أسأل نفسي كثيرا ـ في حوار صامت مع الذات ـ ما هي جدوي ما نكتب؟ إن البعض هو الذي يقرأ, وبعض البعض فقط هو الذي يقرأ قراءة كاملة تتجاوز العناوين, أخذا في الاعتبار أننا نكتب بلغة يعاني أكثر من نصف من يتحدثونها من أمية القراءة والكتابة بها, إن النتيجة تبدو في النهاية محدودة التأثير لا تعدو أن تكون فرقعة بين المثقفين في كثير من الأحيان, أو كتابات عابرة ينتهي تأثيرها بمجرد الفراغ من قراءتها خصوصا أنها تعتمد غالبا علي الحوار من طرف واحد, ولا تتطرق لأسلوب الحركة الواسعة علي امتداد مساحة رحبة من الفكر الخلاق والرؤية المتكاملة, وهو أمر يدعو في النهاية إلي التأمل العميق رغبة في الوصول إلي مستوي تصبح به الكتابة طرفا فاعلا في حركة المجتمع وفكر البشر وبناء الدولة, إنها محاولة لتوسيع دائرة الحوار لأن نسبة من يقرأون الصحف في بلادنا لا تزيد علي عشرة بالمائة من مجموع السكان في أحسن التقديرات فضلا عن نوعية القراءة ذاتها, هل هي عابرة سطحية أم عميقة تفصيلية؟ من هنا تبدو قيمة التساؤل حول جدوي الكتابة في بلادنا باعتبارها مسألة تحتاج إلي ضوابط وأصول لكي تحقق بعضا من أهدافها الحقيقية, ويمكن أن نسهم هنا في ذلك ببعض الملاحظات منها:
أولا: إن نسبة الأمية في المجتمع المصري مازالت عالية ورغم كل الجهود المبذولة في هذا الميدان فإن معدل انحسار ذلك العائق الضخم مازال دون المطلوب, ومازالت هناك ملايين يقترب عددها من نصف سكان مصر تعاني من وطأة الأمية كما تستأثر المرأة بالنصيب الأكبر من ذلك خصوصا في ربوع الريف لأسباب تتصل بالقيم السائدة والأفكار المتوارثة التي مازالت تجعل للصبي ميزات كثيرة يتفوق بها علي شقيقته, ومسألة الأمية التي حاولت الدولة علاجها من خلال هيئة مستقلة علي المستوي القومي مازالت تحتاج في المقام الأول إلي مزيد من الجهود الطوعية والمبادرات الذاتية, وإمكانية تجنيد طاقات الشباب المتعلم لمحو أمية أقرانه من أبناء وبنات وطنه, فتلك خدمة لا تقل قيمة وشرفا عن الخدمة العسكرية ذاتها, ويكفي أن نتأمل مسيرة الانسان الأمي من مولده إلي مماته لندرك أن حياته هي سلسلة متصلة من الحرمان الحقيقي من كل مصادر المعرفة ومنابع العلم وروافد الثقافة, انه إنسان معزول بمعني الكلمة يكاد يكون عبئا علي سواه فضلا عن معاناة داخلية تجعله دائما في زاوية الاهمال والنسيان, وبذلك فإن الكتابة لا تصل إلي هذا القطاع العريض من الناس الذي يبدو مستبعدا بصورة دائمة من متعة القراءة أو ميزة الكتابة.
ثانيا: لقد عرفت مصر في السنوات الأخيرة معدلا عاليا من الندوات الفكرية والمحاضرات العلمية والمناسبات الثقافية حتي أن البعض أصبح يري أن مدينة الألف مئذنة قد أصبحت مدينة الألف ندوة! ولا شك أن حصاد ذلك الكم الكبير من الجهد الفكري والعمل الثقافي يجب أن يتحول الي عائد ملموس يصل إلي القطاعات المحرومة ثقافيا من أبناء الوطن, وهو ما لا يحدث حتي الآن, فالسلعة الثقافية ليست سلعة متاحة للجميع, ولكنها تصل فقط إلي أولئك الذين يستطيعون تداولها والتعامل معها ونقلها لغيرهم, وما أكثر المناسبات الثقافية التي تنتهي بانتهاء وقتها, ولا تترك أثرها خارج النطاق الذي جرت فيه, وسبب ذلك في ظني أننا لا نحرص علي الخروج من كل مناسبة بنتائج محددة تكون مادة للحوار العام أو تمثل محاولة للتحريض علي فكر جديد.
