مع قدوم ذكري ميلاد رسول الاسلام صلي الله عليه وسلم يحسن أن نتأمل مراسم الاحتفالات المصرية بالمناسبات الدينية خصوصا أننا من أكثر شعوب العالم تدينا وأشدها تمسكا بالقيم الروحية, فقد آلت الينا طقوس اجتماعية ترتبط بالمجتمع الاسلامي يرجع أغلبها الي العصرين الفاطمي والمملوكي وإن كانت جذور التدين المصري تضرب في الاعماق السحيقة للتاريخ, حتي أنه عندما خرج الاسكندر الأكبر غازيا يحمل علي كاهله آمالا عريضة في اقامة إمبراطورية كبري تبدأ قاعدتها من مصر, نصحه كبار القادة والمستشارين بأن يتجه أولا الي معبد آمون في سيوة لعله يتقرب الي الشعب المصري الذي يمر الطريق الي قلبه بديانته, وكرر ذات التوجه نابليون بونابارت بعد ذلك بعشرات القرون, عندما جاء الي مصر علي رأس حملته الفرنسية مدفوعا يأحلام واسعة في إمبراطورية كبري, وقتها وزع منشوره الشهير الذي يتحدث عن احترامه للاسلام, نبيه معلنا أن هدفه فقط هو تخليص المصريين من ظلم المماليك وحكم العثمانيين.
ولقد أردت بتقديم هذين النموذجين أن أؤكد منذ البداية ادراكي العميق بأهمية الدين لدينا في مصر بحكم انتمائنا لحضارة ذات فلسفة عميقة اهتمت كثيرا بالموت واستعدت أكثر للحياة الثانية بعده, فكانت الأهرام والمعابد رموزا لفك أكبر لغز في حياة البشر حتي أن المصريين وصلوا الي منطق التوحيد قبل أمم الأرض كلها عندما اكتشفوا أن وحدة الكون وثوابت حركته وانتظام دورته لابد أن تشير الي خالق واحد هو الأحق بالعبادة والتقرب والطاعة, ولم يكن وصول اخناتون الي هذا المفهوم الرائع الذي سبق وصول الرسالات السماوية إلا تعبيرا عن عمق الاحساس الديني لدي المصريين وتأكيدا لارتباطهم الشديد بدياناتهم.
وأينما نولي وجهنا نجد أن لمصر دورا دينيا بارزا, ويكفي أنها وطن تردد ذكره في القرآن الكريم خمس مرات صراحة, وهي أيضا وطن قدم المسيحية للعالم في بساطتها ونقائها وحافظ للكنيسة القبطية علي تقاليدها الأولي بغير تغيير, بينما لعب الأزهر الشريف دوره التاريخي الضخم الذي لا ينازعه فيه أحد واستمر لأكثر من ألف عام منارة مضيئة تهتدي بها الأمم والشعوب, ويأخذ عنها العلماء والفقهاء, ويتطلع اليها المسلمون من المشرق والمغرب حيث ظلت أروقته الرحبة وبقيت منائره الشامخة تحمي الاسلام الحنيف وتدافع عن علومه وتنشر ثقافته الانسانية الرائعة, لذلك كان طبيعيا أن يكون للاسلام مذاق خاص علي أرض مصر الطيبة, إذ يصلي الفلاح المصري في خشوع علي ضفاف النهر الخالد معتزا بدينه راضيا عن حياته متطلعا الي غده, ولكن- والأمر كذلك- لابد لنا من وقفة نحاول فيها مناقشة بعض الظواهر التي وجدت علي الساحة الدينية في مصر خلال السنوات الأخيرة وتركت آثارا جديدة لم يكن لها وجود علي هذا النحو منذ عقود قليلة, حيث جري استخدام واسع للدين بغير حق, وظهرت محاولات عديدة لتوظيف تأثيره الضخم دعما لأفكار وافدة أو خدمة لتيارات دخيلة, ونحن نعتقد أن التدين أمر مطلوب خصوصا للأجيال الجديدة لأنه يسهم في تربية الضمير الوطني والأخلاقي, ويعزز نقاء الذات ونظافة السريرة.
