفها، وأصبحنا فعلاً أمام ما يمكن تسميته (حوار الطرشان)، وأقول له (السفارة المصرية) بكل اللغات ولا يستطيع أن يفهم ما أقصد، لأنه يبدو أن مؤسسة الرئاسة هناك كانت تستأجر عددًا من السيارات لخدمة الضيوف أثناء زياراتهم، ولقد ظللنا قرابة ساعة ونصف الساعة نجوب شوارع العاصمة إلى أن استوقفته أمام شرطى فى إحدى نقاط المرور واستخدمت معه مزيجًا من كلاللغات التى أعرفها، وأظهرت له جواز سفرى فقال: إنكم بعيدون جدًّا عن قصر الضيافة، إنكم فى اتجاه عكسى، وبدأ يشرح بالرومانية للسائق كيفية الذهاب إلى قصر الضيافة ووصلت فى النهاية وقد تجمَّدت أطرافى من البرد، وتوتَّرت أعصابى من الموقف.
وفى مرة ثالثة كنا فى (باريس) فى موكب العودة إلى المطار وقيل لنا إن الرئيس قد سبقنا، وأنه ينتظر داخل الطائرة، وبدأت أنا وزملائى نطلب من السائق الفرنسى أن يقوم بمعجزة، وهى الإسراع نحو مبنى المطار، وبدأ من جانبه ينفذ التعليمات متجاهلاً إشارات المرور وزمجرة الفرنسيين على الجانبين من هذا المشهد العبثى غير المحترم، وكدت أتصوَّر فى أكثر من لحظة أننا سنلحق بالرفيق الأعلى بسبب السرعة الجنونية والطيش الزائد الذى يتعامل به السائق مع الموقف، وعندما وصلنا إلى أرض المطار دلفنا إلى باب الطائرة مباشرة وجلست على مقعدى لعدة دقائق أحاول أن أستردَّ هدوئى، وأن أستعيد الإحساس بالأمان بعدما افتقدته لأكثر من نصف ساعة من الذُّعر والفزع، وما أكثر النوادر التى عرفتها مع السيارات ومع الطائرات أيضًا، ولذلك حديث آخر!
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 226
تاريخ النشر: 16 مايو 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%b9%d9%86%d8%af%d9%85%d8%a7-%d8%b1%d9%83%d8%a8%d8%aa%d9%8f-%d8%b3%d9%8a%d8%a7%d8%b1%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d8%a6%d9%8a%d8%b3-%d9%81%d9%89-%d9%86%d9%8a%d9%88%d9%8a%d9%88%d8%b1%d9%83/