سوف يسجل تاريخ الحياة النيابية المصرية أن بداية هذا القرن قد شهد قفزة نوعية في مسيرة الديمقراطية المصرية بالإشراف الكامل للقضاء علي الانتخابات البرلمانية الحالية, وقد يتصور البعض أن مجرد قيام القضاة بالإشراف علي العملية الانتخابية من بدايتها إلي نهاياتها هو مجرد خطوة انتقالية لاتعني الكثير بينما يحمل الأمر في دلالته ماهو أكبر بكثير من مجرد النظرة العابرة لأن ماحدث هو خدمة جديدة قدمتها السلطة القضائية للسلطة التشريعية في ظل ظروف بالغة الأهمية وشديدة الحساسية من تاريخنا السياسي المعاصر,
وقد أثار دافعي للتطرق لهذا الموضوع ماشعرت به عندما كنت ومجموعة من الأصدقاء مدعوين علي عشاء ووصل النائب العام المساعد متأخرا ـ وهو صديق أعتز به لسنوات طويلة وعرفت منه أنه عائد لتوه من اجتماعات مطولة مع النائب العام انصرفت فيها الجهود المضنية لعملية الإعداد للإشراف القضائي علي المراحل المختلفة للانتخابات البرلمانية, وقد أدركت حينذاك أن القضاء المصري يضيف فضلا جديدا إلي أفضاله السابقة علي الحياة السياسية في مصر ولا يصدر هذا الحديث من فراغ فقد كان القضاء ـ الجالس والواقف ـ هو مستودع قيادات الحركة الوطنية المصرية ومصدر قياداتها المتجددة بدءا من مصطفي كامل ومرورا بسعد زغلول ثم وصولا إلي مصطفي النحاس, وفي ظني أن هذه العلاقة الوثيقة بين السلطتين القضائية والتشريعية هي واحدة من أبرز النقاط المضيئة في التاريخ السياسي المصري الحديث, وأعود الآن لأسجل بالامتنان الكامل عرفان الوطن بتلك الخدمة الرفيعة التي قدمها قضاة مصر للعملية الانتخابية في مدن مصر وقراها وفي كفورها ونجوعها علي امتداد خريطة الوطن بأكمله, ولعل ذلك يثير في ذهني أفكارا وملاحظات رأيت أن يكون توقيت هذا المقال مناسبة لذكرها:
أولا: إن مايقوم به قضاة مصر من إشراف كامل علي العملية الانتخابية الحالية قد أضاف لهيبة الدولة المصرية ما تستحقه من مكانة ومايليق بتاريخها من تقدير, فهيبة الدولة تأتي من ظواهر مختلفة تبدأ بنزاهة الانتخابات وتراجع الفساد حتي تصل إلي انضباط الشارع وصلاحيات جندي المرور لتعكس نتائجها علي حيوية النظام السياسي ذاته وقدرته علي التجدد والدفع بأجيال جديدة إلي ساحة العمل العام, إنها منظومة متكاملة تبدأ من بعض الأمور الصغيرة وتنتهي بالأمور الكبيرة ولاشك أن تجربة الإشراف القضائي علي الانتخابات النيابية المصرية قد أضاف إلي رصيد السياسة والحكم في مصر إيجابية جديدة انخفضت معها مظاهر البلطجة واستخدام الأساليب التي تليق بالحياة النيابية السليمة.
ثانيا: لقد انعكست مظاهر الجدية في انتخابات مجلس الشعب الحالية علي صورة مصر في الخارج بشكل يدعو إلي الرضا والارتياح, فلقد أقبلت الصحافة العربية والأجنبية علي نشر أخبارها بنغمة يشوبها الاحترام مع التحدث عنها بصورة لاتخلو من تقدير وتلك علامات جديدة تؤكد أننا قد اخترنا الطريق الصحيح في مصر لأنه لا يوجد ماهو أسوأ من تزييف الانتخابات أو تزوير النتائج سببا لتشويه صورة بلد معين ووضعه في دائرة التخلف الفكري والفساد السياسي, ولقد تعودت المنطقة العربية أن تنظر إلي مصر وهي النموذج الباهر في مختلف نواحي الحياة, ولاشك أن تاريخ الديمقراطية في مصر يمثل واحدا من نماذج الإبهار التي تكونت من خلالها شخصية مصر الحديثة في المنطقة كلها, وسوف يصبح من حقنا أن نفاخر بوجود برلمان مصري منتخب علي نحو لا تشوبه شائبة ولايأتيه الباطل من أي اتجاه.