ولاشك في أن موجات العنف التي شهدتها المنطقة تحت عباءة الدين- وهو منها براء- قد تركت أثرا سلبياعلي التدين الصحيح حتي أن بعض العائلات أصحبت تشعر بالقلق عندما ينتظم أبناؤها في أداء الصلوات أو يأخذون في التردد الدائم علي المساجد خشية أن يقعوا فريسة فهم خاطيء للدين أو تحسبا لاحتمال انخراطهم في تيار متطرف وهذا أمر يدعو الي الأسف ويوضح حجم الخسارة الفادحة التي حاقت بالمسلمين نتيجة تشويه تعاليم دينهم وتزييف حقائق تاريخهم, ولكن الذي أريد أن أجازف بالحديث عنه في هذا المقال هو ما سمعته من أرقام تقريبية عن نفقات التدين في مصر بدءا من بناء ورعاية دور العبادة- اسلامية ومسيحية- الي نفقات الحج وأداء العمرة التي بلغت أرقاما تحسب بمليارات الجنيهات سنويا, وليس لدينا شك في أن المسلم لابد أن يؤدي أركان الاسلام الخمسة حج البيت واحد منها( لمن استطاع اليه سبيلا), ولكن الذي ألاحظه في السنوات الأخيرة هو تحول هذا الركن الاسلامي العظيم لدي قلة من الناس الي نوع من السياحة الدينية المتكررة علي نحو لم يلزم به الدين الحنيف اتباعه, حتي أنني أذكر اتصالا تلقيته من أحد أصدقائي بالاسكندرية يطلب مساعدته في الحصول علي تأشيرة لأداء فريضة الحج لهذا العام, فلما سألته إن كان قد أدي الفريضة من قبل فعرفت أن هذه المرة الثامنة عشرة علي التوالي!, ولست أظن أن الاسلام قد أوجب شيئا من هذا التكرار لأن سبع عشرة حجة من هذه الحجات كان يمكن أن تعطي فرصة لسبعة عشر مسلما مصريا أو مصرية لأداء هذه الفريضة, أما عن العمرة فحدث ولا حرج, فقد جري التوسع فيها علي نحو غير مسبوق, حتي أنني لا أظن أن بلدا إسلاميا يسرف شعبه في القيام بها مثلما نفعل نحن المصريون, الي درجة أن رأس السنة الميلادية تحول هو الآخر الي مناسبة إسلامية يتجه فيها عشرات الآلاف من المصريين لقضاء ليلة عيد الميلاد بجوار الكعبة والبيت الحرام وهذا أمر لا بأس به أيضا إذا كان المقصد الوحيد هو التقرب الي الله والسعي لنيل شفاعة رسوله وتطهير النفس من أحزان الحياة اليومية, ولكن الذي يحدث بالفعل هو أمر يختلف عن ذلك, حيث أنه أصبح- في أغلبه- نوعا من السياحة التي يسعي اليها القادرون في ظل الأوضاع التي طرأت علي الاقتصاد المصري في العقود الأخيرة, كما أنني لا أري أن الاسلام أوجب علي المسلمين والمسلمات أداء العمرة مرة كل عام أو عدة مرات في العام الواحد كما يحدث الآن, فالإسراف الشديد في تكرار مرات الحج والذهاب الدوري لأداء العمرة ليست هذه كلها بالضرورة تعبيرا عن شعور ديني عميق بقدر ما هي رغبة اجتماعية ونفسية تعكس ظروفا اقتصادية متميزة, وتستنزف موارد الدولة من النقد الأجنبي, فما يملكه الأفراد هو في النهاية حصيلة جهد المجتمع كله, كما أنني لا أظن أن الخزانة السعودية في حاجة الي دعم من أموال الشعب المصري, وهنا يكون من المتعين لايضاح وجهة نظرنا- بغير لبس أو تأويل- أن نسوق الملاحظات الآتية:
أولا: إن تدين الشعب المصري واحدة من أبرز خصائصه الرائعة, وسمة يتميز بها, وقيمة يحرص عليها, ولكن ذلك كله يجب أن يكون محكوما بظروف الدولة التي ننتمي اليها مع إعمال شرط الاستطاعة الذي حدده الدين الحنيف لأداء فريضة الحج بحيث لا ينسحب سقوط التكليف بوجوب أدائها- لأسباب صحية أو مادية- علي الأفراد وحدهم ولكن الرخصة تنسحب في هذه الحالة علي الأمة بكاملها, بحيث تعتبر الاستطاعة قضية تتصل أيضا بالاقتصاد القومي كله.
