يواجه البشر في مراحل مختلفة من حياتهم اختيارات صعبة يقفون أمامها أحيانا, ويمضون في طريقهم بعيدا عنها أحيانا أخري, ولكن الذي يدعو للتأمل هو أن حرية الاختيار لا تتاح كثيرا لمن يريدونها, وعندما يجد المرء نفسه في مفترق الطرق فإن عليه أن يستعين برؤيته وشجاعته عند اتخاذ القرار وأن يمضي فيه كما يراه, فالاختيار مسألة نسبية قد لايدركها إلا من يمر بالتجربة ويتخذ الموقف الذي يتناسب معها, وأحسب أنني واجهت في الأسابيع الماضية شيئا من ذلك, واتخذت قراري بإرادة حرة وايمان كامل, وقررت الانتقال من العمل الدبلوماسي الذي أمضيت فيه قرابة خمسة وثلاثين عاما ما بين ديوان وزارة الخارجية ورئاسة الجمهورية وسفاراتنا بالخارج إلي العمل السياسي بكل متاعبه وهمومه وآفاقه, والذي يعنيني الآن هو أن أضع تجربتي الشخصية أمام اولئك الذين يبدأون مشوار حياتهم العملية ويواجهون حرية الاختيار عند نقطة البداية التي هي أيسر كثيرا من حرية الاختيار قرب نقطة النهاية!
فلقد تداخلت في بداية سنوات عمري عوامل وظروف هي التي رسمت الطريق الذي سلكته والمسار الذي مضيت فيه, ولعلي أوجز تصوري لرحلتي مع الوظيفة الدبلوماسية والاهتمام الأكاديمي والعمل العام في أمور ثلاثة هي: طبيعة الدراسة التعليمية أو جذور التكوين, ثم الطريق المهني أورحلة الطريق, ثم اختتمها بالملاحظات الإنسانية الذاتية, ولست أبغي من هذه السطور أن أشغل القاريء بتجربة شخصية, فهي أيضا خبرة إنسانية, كما أن الأمر يتجاوز حدود الذات لأنني أريد أن أضع أمام شبابنا بعض الملاحظات التي يجب أن تكون واضحة له, وهو يرسم طريق المستقبل, ويحدد نقطة البداية في رحلة الحياة ومقتبل العمر, خصوصا أن موضوع انتقالي من العمل كمساعد لوزير الخارجية إلي عضوية مجلس الشعب بالتعيين قد أثار تساؤلات لامبرر لها ولكنها جزء من سيناريوهات الرأي العام الذي لايمكن تجاهله.
جذور التكوين
لقد أمضيت السنوات الأولي من دراستي حتي الثانوية العامة متفوقا, وكنت الأول دائما علي فصلي ومدرستي ومنطقة البحيرة التعليمية, كما جاءت أمامي الفرصة بعد حصولي علي الثانوية العامة للالتحاق بإحدي كليات القمة ولاسيما أنني كنت ادرس بالقسم العلمي تخصص فيزياء, ولكنني آثرت اختيار كلية الاقتصاد والعلوم السياسية برغم أنها كلية وحيدة بالقاهرة لانظير لها في جامعة الإسكندرية القريبة من المدينة التي كنت أقيم فيها, فوفدت إلي العاصمة في مطلع الستينيات طالبا في تلك الكلية المرموقة التي مازالت تحافظ علي مكانتها حتي الآن لأنها لم تقع فريسة تداعيات مشكلة الأعداد الكبيرة, وقد انغمست أثناء دراستي الجامعية في النشاط الطلابي وكنت رئيسا لاتحاد طلاب الكلية وعنصرا فاعلا في جميع الأنشطة السياسية والوطنية في فترة المد الناصري والحلم القومي بكل مالها وما عليها, وعندما أنهيت دراستي الجامعية أصبحت عضوا في اللجنة المركزية لمنظمة الشباب الاشتراكي ومسئولا عن التثقيف السياسي لفرع القاهرة ـ وهي تجربة مثيرة للجدل مدعاة للخلاف في الرأي ـ ولم أكن قد بلغت الثانية والعشرين وقتها كما تم ضمي إلي التنظيم الطليعي الذي فصلت منه في إبريل1967 بسبب اتهامي بتبني توجهات قومية تختلف قليلا مع الفكر الناصري حينذاك, فصدر قرار جمهوري يتضمن نقلي من رئاسة الجمهورية التي عينت فيها فور تخريجي لكي أصبح ملحقا دبلوماسيا في وزارة الخارجية, عندئذ تغير المسار واختلف الطريق حتي جاءت نكسة يونيو1967 لكي تترك بصمتها القوية علي كيان جيلي كله عندما وقف عبد الناصر كالأسد الجريح يقود المقاومة الشجاعة في حرب الاستنزاف الباسلة حتي رحيله عام1970 حيث وصل الرئيس السادات إلي السلطة بتوجهات وطنية ذات مسار جديد, وكنت قد نقلت للعمل في القنصلية العامة ثم السفارة المصرية في لندن وهناك استكملت ـ في تجربة صعبة ـ دراسات للحصول علي الدكتوراه من كلية الدراسات الشرقية والإفريقية حول موضوع كان يثير اهتمامي منذ الطفولة, وهو ذلك الذي يتصل بتاريخ الأقباط, ودورهم في الحياة السياسية المصرية, وعدت بعد ذلك إلي القاهرة لكي أعمل مع الدكتور بطرس غالي وزير الدولة للشئون الخارجية حينذاك في إعداد الكتب البيضاء عن تاريخ الدبلوماسية المصرية ووثائقها المهمة منذ بداياتها, كما اشتغلت بالتدريس في الجامعة الأمريكية كأستاذ غير متفرغ بالتوازي مع عملي في وزارة الخارجية مشرفا علي أبحاث معهد الدراسات الدبلوماسية إلي أن نقلت إلي السفارة المصرية في الهند في نهاية السبعينيات وأمضيت بها أربع سنوات كان لها تأثيرها الضخم علي إدراكي لطبيعة المجتمع الدولي وفلسفة الحكم في عالمنا المعاصر, وعدت لكي أعمل في مكتب الدكتور أسامة الباز المستشار السياسي الحالي للسيد الرئيس حيث خضت بعد ذلك أكبر تجربة في حياتي العملية عند اختياري سكرتيرا للسيد رئيس الجمهورية للمعلومات والمتابعة.
