نشرت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في موقعها علي الإنترنت ملخص دراسات أجراها لحسابها عدد ضخم من الخبراء والباحثين بإشراف مباشر من مديرها شخصيا, ولقد خصصت الوكالة جزءا من تلك الدراسات لمستقبل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مع تركيز خاص علي مستقبل العرب في الأعوام الخمسة عشر المقبلة, والاتجاهات الرئيسية التي سوف تتحكم في صياغة صورتهم حينذاك, وقد استعرض التقرير المسائل الخاصة بالسكان والموارد الطبيعية والبيئة والعلم والتكنولوجيا, والاقتصاد في ظل العولمة, ونظم الحكم المحلية والدولية, والنزاعات المحتملة ودور الولايات المتحدة الأمريكية فيها, ولقد انتهت الدراسات المتصلة بالمنطقة التي نعيش فيها إلي أنها سوف تواجه في السنوات القليلة المقبلة صراعات علي المياه وتزايدا استثنائيا في السكان مع مقاومة منتظرة لتيار الانفتاح العالمي, ورفض دائم لقبول نتائج ثورة المعلومات.
ويضيف التقرير أن معظم الأنظمة العربية لا تتحمس للتغيير وتهمل تطوير التعليم, الأمر الذي سوف يؤدي إلي توافر بيئة ملائمة لموجات إرهابية ضد بعض النظم العربية, كما تصنف الدراسة دول المنطقة في إطار دائرة القصور عند التعامل مع المنظمات الدولية غير الحكومية والقطاع الخاص, بل ويتجاوز تقرير الدراسة ما هو أكثر من ذلك لكي يشير إلي تنافس عسكري محتمل وسباق في التسلح بين دول المنطقة, فضلا عن احتمالات لاتساع الفوارق الطبقية وظهور النزاعات العرقية والدينية, ويضيف التقرير أن مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط قد ينالها تهديد مستمر ومواجهة متصلة, وعلي الصعيد الاقتصادي يشير تقرير دراسة المخابرات المركزية الأمريكية إلي استمرار قطاع الدولة في ممارسة سيطرته علي الموارد الوطنية وطرده للاستثمارات وبعده عن الشفافية مع تخلف في السياسات المالية وتعثر في برامج الإصلاح الاقتصادي, ويتجاوز التقرير ذلك كله إلي مستقبل الإعلام العربي, فيري أنه سوف يساعد علي زيادة الاضطرابات وتوسيع الهوة بين الطبقات ورفع سقف توقعات الجماهير بما يؤدي إلي زعزعة النظم وتقويض الحكومات, وعندما يشير تقرير الدراسة إلي البترول العربي, فإنه لا ينفي استمرار أهميته عموما, ولكنه يؤكد أن حاجة الأسواق الأوروبية والأمريكية إليه تتناقص, بينما تتزايد حاجة الأسواق الآسيوية, خصوصا في اليابان والصين والهند إلي استمرار تدفقه, ويختتم تقرير تلك الدراسة توقعاته بأن التوصل إلي سلام بين إسرائيل وجيرانها أمر وارد في السنوات القليلة المقبلة, إلا أنه قد يأخذ شكل السلام البارد, الذي لا يبدو فيه الحماس واضحا لعلاقات ثقافية واقتصادية ملموسة بينها وبين العرب.
|
|
والسؤال الذي أطرحه في هذا المقال هو: هل صورة المستقبل العربي مغرقة في التشاؤم علي النحو الذي يقدمه آخرتقرير لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية, خصوصا أن عددا من الصحف والدوريات العربية قد نشرت ذلك التقرير في صدر صفحاتها وتناولته أقلام الخبراء والمتخصصين بالنقد الذي يصل إلي درجة الرفض والتحليل الذي يبلغ حد الهجوم؟! ولكني أسعي هنا إلي ردود متأنية حول تقويم النتائج الخطيرة التي توصل إليها التقرير.. ولعلي أشير إلي ذلك في عدد من الملاحظات هي:
أولا:
إن توقيت التقرير يعكس جو التشاؤم الذي يغلف المناخ العام للشرق الأوسط, ويترجم روح الإحباط التي يشعر بها العرب في فترة شديدة الحساسية بالغة الخطورة من تطور الصراع العربي ـ الإسرائيلي, فالشهور الأخيرة التي أعادت المنطقة إلي دائرة العنف وفتحت باب المواجهة الدامية مع آلة الحرب الإسرائيلية التي تحاول قهر الشعب الفلسطيني الأعزل وتقوم بأبشع الانتهاكات التي يمكن أن تمارسها قوة احتلال معاصر, لذلك فإن صدور هذا التقرير الأمريكي في هذا الظرف القومي يؤكد محاولة استثمارها لحالة النكوص التي تمر بها المنطقة العربية, بعد تدهور المسيرة السلمية منذ28 سبتمبر2000 عندما قام شارون بزيارته الاستعراضية الاستفزازية لحرم المسجد الأقصي.