ثالثا: تثبت الانتخابات البرلمانية الأخيرة ضعف النظام الحزبي في مصر وبروز ظاهرة المرشح المستقل الذي حصد عددا لا بأس به من دوائر مصر الانتخابية في شمالها وجنوبها, ولعل هذا يدعونا إلي التأمل في تاريخ النظام الحزبي المصري حيث لانعرف له شعبية واضحة إلا من خلال حزب الوفد في فترة مابين الثورتين(1919 ـ1952) لأنه كان يمثل وعاء الحركة الوطنية بكاملها والثوب الفضفاض الذي يحتوي كل التيارات الساعية إلي الاستقلال والمطالبة بالدستور, ولاشك أن الانتخابات الحالية هي مؤشر كاشف عن نقائص النظام الحزبي في مصر وضعف برامجه واختلاط توجهاته واعتماده علي الأشخاص أكثر من اعتماده علي البناء التنظيمي السليم والفكر الواضح, فضلا عن أن الأحزاب لاتعكس بالضرورة القوي السياسية للشارع المصري فهي في معظمها امتداد لمراحل تاريخية مضت لاتملك نظرة للحاضر ولاتعبر عن رؤية للمستقبل, ولقد جاءت نتائج الانتخابات الأخيرة مخيبة إلي حد كبير للاختيارات الحزبية التي سبقتها, إذ إن النتائج تؤكد أن الأحزاب لم تكن موفقة بصورة كافية في إعمال معياري الشعبية والكفاءة عند اختيار مرشحيها, فالمستقلون يمثلون تيارا جديدا في مجلس الشعب القادم وهو تيار مؤيد للرئيس ونظام الحكم بغض النظر عن الانتماءات الحزبية في وقت لاتملك فيه معظم الأحزاب القائمة مشروعا وطنيا واضحا مقارنة بما قامت به الدولة في العقدين الأخيرين, ولعل هذا يدعو الأحزاب المصرية ـ بغير استثناء ـ إلي مراجعة بنائها التنظيمي وكوادرها السياسية والقيام بعملية ذكية وواعية للإحلال والإبدال تستطيع بها أن تعايش الواقع الجديد وأن تستوعب نتائج التجربة الأخيرة.
كما أن أسلوب اختيار مرشحي كل حزب أصبح يحتاج هو الآخر إلي عملية تغيير في التفكير والأسلوب إذ انتهي ذلك الوقت الذي كانت فيه الاختيارات تركز علي شخوص ثابتة وأسماء مكررة وأصبح من المتعين علي الأحزاب السياسية المصرية أن تقدم برامج سياسية ذات جاذبية للجماهير, وأن تطرح حلولا للمشكلات الاقتصادية التي تهم الناس, وأن تتوقف عن كل مظاهر الادعاء السياسي بغير مضمون, وأن تكف عن ترديد البرامج المتشابهة دون تجديد.