رحلة الطريق
لايستطيع أحد أن يزعم أنني كنت دبلوماسيا تقليديا بالمعايير المهنية سواء أخذنا في ذلك بالقياس علي الجانب التمثيلي أو الاتصالي أو المعلوماتي حتي أنني رقيت بصفة استثنائية من درجة مستشار إلي درجة وزير مفوض, ولكن ظل العمل السياسي قابعا في أعماقي يتحرك من وقت إلي آخر يشدني نحو آفاق أرحب, بينما واصلت التدريس لطلاب الدراسات العليا بالجامعة الأمريكية في القاهرة, وظللت علي علاقة وثيقة بالصحافة المصرية من خلال المقالات المختلفة والدراسات المرتبطة بالواقع المصري والوضع العربي وأحداث الشرق الأوسط فضلا عن الإسهام الدائم في الندوات الفكرية واللقاءات القومية, ولم اسمح في أي فترة من فترات عملي الدبلوماسي أن يجور النشاط العام علي حرفية الوظيفة ومقتضياتها لذلك تميز ادائي كسفير لبلادي في جمهورية النمسا وغير مقيم في دول ثلاث مجاورة هي سلوفاكيا وسلوفينيا وكرواتيا مع شرف تمثيل مصر في المنظمات الدولية المتعددة في فيينا وأهمها الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعيةاليونيدو, كما اقتربت من الجاليتين المصرية والعربية هناك بشكل غير مسبوق, وتركت قلاعا ثلاثا تتوسطها مسلة فرعونية هي المقر الحالي الذي يليق ببعثة مصر في تلك العاصمة الأوروبية المتألقة, ويقينا مني بأن فيينا هي واحدة من أهم مدن الثقافة الرفيعة في العالم, فقد جعلت الرسالة الحضارية للبعثة المصرية موضع الحديث وبؤرة الاهتمام باعتباري ممثلا لأقدم حضارات الأرض, وأعرقها حتي منحتني الحكومة النمساوية ـ خروجا علي المألوف ـ وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولي وهو لا يمنح للسفراء ولكنه يمنح للمثقفين والمفكرين, بل إن الحكومة النمساوية عادت لتقرر منحي هذا العام واحدا من أرفع أوسمتها وهو الوسام الفضي للدولة النمساوية, وهو قرار آخر غير مألوف أيضا أن تمنح دولة أجنبيا وسامين في عامين متتاليين, ولكن يجب أن أعترف هنا بوضوح أن فترة عملي في سكرتارية السيد رئيس الجمهورية وقربي منه قد وضعتني في دائرة الضوء أكثر من أي عامل آخر, لأن المحيطين به يستمدون الجزء الأكبر من قيمتهم من خلال التشرف بالعمل في الدائرة القريبة منه, وقد اتسع صدره دائما وتجلت سماحته الفكرية في إعطائي الفرصة كاملة لكي أتحرك في الحياة العامة والمنتديات الثقافية والندوات السياسية محاضرا ومشاركا بغير حدود سواء كان ذلك في فترة عملي معه أو عند خروجي من مؤسسة الرئاسة منذ أكثر من ثماني سنوات بعد ثمان أخري شغلت فيها موقعي بها.