ثالثا: إن الكتابة تتصل بالدرجة الأولي بقضية حرية التعبير, والكاتب الذي يسطر حروفه وهو محاط بالمحاذير ومناطق الحظر يشعر بالعجز الحقيقي, وتصبح كتابته في النهاية شيئا بلا لون أو طعم أو رائحة, ذلك أن معظم من يكتب في بلادنا لا يستخدم الهامش المتاح للحرية بل يتطوع أحيانا بالانكماش في حيز محدود طلبا لمنفعة, أو درءا لضرر, وهذه قضية جوهرية تستحق الدراسة وتحتاج إلي مراجعة, فلقد اكتشفت في كثير من الكتابات أنه لو كان المسموح به وفقا للظروف السياسية والثقافية, أو لاعتبارات تتصل بالأمن القومي وسلامة الدولة يصل الي خمسة وسبعين بالمائة فإن بعض المثقفين يتحركون في دائرة لا يتجاوز قطرها خمسين بالمائة فقط مما هو متاح, وتفسير ذلك هو في النهاية أمر يتعلق بالمواريث والتقاليد والقيم, فالكثير يفضلون التحرك في أحضان السلطة أو اللعب علي المضمون برغم أن المتروك قد لا يكون محظورا بشرط أن يكون الهدف صادقا, وأن تكون الغاية واضحة.
رابعا: إن كثافة المادة الاعلامية وتعدد مصادر المعلومات وتنوع موارد الثقافة قد صنع زحاما علي امتداد مساحة الكلمة المقروءة أو المسموعة, وهو أمر أدي بدوره إلي زيادة عبء استقبال الرسالة بجميع أنواعها خصوصا أن ذاكرة الانسان أصبحت مثقلة بأحمال تزيد علي طاقتها في عصرنا, كما أن ذاكرة العوام لا تمتد لأكثر من عدة أيام, كما قال مؤرخ مصري في القرن التاسع عشر, لذلك كله تصبح الكتابة جهدا غير مضمون العائد في زمان ازدحمت فيه الأفكار, وتداخلت الرؤي, وتشعبت المواقف.
خامسا: إن الصحافة تمثل ركيزة أساسية للكلمة المكتوبة, والذين قالوا إن لكل زمان آية وآية زماننا الصحافة لم يبالغوا كثيرا, فهي لم تعد فقط سلطة رابعة, ولكنها تجاوزت ذلك الي دور فاعل في تكوين ظاهرة الرأي العام حيث لاتزال للكلمة المكتوبة مهابة واحترام, كما أن النشر أصبح واحدا من أبرز الصناعات الثقافية في عالم اليوم, وأصبحت خطورة العمل الثقافي أضعاف ما كان عليه من قبل مع تناقص معدل الأمية وتزايد مساحة الحرية, وهو أمر يغري بالكتابة من جانب, ولكنه يثير التساؤل حول جدواها من جانب آخر خصوصا أن الصحافة لم تعد فقط هي ما يكتبه الصحفيون المحترفون أو الكتاب المتخصصون, ولكنها امتدت لأكثر من ذلك لكي تشمل ما يكتبه العامة,
كما انتقلت الصحافة علي نطاق واسع من مرحلة الخبر الي مرحلة الرأي خصوصا أنها تعيش منافسة شديدة مع مصادر الاعلام الأخري التي قد تسبقها في المعلومة, وتتفوق عليها في سرعة نقل الانباء.
سادسا: إن الرغبة في الحوار تحتاج إلي قدرة عليه وإمكانية له, وترتبط بمناخ سياسي معين وظروف اقتصادية وسياسية سائدة, ولا يمكن أن يصبح الحوار منحة فوقية أو قرارا سياديا, ذلك أنه يرتبط بثقافة الديمقراطية ذاتها واعتمادها كأسلوب للتعامل وطريقة للحياة علي مستوي الأسرة ثم المجتمع ثم الدولة.
سابعا: لقد وفدت علي مجال الكتابة نوعيات جديدة من كل حدب وصوب, واختلط الحابل بالنابل, وأصبح علي من يريد الكتابة المقروءة أن ينقب في ركام ضخم يستمد منه الخيوط ويستلهم به الأفكار لكي يقدم مادة مختلفة تبرر مسعاه فيما يكتب, وهو أمر يحتاج الي متابعة دائمة, والمام كاف بكل ما تصدره المطابع التي تبدو كالوحش فيما تنشر, وكالغول فيما تنتظر من كتابات.