رابعا: لقد كان من نتائج العملية الانتخابية الجديدة توافد المواطنين والمواطنات علي مراكز الاقتراع بنسب متقدمة بالمقارنة بما مضي والسبب في ذلك أن نزاهة الانتخابات وحيدة المشرفين عليها قد أدت إلي استقطاب المواطنين تجاه العمل السياسي واستعادة ثقة الناخب في العملية الانتخابية, وسمحت بنجاح عناصر لم يكن من الممكن أن تطأ أقدامها أروقة مجلس الشعب الجديد ما لم تكن العملية الانتخابية بهذا القدر من السلامة والنزاهة مقارنة بمعظم الانتخابات السابقة, ولاشك أن ماحدث سوف يفتح باب المشاركة السياسية في مصر علي نطاق واسع وبصورة كبيرة ربما لم تعبر عنها الانتخابات الحالية بالقدر الكافي ولكن الأمر الذي لاشك فيه هو أن الانتخابات البرلمانية بعد خمس سنوات سوف تكون هي الصورة المشرقة بالكامل في حياتنا النيابية حيث تكون تجربة الإشراف القضائي علي الانتخابات قد تركت بصماتها الإيجابية لدي المواطن المصري كما استقر المفهوم الجديد لنزاهة الانتخابات في ضميره ووعيه لذلك فإنني أتوقع أن تستقطب الانتخابات البرلمانية القادمة أفضل العناصر للترشيح وأصدق التوجهات في التصويت, إن ماحدث أمر يجب عدم الاستهانة به أو الإقلال من شأنه لأنه يعبر عن عودة الروح للسلطة التشريعية الضاربة بجذورها في أعماق القرن التاسع عشر منذمجلس شوري القوانين.
خامسا: إن القضاء المصري قد قدم خدمة جليلة لوطنه واجتاز الاختبار بنجاح ملموس, وقد كان الكثيرون يشفقون عليه من هول التجربة وصعوبة ملابساتها ولكنه أثبت للجميع أن قضاء مصر الشامخ هو رصيد حي للوطن ومدعاة للاعتزاز الدائم علي مر العصور, ولاشك أن هذه الخطوة غير المسبوقة قد أثبتت أن السلطة القضائية قد أسهمت بشكل رفيع في استقرار السلطة التشريعية وتثبيت أركانها, فإذا كنا تحدثنا في دراسة القانون الدستوري عن مبدأ الفصل بين السلطات فدعنا الآن نتحدث في العلوم السياسية عن ظاهرة التواصل بين تلك السلطات.
ولعلي أضيف هنا أن وعي الشعب المصري هو الذي أعطاه الإدراك الفوري لحجم التغيير الذي حدث, ونوعية الإنجاز الذي تحقق, ولعل هذه الخطوة علي طريق الديمقراطية الحقيقية هي استجابة لمطلب التوجه نحو الإصلاح السياسي والدستوري بعد أن قطع الإصلاح الاقتصادي شوطا كبيرا, ومضي الإصلاح الاجتماعي علي بداية طريق جديد منذ المؤتمر القومي للتنمية الاجتماعية هذا العام, إذ إن اتساع دائرة المشاركة السياسية وفتح أبواب المستقبل أمام الأجيال الصاعدة كلها ركائز للمجتمع المستقر ومقومات للوطن المتقدم.
لقد كان يؤرقني ـ مثل غيري ـ ماكنت أراه من اهتمام الصحافة العالمية بالانتخابات في مناطق مختلفة من العالم مع تجاهل واضح للانتخابات السابقة في بلادنا ولكني أشعر اليوم والانتخابات المصرية الأخيرة قد استقرت علي خريطة الديمقراطية المتزايدة ووجدت مكانها علي قائمة الحريات في عالمنا المعاصر أشعر بأن العقدة في طريقها للحل وأن النظام السياسي في مصر قد اكتسب بفضل السلطة القضائية وبقرار شجاع من رئيس الدولة مكانة راسخة وقيمة عالية وأضاف إلي صدر مصر وساما جديدا ترصع به جيدها وتباهي غيرها, وقد ظلمت الأحداث الدامية في الأرض الفلسطينية المحتلة الانتخابات البرلمانية المصرية الحالية وسحبت منها قدرا كبيرا من الضوء الذي تستحقه والاهتمام الذي يجب أن تناله, ولكن ذلك لن يحرمها أبدا حق الإشادة بها وإنصاف الحكم عليها باعتبارها سابقة ديمقراطية سوف تظل في ذاكرة الأمة طويلا, وهذه أمور تدعونا كلها لكي نقول بكل الاعتزاز القومي والزهو الوطني أن السلطة القضائية قد أضافت إلي أمجادها, وأن السلطة التشريعية سوف تعيش أفضل أيامها.
جريدة الأهرام
http://moustafaelfeki.com/ar/press/list/article?page=118