ثانيا:
إن الجهة التي أصدرت التقرير وهي وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ليست متهمة تاريخيا بالتعاطف مع العرب, أو مجاملتهم في أي مناسبة مرت بها تلك الأمة, بل إن هذه الوكالة كانت دائما داعما أساسيا للسياسات الأمريكية المنحازة في الشرق الأوسط خلال العقود الأخيرة, وعلي الرغم من العلاقات الوثيقة بينها وبين عدد من الأجهزة النظيرة في بعض الدول العربية, فإن تلك العلاقات تقف غالبا عند حدود التعاون الثنائي, ومكافحة الإرهاب الدولي والإقليمي, وحماية المصالح الأمريكية تحت مظلة الدفاع عن المصالح المشتركة بين الطرفين, وليس مطلوبا بالطبع ممن يكون في حكم هذه الوكالة أن يصبح أداة للعرب, ولكن المطلوب فقط أن يكون أداة متوازنة لرعاية طويلة المدي للمصالح الأمريكية الباقية في هذه المنطقة من قلب العالم بجوانبها الاستراتيجية والاقتصادية والثقافية.
ثالثا:
إنني أتساءل في هذا المقال: لماذا يتجاهل تقرير دراسة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ماتحقق للجانب العربي بالفعل علي مسار الصراع مع إسرائيل منذ بداياته؟.. لماذا نركز دائما علي الخسائر ـ وهي كثيرة ـ ونتجاهل روح الصمود العربي عبر نصف قرن علي الأقل, وقوافل الشهداء في الحروب الأربعة الكبري والمواجهة الدامية مع سياسات إسرائيل العدوانية التوسعية؟.. إن العرب لم يرضخوا يوما, كما أن الفلسطينيين لم يستسلموا أبدا وبقيت القضية بكل رموزها وأبعادها هي قضية العرب الأولي يصحون عليها وينامون بها, بل إنني أحسب أن العرب في العقد الأخير بالذات قد تمكنوا من طرق الأبواب المغلقة لضمير العالم الحبيس, واستطاع الفلسطينيون أن يكتسبوا رداء الشرعية الدولية لمقاومتهم الباسلة, وأصبح عرفات يدق بقدميه أرضية البيت الأبيض في واشنطن علي قدم المساواة مع رئيس وزراء إسرائيل, إنني ممن يظنون أنه برغم كل سياسات إسرائيل الاستفزازية, وبرغم بعض مظاهر الانحياز الدولي والدعم الأمريكي المطلق لمواقفها, إلا أن العرب علي الجانب الآخر لم يكونوا جثة هامدة, أو حتي ظاهرة صوتية, ولكنهم ناضلوا بحق ودافعوا بشرف حتي بقيت القضية حية, ولم تتمكن إسرائيل من أن تحصد ثمار عدوانها وتوسعها وضربها بقرارات الشرعية الدولية عرض الحائط, كما أنني أري إسرائيل الآن عارية الثياب مفضوحة الوجه, حتي أنني أزعم أن الذين يدعمونها في العالم يدركون في أعماقهم خطأ سياساتها وعواقب تصرفاتها, إن المسافة طويلة بين محاولات القهر الإسرائيلي المستمر لشعب أعزل وبين الاعتراف الدولي بدولة فلسطينية عاصمتها القدس التي احتلت عام1967, وهي المسافة التي قطعها نضال ذلك الشعب بدعم عربي كامل حرم إسرائيل من حلم القضاء علي وجوده.
رابعا:
إن الديمقراطية تكتسب أرضا جديدة في الوطن العربي كل يوم, لكي تثبت خطأ المقولة الإسرائيلية الكاذبة بأنها واحة الديمقراطية والتحضر في صحراء الدكتاتوريات والأنظمة الفردية في العالم العربي.. وأستطيع أن أزعم هنا أن الديمقراطية العربية سوف تواصل مسيرتها الناجحة, ولن تأتي عقود قليلة مقبلة, إلا والعالم العربي ينعم في أغلبه بمشاركة سياسية واسعة, ومناخ ديمقراطي بدأت بوادره تطل علي الساحة العامة في عدد من الأقطار العربية.