ثانيا: إن السياحة الدينية هي أمر لا نرفضه في وقت نعلم فيه أن الآلاف يهرعون الي أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية والمصايف الغربية كل عام, فمن الطبيعي ألا نحرم علي راغبي السياحة الدينية علي الجانب الآخر لأنها لا تخلو من شعور روحي واحساس وجداني, ولكن الذي نناقش فيه هو ذلك الاسراف الذي يتجاوز الحدود لدي آلاف العائلات المصرية بتكرار زيارات العمرة ربما كل عدة شهور بصورة تشكل في النهاية عبئا علي الانفاق القومي المصري.
ثالثا' إن الاقتصاد المصري الذي استنزفت سيولته- كما يردد بعض الخبراء- مسائل فرعية وظواهر وافدة مثل نفقات التليفون المحمول والدروس الخصوصية والمساكن غير الكاملة, فضلا عن ما استنزفته بعض المشروعات الكبري من موارد مالية, أن هذا الاقتصاد الذي خضع لبرنامج اصلاح ناجح يجب ألا ينتكس ويتعين علينا جميعا أن نسهم في سرعة استعادته لعافيته الكاملة إلا أن ذلك لن يتحقق بغير دراسة كل المظاهر المتصلة بحجم الانفاق العام للدولة, ولاشك أن السياحة الخارجية- ومن بينها السياحة الدينية- تحتاج الي تنظيم يضعها في اطارها الصحيح.
رابعا: إن الاسلام العظيم الذي عني بالواقع الاجتماعي والظرف الاقتصادي الذي وصل الي حد تعطيل تطبيق الحدود في عام الرمادة, هو نفسه الاسلام العظيم الذي يرعي ظروف البشر وحاجات الناس, فكثير من الأموال الفائضة التي يجري انفاقها في مواسم العمرة- الرجبية والرمضانية وتلك المرتبطة بميلاد الرسول صلي الله عليه وسلم, بل وأيضا التي أصبحت مستحبة في ذكري ميلاد السيد المسيح عليه السلام- تحتاج الي وقفة تأمل لأن جزءا كبيرا من نفقاتها يمكن أن يوجه للأعمال الطوعية والجهود الخيرية وفي مقدمتها بناء المدارس نهوضا بالتعليم أو اعداد المستشفيات ارتقاء بالخدمة الصحية.
خامسا: إنني أقول قولي هذا وعيني علي صحيح الاسلام وقلبي مع جوهره الرائع وكل ما أريد أن أصل اليه هو أن ندرك جميعا أن ذلك الدين الحنيف الذي دخل في تفاصيل الحياة البشرية بدءا من الميلاد وصولا الي الوفاة مرورا بالزواج والطلاق والميراث هو ذاته الدين الذي جعل التفكير فريضة, والاجتهاد حق, والقياس رخصة, وهو الدين العظيم الذي رأي أن ما تجمع عليه الأمة يصبح ملزما لها, لذلك فانه من العبث تطويع هذه الأطر الرائعة لتلك الشريعة السمحاء خدمة لأهداف دنيوية عابرة تحت غطاء دين يتصف بالعمل علي سمو النفس والسعي نحو إعلاء الذات.
إنني أعلم أن كثيرا من المفاهيم الدينية والاجتماعية قد تشابكت علي أرض مصر, وأدرك أكثر أن المحظورات في هذا السياق قد تزايدت بشكل يدعو الي القلق, ولكنني أدرك في الوقت ذاته أن صحيح الدين يجب أن يسود علي هذه الأرض العجوز التي احتضنت الرسالات واستوعبت الثقافات وصنعت الحضارات, ولن يتقدم قوم علي الطريق الصحيح إلا بمناقشة كل القضايا بموضوعية مع فتح كل الملفات في أمانة وصدق, والانفاق الديني في مصر ليس هو القضية الفريدة ولا هو الملف الوحيد, ومع ذلك فلا تثريب علينا حين نطرح القضية أو نفتح الملف.