وعندما عدت من النمسا وبدأت عملي الأخير كمساعد لوزير الخارجية للشئون العربية والشرق الأوسط ومندوبا دائما لمصر لدي جامعة الدول العربية فإن دوري تطابق إلي حد كبير مع اهتماماتي القومية المتواصلة, وانشغالي بالهموم العربية منذ مطلع حياتي السياسية, ومع ذلك ظللت أشعر دائما أن الوظيفة الدبلوماسية تمثل قيدا ـ ولو محدودا ـ علي حركتي الثقافية واهتماماتي الفكرية فلم يكن من حقي الانضمام لحزب سياسي أو خوض انتخابات برلمانية أو محلية وفقا لقانون السلك الدبلوماسي المنظم لطبيعة تلك المهنة الراقية ومقتضياتها المختلفة لذلك أبديت استعدادي في الفترة الأخيرة للاكتفاء بذلك القدر من العمل الدبلوماسي والانضواء في العمل السياسي بعد خدمة استمرت سنوات طويلة خصوصا أنه لم يتبق أمامي علي سن التقاعد إلا اربع سنوات لم أكن أنتوي خلالها قبول منصب سفير في الخارج مرة أخري.
وعندما شرفني السيد رئيس الجمهورية باختياري عضوا بالتعيين في مجلس الشعب الحالي قبلت بغير تردد مضحيا بالوظيفة الدبلوماسية المرموقة وبريقها اللامع. وبرغم أن الاختيار كان صعبا إلا أن القرار كان واضحا, أعرف تبعاته وأدرك نتائجه, مؤمنا بأن الإنسان هو الذي يعطي موقعه قيمته وليس هو الموقع الذي يعطي الإنسان مكانته.
ملاحظات إنسانية
إن تأمل السنوات الأربعين الأخيرة يؤكد أن ذلك الجيل الذي سميته في مقال سابق تحت عنوان الجيل المسروق وشبهته فيه بالطابق المسحور في الأبنية الضخمة والذي لايقف عنده المصعد لأنه يضم التجهيزات الفنية ووصلات الكهرباء الخاصة بالمبني الكبير, أقول إن تلك الصورة لم تكن تجسد فقط إحباط جيل ولكنها تجسد أيضا رغبته في أن يشارك بفاعلية في الحياة العامة كما تؤكد ما يمكن أن نطلق عليه مفهوم دوران النخبة أو الحراك السياسي, وكلاهما يمثل عنصرا مهما في الصحة النفسية للمجتمعات والاستقرار المؤسسي للدول, والذي يعنيني قوله في هذه المرحلة هو أن الإنسان يمكن أن يخطط لحياته ويضع مسبقا خريطة مستقبله ولكن تبقي في النهاية لعبة القدر الذي يتدخل ليغير المسار ويحدد الطريق مهما تكن العقبات والتحديات أو الاجتهادات.
ولعل في هذا الموجز مايمكن أن يؤكد عددا من الحقائق وهي:ـ
1ـ إن علي الإنسان أن يحزم أمره وأن يختار طريقه مادام يعتمد علي رصيد من العمل ويتطلع إلي مزيد من الجهد.
2ـ إن الحركة الأفقية علي ساحة العمل العام قد تكون قيمة إضافية للفرد ولكنها قد تأتي أيضا علي حساب الاهتمام الرأسي بتخصص واحد.
3ـ إن تقدير الناس للوظيفة الحكومية أكبر بكثير علي ما يبدو من تقويمهم للعمل السياسي, لذلك لم يكن غريبا أن يستقبل كثير من اصدقائي وزملائي قراري الأخير بالانتقاد والدهشة وتأرجحت ردود فعلهم بين الحماس الحذر ونغمة الإشفاق ومسحة التعاطف.
إن العمل السياسي استكمال طبيعي للعمل الدبلوماسي فكلاهما يمضي في خدمة وطن واحد, ووفقا لرؤية مشتركة والعلاقة الارتباطية بينهما قائمة علي امتداد فترات تاريخنا الوطني كله حتي أن الناس يطلقون علي الجهاز الدبلوماسي تعبير السلك السياسي تمييزا له وتقديرا لدوره, ولعلي أقرر هنا أنني مرتاح لأنني مارست حق الاختيار عندما أتاحت لي الظروف فرصة ذلك, ولست أبغي من هذا الانتقال إلا أن أكون صادقا مع النفس, واضحا مع الذات, متسقا مع جوانب مختلفة في رحلة العمر بكل ما أحاط بها من مرارة وحلاوة, وما أصابني خلالها من نجاح وإخفاق, وما تحقق معها من إنجاز أو تراجع, فالذين يريدون حياة مضمونة بالكامل إنما يراهنون علي الوهم ويكتبون علي الماء, ويحصدون الهشيم, وعلي الإنسان أن يؤمن دائما بأن العمل وحده هو الطريق إلي الأفضل له ولمن حوله, كما أن الإنسان لن يحقق أبدا كل ما يريد إذ إن محصلة المعادلة البشرية واحدة في النهاية لأنها تعتمد علي مقدار ثابت من نقطة البدء حتي محطة النهاية, فليس منا من عاش الدهر كله أو عاش في كل مكان.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2001/1/2/WRIT2.HTM