خامسا:
إن روح المصالحة العربية التي ساعدت عليها التطورات الأخيرة في الأرض الفلسطينية المحتلة, وتراجع درجة العداء تجاه العراق, واكتمال وحدة الصف العربي في القمة العربية الأخيرة بالقاهرة أكتوبر2000 هي مظاهر تؤكد في مجملها أن العلاقات العربية ـ العربية يمكن أن تدخل مرحلة النضوج, وأن تبتعد عن أجواء المهاترات ومحاولات الاستقطاب وسياسات التشرذم, فضلا عن توجهات عصرية تتحدث بجدية عن السوق العربية المشتركة والتكامل الاقتصادي من أجل إقامة تكتل عربي واعد.
سادسا:
إن وجود اتجاه لدي عدد من الدول العربية وفي مقدمتها مصر والمغرب والسعودية, وربما أقطار أخري تمضي علي الطريق نفسه, يحاول تعظيم دور الحياة العصرية من خلال تطوير العلم وتوطين التكنولوجيا, والأخذ بالأسباب العملية للانتقال نحو آفاق جديدة للتقدم, إن هذا كله يمثل مؤشرات إيجابية نحو غد أفضل, بل إنني أري أن ما أشار إليه التقرير عن ثورة الإعلام العربي وانتشار الفضائيات باعتبارها مبررا للاضطراب السياسي والانقلاب علي النظم, أراه من جانبه الإيجابي علامة صحة ودليل انفتاح يمكن أن يمهد لتكريس مظاهر التطور وتعزيز أواصر التضامن والتعريف المتبادل بين الشعوب العربية, فضلا عن تأثيره الديمقراطي المتصل بحريتي التفكير والتعبير.
سابعا:
إنني ممن يعتقدون أن حركة التاريخ تمضي إلي الأفضل, ولأن الأمة العربية جزء فاعل من هذه الحركة عبر عصور التاريخ سواء في عهود انتصارها أو فترات انكسارها, ولذلك فإن التغيير الذي جري في بعض دول المشرق العربي أو مغربه لم يؤد إلي انتكاسة أو تراجع, بل قد يكون العكس صحيحا, لذلك فإنني أري أن الأردن والمغرب وسوريا وربما البحرين أيضا ـ وهي دول تبدلت زعاماتها بحكم قوانين الطبيعة وسنن الحياة ـ تتجه في مسارات إيجابية تمضي مع تيار الإصلاح والتوجهات التنموية الصحيحة وتوسيع دائرة المشاركة السياسية, وإن كانت تمضي بخطوات بطيئة وبصورة تدريجية.
إن تقرير دراسة المخابرات المركزية الأمريكية يثير عددا من القضايا والأفكار, حاولنا إيجاز بعضها من خلال الملاحظات السابقة, ولكن يبقي السؤال علي الجانب الآخر, وهو: ماذا عن الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها وغيرها من أقاليم العالم المختلفة؟ فالتقدم قضية نسبية, والتطور مسألة ترتبط بالزمان والمكان والظروف الدولية والإقليمية, وقد تكون الإيجابية الوحيدة لهذا التقرير هو أنه يسلم ـ ولو ضمنيا ـ بأن الفلسطينيين سوف ينالون حقوقهم المشروعة, إذ تقرر الدراسة المشار إليها أن الدولة الفلسطينية بعاصمتها في القدس سوف تكون قائمة قبل نهاية المدة الزمنية التي اختارها التقرير بشكل تحكمي لا تفسير له, وأعود فأتساءل مرة أخري: كيف يمكن أن ينال الفلسطينيون معظم حقوقهم, بينما نغمة التقرير كله تدور في دوائر السلبية والتراجع والإحباط والهوان؟.. ولكنني مع ذلك لست من هواة المضي الأعمي وراء أسلوب إلقاء التبعة دائما علي الوهم المطلق لنظرية المؤامرة الدائمة, كما أنني لن أكون هنا المتشائل, كما كان يطلق علي نفسه إميل حبيبي الأديب الفلسطيني الراحل, كما لن أكون المتفائم كما ذكر السيد عمرو موسي وزير خارجية مصر, ولكنني أتحدث عن يقين بروح التفاؤل ومنطق الإشراق عند استشراف مستقبل هذه المنطقة.
إن هذا التقرير في ظني هو واحد من القذائف الفكرية الموجهة إلي العقل العربي, الذي يجب أن يصحو دائما, وأن يفكر بلا غفلة, وأن يتفاعل بدون غيبة, وأن يمضي في طريق التحديث الفكري والسياسي, لكي تتبعه المسارات الأخري الساعية إلي مستقبل يليق بهذه الأمة, ويلبي حاجات أجيالها الجديدة, ويستجيب لنداءات شعوبها الناهضة.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2001/1/16/WRIT1.HTM