ويهمني هنا أن يكون واضحا أنني آخر من يفكر في استثارة الشعور الديني لشعب عرف التوحيد قبل غيره, ولكنني أريد فقط أن أقول الاسلام هو دين أممي سبق كل التوجهات الداعية الي العالمية بعدة قرون حتي أنه قد اكتسب مذاقا خاصة في مصر حيث إن الاسلام شعبها يختلف عن سواه في عمقه وقوة تأثيره, فمصر لم تمزقها الفرق الاسلامية ولا الصراعات الدينية لذلك فان بساطة تدين ابنائها يجب أن ترتبط بنظرة موضوعية لأسلوب أداء الشعائر علي نحو يتفق مع جوهر الدين وألا تمضي وراء مظاهر عابرة لا تنهض وحدها لكي تكون تعبيرا اسلاميا حقيقيا, وواقع الأمر أن مسألة الانفاق الديني لا تقف عند تنظيم الحج وترشيد العمرة ولكنها تتجاوز ذلك إلي ظواهر جديدة من التسابق في بناء المساجد والكنائس بشكل لا يبرأ احيانا من رغبة في تأكيد الذات علي حساب المشاعر الدينية الصادقة, واذا كان أجدادنا في مصر الاسلامية قالوا( ان ما يحرم علي البيت, يحرم علي الجامع) فان ذلك يؤكد الفهم المصري الواعي لمفهوم الاتفاق الديني وكيفية ترشيده, ولنتذكر جميعا أننا نلوذ في سياق ما ذكرنا بالنص الاسلامي الذي نرجع اليه عندما يقول( الأكباد الجائعة أولي بالصدقة من البيت الحرام), وقد يقول قائل إن الأكباد الجائعة واصحاب الاحتياجات الملحة أولي بالانفاق من كثير من مظاهر حياتنا المعاصرة ولا يقف الأمر عند حدود البيت الحرام وحده إذ إن احتياجات المصريين الروحية هي جزء أساسي من احتياجاتهم اليومية, فنحن شعب تشغل فيه القيم الروحية والانفعالات العاطفية مساحة واسعة من وجدانه وتحيزا واضحا في ضميره علي نحو ينعكس علي طريقة تفكيرة واسلوب حياته, لذلك فإنه يتعين أن نكون واضحين تماما بأن نقول إن الإنفاق باسم الدين ليس هو أول مايجب ترشيده ولكنه في الوقت ذاته يمثل قدوة علي طريق ترشيد الانفاق العام لاننا ننتمي الي دين لايحب( المسرفين) لكنه يدعو إلي سلوك الذين كانوا بين ذلك قواما وكل مانريد أن نصل اليه هو عملية تنظيم لاداء واحد من اركان الاسلام الخمسة ووضع حد للدوافع الإجتماعية التي أصبحت تحيط بعملية تكرار اداء العمرة علي نحو يستنزف قدرا من طاقات المجتمع المصري ويؤثر علي الإنفاق العام لموارد الدولة النقدية كل عام, ومانقوله عن الحج والعمرة لابد أن ينسحب بالضرورة علي كل من يتصل بإنفاق الموارد المصرية في الخارج بعد أن نزح قدر كبير منها خارج الوطن وأصبحنا في حاجة الي اعادة النظر الطوعي وبارادة الناس ورغبتهم, حتي يحتفظ الوطن بموارده ورصيد نقده الاجنبي, ولعلي أضيف هنا أننا ندخل عصرا جديدا في العالم كله يصعب فيه التدخل القسري في شئون الافراد اوالتشدد التعسفي في وضع الضوابط إذ إننا أمام نوع من الحوار الذاتي يريد أن يضع الدين الحنيف في مكانه الرفيع وأن يمنع كل محاولات استخدامه اجتماعيا واقتصاديا لخدمة أهداف قصيرة المدي مع التركيز علي الجانب الروحي للدين الذي لعب تاريخيا دورا حاكما في حياة الشعب المصري الذي هو- من هذا المنطلق- أول شعوب الأرض وأحق أمم الدنيا بالتطلع لزيارة البيت الحرام وقبر رسول الاسلام, إننا نريد فقط من كل من نال هذه الفرصة المباركة أن يترك مساحة لغيره حتي تتحقق أمنية أكبر عدد ممكن من المسلمين المصريين لاداء فريضة الحج مع ترشيد الزيارات المتكررة لاداء العمرة علي مدي العام خصوصا أننا بلد زاخر بمصادر الطاقة الروحية, فمصر هي التي لاذ بها( اهل البيت) في القرن الأول الهجري حيث تعلقت مشاعر المصريين باسمائهم واضرحتهم واحاطتهم بكل اسباب التبجيل ومظاهر الاحترام, ويجب أن نتذكر في النهاية أن الاسلام يضع العقل في المقدمة ويسمو بالمشاعر ويرقي بقيم, وليس أبدا دين تبذير أوتظاهر, حتي أن تعريف الايمان في الاسلام هو( ماوقر في القلب وصدقه العمل) وسوف تبقي مصر كما كانت دائما حصن الاسلام, وسوف يظل ازهرها الشريف قلعة لفقهه وشريعته الي أن يرث الله الأرض ومن عليها.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2000/6/13/WRIT1.HTM