لقد أردت من هذه السطور أن أتساءل عن عائد ما نكتبه وجدوي الاستغراق فيه؟ وهل توجد هناك ضوابط محددة يمكن اللجوء اليها عند البحث في محاولة جادة لتحويل الحديث من طرف واحد الي حوار مزدوج التأثير يسمح بمنطق الأخذ والرد ويفتح الباب لنقاش واسع حول القضايا المختلفة؟ فهل نستطيع أن نفكر في هذا الشأن مضيا علي عدد من المحاور نحدد منها:
(1) إن اتساع مساحة الحريات الفردية وفي مقدمتها حرية التعبير هو أمر يجعل للكتابة جدواها الحقيقي, إذ أن تحرك الكاتب دون حواجز أو مصدات يجعل مصداقية حقيقية أمام نفسه وأمام قارئه, أما الكتابة في قوالب جامدة وترديد منولوجات واهية فهي المقدمة الطبيعية لضرورة التوقف واحترام عقل الغير, فالحرية ليست طريقا للمصداقية فقط ولكن للجودة الحرفية أيضا, فالكاتب المتميز لايظهر معدنه, ولا يتألق ضياء كلماته, إلا في أجواء الحرية وتحت شمسها الساطعة.
(2) إن الخلفية الثقافية لمن يمسكون بالقلم ويسهمون في تشكيل عقلية أجيال قادمة تعتبر هي الأخري مسألة حيوية حاكمة في تحديد الاجابة عن جدوي الكتابة من عدمها, فالملاحظ في السنوات الأخيرة أن جزءا كبيرا من أزمة الكتابة في بلادنا لايعود فقط الي ضعف مصداقية بعض من يكتبون ولكن أيضا لنقص كفاءتهم, وانخفاض قدرات معظمهم مع قدر من الضحالة الفكرية والفقر الثقافي.
(3) إن حجم الفرص المتاحة أمام كل ذي قلم تبدو هي الأخري مبررا لجدوي الكتابة ذاتها, لذلك فإن( صفحات الرأي) وأبواب( الي المحرر)و( بريد القراء) وغيرها مما تنشره الصحف اليومية أو المجلات الأسبوعية قد أصبحت جزءا لايتجزء من شخصية الصحيفة أو المجلة, وهذه ليست وظيفة جديدة للصحافة, إذ أن مشاركة القراء في اعداد مادة الكتابة أمر مألوف منذ ميلاد الصحافة وفجر نهضتها الأولي, وكلما ازدادت مساحة ما يكتبه القاريء من مادة صحفية كان ذلك دليلا علي شعبيتها وتأكيدا لمصداقيتها.
إننا نقرأ أحيانا مقالا يحتوي من الآراء والاجتهادات ما يثير الجدل ويستحق النقاش ويحرض علي الحوار, ولكن المفاجأة تكون دائما أن المقال يمضي بلا رد فعل وكأننا نعيش في وادي الصمت, أو أن الكتابة أصبحت كالنقش علي الماء أو الحرث في البحر حسب التعبير الشهير.. وتفسير ذلك لا يخرج عن حالة السلبية التي تجتاح الانسان المعاصر لا في بلادنا وحدها ولكن في العالم كله خصوصا في عصر الاعداد الهائلة لملايين البشر, إلي جانب الاحساس أحيانا بمصاعب النشر وعدم جدوي الكتابة, وهذا هو جوهر القضية, إذ أن غياب الحوار يسلب الكتابة المعاصرة جزءا كبيرا من قيمتها, ويحيل سطورها الي مادة صماء تفتقد الحيوية ويعوزها نبض الفكر وتنقصها القيمة الحقيقية لعائد الكتابة ومبرر وجودها, والمدهش في النهاية أن الكم من المشكلات التي تعرفها بلادنا يستوجب دائما درجة عالية من يقظة القلم ووعي صاحبه, ويستدعي أيضا اعادة النظر في مصداقية الفكرة وشرف الكلمة, فالاتجار بالافكار المكررة وترديد المفاهيم المستهلكة أصبحا عبئا علي الكتابة المعاصرة التي يجب أن تسعي الي التجديد الفكري والابتكار الثقافي دون الوقوف أمام مظاهر الجمود أو الاستغراق في صنع القوالب أو تمجيد الشخوص أو البكاء علي أطلال التاريخ المجيد, فالدنيا تتحرك بسرعة, والعالم يتقدم بوعي, والكتابة إن لم تكن إضافة إيجابية فهي بالضرورة ملهاة سلبية, ولن تتحقق جدواها بغير هدف واضح وضمير شجاع, في ظل مناخ من الحرية التي هي أغلي مقدسات الإنسان وأرقي صفاته منذ لحظة ميلاده.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2000/6/27/WRIT1.HTM